في روايته الصادرة عن دار الريس للنشر في بيروت، يحكي فوّاز حداد عن بطل القصة؛ المترجم، الذي يقرر تغيير نهاية رواية يترجمها بنهاية أُخرى ظن أنها أكثر وطنية ومناسبة لقارئه المستهدف، وظل طوال الرواية يتخفى ـ هربًا من الانتقادات التي طالت "جريمته" – تحت أسماء وهمية، ضل طريقه بينها إلى شخصيته الحقيقية وعانى من انفصام عميق بدا كعقاب نفسي أو ربما جزاء من جنس العمل؛ خان القارئ فخانته نفسه.
أمين أم خائن؟
تُطلق عبارة "المترجم خائن" في الأساس بالنظر إلى أصل اللغة وبإيمان من أن التغيير في العبارة الأصلية خيانة يرتكبها شخص متمكن من اللغة قادر على ليّ أطرافها وتحويرها وإكسابها صيغة جديدة، فالكلمات ووقعها ومعانيها وقدرتها على التأثير كَمّ غير قابل للقياس.
يرفض المترجم الفلسطيني، صالح علماني، كُنية "خائن"، موضحًا أنه فيما يخص الاتهام فهو يظن أن العكس هو الصحيح، فالمترجم إن كان أمينًا اهتم بمراعاة القارئ المستهدف وأوصل له النص بحذافيره وإنما مُطوّعًا بلغة أدبية حبيبة إلى نفسه، ويُضيف موضحًا خلال إحدى فعاليات يوم المترجم، الذي نظمه المركز القومي للترجمة العام الماضي إن "الأمانة تتحقق عندما تتحقق قراءة العمل المترجم بالسلاسة والسهولة اللتين كتب بهما العمل الأصلي، وذلك حين لا يلحظ القارئ أن العمل مترجم عن لغة أخرى".
على الطرف الآخر، لا يُمانع المترجم السوري القدير جورج طرابيشي الوصف السابق؛ المترجم خائن، ويؤمن أن الترجمة هي تغيير واقتباس من اللغة الأصلية قد لا يضاهيها أي نص مترجم، ويؤكد ذلك في معرض حديثه في مقاله الأخير قبل وفاته والذي نُشر بموقع "أثير" عن ترجمته لفرويد والتي جاءت نتيجة لترجمة عن لُغة وسيطة؛ الفرنسية؛ "وأنتم تعلمون المثل الايطالي الّذي يقول: المترجم خائن Traduttore, traditore، وأنا إذ كنت أترجم عن لغة عن لغة فهي خيانة مزدوجة، ولكن كان هذا خيارأً لا بدّ منه لأنّه لا يوجد في الثقافة العربية، التي تهيمن عليها نتيجة الاستعمار السابق اللغتان الفرنسية والإنجليزية، من يتقن الترجمة عن الألمانية سوى قلة قليلة للغاية"
وأخيرا عن الصعوبات التي يلاقيها المترجم في إيصال النص الادبي، يفسر الكاتب الالماني يوهان فولفجانج جوته ذلك الأمر بأن ترجمة الأدب هو أمر أشبه بتغيير تربة النبات وإعادة زراعته في مكان مختلف عن منبته الأصلي "وبينما بعض الأعمال الأدبية تشبه ثمرة البطاطس التي تنمو في أي مكان، تأتي مؤلفات أخرى لكتاب آخرين أكثر حساسية، كالزهور الاستوائية، عصيّة علي النقل والانتقال".
المترجم الخائن في السينما .. طيب أم شرير؟
Lost in translation (ضائع في الترجمة)، العبارة التي تُطلق على الحائرين في تفسير تعبيرات ومصلحات من لغة يجهلونها، وهو في ذات الوقت اسم الفيلم الأمريكي الذي أخرجته صوفيا كوبولا عام 2003 وقام ببطولته بيل موراي، حول تداعي وتخبط البطل بين ثقافته الأمريكية والثقافة اليابانية تدور أحداث الفيلم.
