وسط سوق غنائي ممل يدور في فلك النسخ والتكرار، تسبب في دخول الأغنية العربية نفق استهلاكي مظلم لم سُجنت بداخله حوالي عقدين من الزمن؛ يأتي مشروع حمزة نمرة الجديد"ريميكس"، الذي يُعرض موسمه الثاني على شاشة التلفزيون العربي (يُبث من لندن)، لينير نقطة في هذا المشهد الفني الغائم منذ أوائل الألفية.
تعتمد فكرة برنامج ريميكس على إعادة توزيع وتنسيق بعض الأغنيات العربية التراثية المعروفة، وتقديمها إلى المستمع في صورة جديدة. في إطار هذا المشروع الموسيقي، طاف حمزة دولًا عربية كثيرة كي ينتقي أغنيات تنتمي إلى حقب زمنية مختلفة، بعضها يُصنّف على أنه فولكلور، وبعضها حديث نسبيًا.
تجربة إعادة الأغنيات التراثية ليست جديدة على المستمع العربي، لكنها ظلت لفترة طويلة تعاني من الجمود، فالفِرَق الكلاسيكية مثل فرقة الموسيقي العربية تعيد تقديم التراث بنفس صورته الأولى دون أي لمحة تجديد إلا فيما ندُر، لكن هذا هو عين مهمتها في حفظ التراث على كل حال. ولكن على الجانب الآخر من المشهد؛ تتعامل فرق الأندرجراوند المستقلة مع التراث باعتباره سلعة رائجة مضمونة النجاح، تُضفي بعض العمق على مشاريعها الموسيقية. لكنها أخذت من التراث ولم تُضِف إليه.
وفي الوقت الذي يتجه فيه غالبية المطربين إلى الموسيقى الغربية إما بالنقل أو الاقتتباس؛ قرر حمزة نمرة أن يسير عكس الاتجاه، فاعتمد في برنامجه على الغوص في التراث الشرقي العربي في محاولة إعادة إكتشافه من جديد.
رحلة موسيقية في الزمن
أخذ حمزة الجمهور معه في رحلة لمعرفة منابع الألحان الفلكلورية وتراث كل دولة، وأجرى مقابلات كثيرة مع مؤرخين وفنانين لمعرفة قصة كل لحن، وكيف وُلِد، ومن ساهم في انتشاره والتغييرات التى طرأت عليه حتي وصل إلي الجمهور. وخلال هذه الرحلة عرَّف نمرة الجمهور على قامات فنية لم تتجاوز شهرتها نطاق المحلية، في محاولة جيدة وجدية لتثقيف المستمع العربي موسيقيًا، وأعاد الروح إلى أغنيات أُهمِلَت عن عمد.
معالجة حمزة الموسيقية للأغنيات كانت جيدة في أغلب الحلقات، مقدمًا تنوعًا مدهشًا لم يعتمد على لون موسيقي واحد؛ بل اعتمد على ورش عمل موسيقية جمعته بموزعين وفرق تلعب أنواع مختلفة من الموسيقى لتبادل الأفكار وتوزيع الأدوار، حتي توصلوا إلي شكل جديد للأغنية التراثية المُقدّمة بمعالجة حافظت على روح الأغنية القديمة، وفي نفس الوقت قدمتها بأسلوب حديث يعتمد على العزف الحي أغلب الأحيان، وانتقل حمزة إلى الهواء الطلق لكي يقدمها مباشرة مع جمهور الشارع، الذي كان يتفاعل مع الموسيقي حتي لو لم يفهم كلماتها.
في تجربة ريميكس، استطاع حمزة نمرة أن يوسع شعبيته، ونجح في استقطاب جمهور جديد بعد أن ظلت تجربته محصورة في إطار جمهور معين أغلبه من الإسلاميين أو أتباع التيار المحافظ. وظهر بشكل جديد تمامًا عن الصورة التي زُرِعَت في ذهن بعض كارهيه بأنه مطرب الإسلاميين، أو على الأقل مطرب التنمية البشرية.
وين أيامك
لم يكن يتخيل أحد أن يتعاون حمزة نمرة المحسوب كفنان محافظ مع حميد الشاعري صاحب النجاحات التجارية الكبيرة، وبخاصة في إنتاج اﻷغنيات العاطفية والراقصة، وأن يكون التعاون في أغنية عاطفية من الدرجة الأولي.
لم يُخف حمزة أن حميد الشاعري كان له تأثير علي تكوينه الفني ولو بقدر ضئيل، بل لو مررنا على أغنيات حميد سنجد ملامح متقاربة إذ يغني كلاهما عن نفس المضامين، فالاثنان اشتركا في الغناء للوطن والأحلام والغربة، مع اختلاف طريقة التناول.
في حلقة حميد الشاعري غني حمزة أغنية "وين أيامك وين" التى تعود إلى التراث الليبي، ونالت شهرتها الكبيرة علي يد حميد في ألبوم رحيل.