الذي يعنينا منه دور المترجمة اليابانية والتي كانت تتولى ترجمة الحوار بين المخرج الياباني والممثل الأمريكي، تتعدد المشاهد التي ترسم حيرة المترجمة ما بين توصيل المعنى أو نص الحديث الموجّه من المخرج إلى الممثل بحذافيره، بوقعه الغاضب وما بين وجهة نظرها الشخصية في إيصال المُلخص أو المعنى من وراء القصد، غافلة بالطبع عن تفاصيل تقنية أراد المخرج توعية الممثل بشأنها أو منحه توجيهات بخصوص أداؤه ومشاعره.
المخرج: هل تفهم؟ استخدم مشاعرك، انظر إلى الكاميرا وقُلها بحنو، كما لو كنت تتكلم إلى صديق قديم، كما فعل بوجي في كازابلانكا.
كاواساكي (المترجمة): حسنًا، هو يريدك أن تلتفت وتنظر إلى الكاميرا.
بوب (الممثل): هل هذا كل شيء، يبدو أنه قال ما هو أكثر من ذلك.
تبدو مهنة المترجم هنا قاصرة، فهي غير واعية بتقنيات الحديث وأهمية تفاصيله، وتظن أنها قد ساعدت الأشخاص من حولها على التواصل، بينما قد أفسدت قدرتهما على التوافق طوال الفيلم؛ فالمخرج يرى أن الممثل سطحي لا يملك موهبة ولا يحترم توجيهاته، بينما الممثل عاجز عن فهم سبب ثورته فهو في الواقع ينفذ كل ما يصله من المترجم.
في The Terminal يقضي فيكتور نافورسكي (توم هانكس) شهورًا طويلة متنقلًا ما بين بوابات المطار الأمريكي ومرافقه، وذلك لعدم صلاحية تأشيرته الخاصة بزيارته للولايات المتحدة بسبب سقوط جمهورية بلاده إثر حرب/ انقلاب قام مباشرة بعد مغادرته، فأصبح بين بين، لا زائر ولا لاجئ وإنما مواطن من لا دولة. ولأن الدولة "المتخيلة" بالأساس تتكلم لُغة قريبة من اللغة الروسية، يعرض مسؤول منح التأشيرات بالمطار على نافورسكي صفقة لا يمكن رفضها؛ عليه أن يساعده في الترجمة أثناء حديثه مع مواطن يتحدث لغة مُشابهة للغة بلاده.
في المشهد الرئيس في الفيلم، يحاول فيكتور التحدث مع المواطن الباكي المستعطف ويسأله عن مشكلته فيخبره أن مسؤولي أمن المطار رفضوا السماح له بالعبور بدواء أحضره خصيصا لعلاج والده، بعد سماع ترجمة فيكتور، يرفض مسؤول التأشيرات سفر المواطن بالأدوية؛ فيستدرك فيكتور ويُخبره أنه في الأصل قد أخطأ في ترجمة غرض المواطن من السفر بالعلاج، وأن العلاج ليس لوالده وإنما لعنزة أليفة غالية على قلبه،
ينظر فيكتور إلى المواطن مُتحدثًا إليه بنظرة تطلب منه أن يؤمّن على إعادة تفسيره للأمر، مستخدمًا لغتين؛ لُغتهم الأجنبية التي لا يفهمها سواهم، ولُغة الإيحاء موحيًا له أنه يملك مساعدته وأنه عليه مجاراته. وبالفعل يفهم المواطن اللعبة ويتمكن في النهاية من السفر بالأدوية ممتنًا لنافورسكي بين دموع وضحكات.
تبلغ ذروة الفيلم بعد هذا المشهد، فيصبح فيكتور الدخيل على العاملين بالمطار، الهائم على وجهه، بطل المكان، الذي انتصر لضعيف يُشبههم.
فيكتور خان الترجمة في ظاهر الأمر، وإنما في نظر الآخرين كان بطل الرواية، مما يدفع بالنظرية لبُعد آخر، ويؤكد على نظرية علماني المُشار إليها في البداية، أن المُتلقي ربما يكون هو المسؤول عن تصنيف الترجمة ما بين خائنة وأمينة.
الترجمة الترامبية
أول ما يخطر بالبال عن خيانة المترجم هو الترجمة المحرّفة لقرار مجلس الأمن الشهير رقم 242، والذي نصّ على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة The Arabic occupied territories، والتي كان يُقصد بها سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة، بينما تم ترجمة القرار إلى الانجليزية تحت صيغة حذفت "ال" التعريف (the)، مما منح لإسرائيل فرصة الالتفاف على القرار وذلك بالانسحاب من أراض عربية محتلة؛ لا الأراضي العربية المحتلة.
في أحد أبحاثها بعنوان "المشاكل المتعلقة بترجمة النصوص السياسية"، تقول مكريستينا ساروسي مارديروز، الباحثة بقسم اللغويات التطبيقية في جامعة ترانسيلفانيا بالمجر "اعتبر علماء اللغة أن التعامل باللغة إنما يمكن ترويضه والسير بحرية وثقة بين متاهاته ببعض من الانضباط والانتباه واستخدام التقنيات المعينة وبالتالي الوصول إلى فهم تام وشامل للعبارة. وقد يكون هذا الرأي صحيحا فقط إن اعتبرنا أن الترجمة السياسية تتحمل التأويل والتحليل الاستنتاجي بدلًا عن كونها مجرد استخدام بسيط لمرادفات اللغات ونقلها كما تُتلي".
أثبتت التداعيات السياسية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية السابق احتمالية صدق نظرية علماء اللغة الذي أفردته الباحثة، وذلك في إطار تعامل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع اللغة الانجليزية بوصفها لغة يشتق منها مرادفات لمعجمه الخاص، حتى أن الصحافة الأجنبية قد أدخلت مصطلح جديد إلى اللغة يختص بترجمات تصريحاته الصحفية؛ Trampslation، وهو ما يعني ترجمة ترامب/ الترجمة الترامبية، مثلما حدث عندما استخدم ترامب للفظ "shithole countries", ، والتي وصف بها أوطان اللاجئين.
وقد احتارت صحف العالم إبان نشر تصريحاته في ترجمة المصطلح ، وبحسب موقع بيزنس إنسايدر، اتبع البعض طريق الترجمة الموصّلة للمعنى مثلما فعلت جريدة سانكي اليابانية عندما ترجمت المصطلح إلى "بلاد المراحيض القذرة"، بينما قررت جريدة أوسيرفاتور رومانو الصادرة عن دولة الفاتيكان تجاهل اللفظ القبيح تماما.
أما الناحية الأخرى فتجلّت في الموقف الأخلاقي للمترجمين،، تساءل ريناتو جيرالدس، وهو مترجم محترف من البرازيل، عن مدى استعداده لاستخدام تعابيره الخاصة لنقل تعليقات ترامب المهينة عن المهاجرين خلال حملته الانتخابية. ولم يكن متأكداً من قدرته على تكرار هذه التعليقات إذا اضطر لذلك.
وبحسب نفس المصدر، صرح المترجم الياباني المتقاعد كوميكو توريكاي، الذي اعتزل المهنة في الثمانينيات من هذا القرن أنه عندما يصدر المتحدث تعليقات عنصرية أو مثلا ذات طبيعة محرضة ضد النساء، تصبح وظيفة المترجم إشكالية للغاية؛ ذلك لشعورهم باستحقاق تلك التصريحات المدرية للشجب وبأنهم مخادعين ومنافقين بينما تجري تلك التصريحات المعادية للإنسانية على ألسنتهم.
وفي حالة ترامب، لا يتعامل المترجم مع نص التصريحات الترامبية، وإنما مع ادعاءاته وأخلاقه ولغته المشحونة عاطفيًا - وهذا بدوره يؤثر على الترجمات التي ينتجها.
في النهاية يظل المترجم حائرًا بين رغبته في نقل مشاعره الخاصة إلى النص ظنًا منه أن ذلك قد يُكسبه لونًا خاصًا أو علامة فارقة يميزها القارئ، وبين أن يقدم النص كما أُنزل بروح صاحبه متماهيًا فيه مستسلمًا لشطحاته ونزواته.