استضاف حمزة في الحلقة الفنان المصري "على حميدة" بصفته خبيرًا في الفولكلور الليبي، وسرد حميدة قصة ظهور الأغنية من البداية. والحقيقة أن حمزة أثبت أنه يحترم كافة المشاريع الأخرى حتي لو أختلفت كليًا مع توجهه الموسيقي، وينفي من خلال برنامج ريميكس شبهة تعاليه على تقديم تلك الفنون، فغنى نمرة "وين أيامك وين" مع الموزع والملحن حميد الشاعري، الذي لم يتدخل في إعادة توزيع الأغنية مرة أخرى، وترك حمزة تلك المهمة للموزع "مصطفى نجم" الذي جعل حمزة يغني لأول مرة على إيقاعات EDM.
مال المقادير
ارتحل حمزة جنوبًا لكي ينهل من تراث فنان أخر كان له تأثير كبير عليه، وكما وصفه في الحلقة هو "الأب الروحي" الراحل أحمد منيب. حمزة كان ذكيًا في أختيار أغنية لم تحظ بشهرة واسعة مثل بقية أغنيات منيب، ونجح في أن يرد الاعتبار لها بعد أن ظلت مجهولة لدى كثير من المستمعين، رغم أن مطربًا شعبيًا معروفًا هو كتكوت الأمير قام بتقديمها، لكنها أخذت صيتها بعد ذلك من انتشار تسجيل لمنيب يغنيها في إحدى جلساته الخاصة.
تميَّز حمزة في أدائه للأغنية بشكل جعل من لا يعرفها يظن أنها تخصه. واستعان بفريق عازف الساكسفون نور عاشور لتنفيذ الأغنية معه. الاختيار كان ذكيًا جدًا. فالفرقة قليلة العدد وأعطته مساحة جيدة للغناء دون صخب موسيقي. أيضًا استفاد حمزة من نور عاشور الذي كان يعزف في فرقة منير ويجيد التعامل مع ألحان منيب (السلم الخماسي النوبي/ السوداني).
لم يمزج حمزة في هذه الأغنية أية أنواع موسيقية، فقط سيطرت الأجواء النوبية على الأغنية، فحافظ على خصوصيتها ووضح التأثُّر بنسخة منيب، لا نسخة كتكوت الأمير.
شلشل علي الرمان
حمزة ذو المزاج الفني الذي تتماس موضوعاته مع السياسة، عندما قرر النهل من التراث العراقي؛ اختار أغنية "شلشل على الرمان"، وهي أغنية سياسية في المقام الأول.
التراث العراقي مظلوم عربيًا ولا تقل قيمته وأهميتة عن التراث المصري أو الشامي صاحبا الصيت الأكبر. وربما يكون السبب في كونه لا يحظى بالانتشار اللائق، هو صعوبة اللهجات العراقية التي لا يفهمها المستمع بسهولة.
اختار حمزة أغنية حافلة بالإسقاطات السياسية، ذات لحن عراقي قح. وتفوق في أدائها مع تعديل بعض فقرات اللحن عن الأغنية الأصلية. الأغنية كلماتها صعبة جدًا على غير العراقي، لكن حمزة أدرك معانيها واستطاع أن يترجمها في غنائه. المعالجة الموسيقية كانت حديثة نسبيًا، تخلى فيها حمزة عن عوده وظهر بالجيتار بعد أن غير قليلًا في طبيعة اللحن، وكانت فرصة جيدة لإعادة إكتشاف التراث العراقي المُهمَل جدًا.
فنان ملتزم.. بحساب
في تجربة ريميكس قدم حمزة نفسه للجمهور بشكل مغاير عما اعتاده مستمعيه، وحرر نفسه من لقب الفنان الملتزم الجاد الذي التصق به فترة لابأس بها، وأدخله في دوامة من التصنيفات أغلبها سياسية وأخرى دينية؛ ظلمت تجربته الخاصة. بالإضافة إلى هيئته المحافظة التي لا تشبه نجوم الفن والغناء، فلم تُحسَب له تلك النقطة؛ بل جردته من لقب المطرب وسط جمهور يلفت نظره عضلات المطرب المفتولة والموضات وقصات الشعر أو "اللوك" الجديد الذي سيظهر به.؟ يخاطب حمزة جمهورًا لا يتعامل مع الموسيقيين انطلاقًا مما يقدمونه من فن.
المحير في الامر أن حمزة -المحسوب جمهوره على التيار الإسلامي- والذي يذاع برنامجه على فضائية يعتبرها النظام المصري معادية؛ استطاع اجتذاب جمهور ربما كان رافضًا لوجود نمرة وموسيقاه من قبل. ويبدو أنه كان لزامًا عليه أن يتمرد على مشروعه الفني حتى يجتذب شرائح جديدة من الجمهور اعتادت على رفضه أو تجاهله، بعدما نجح في إطلالته التي أطلقت سراح الفنان المتمرد بداخله، فتوسعت دائرة محبيه أو لنقل على الأقل أجبر الناس المختلفة معه على احترام مايقدمه في ريميكس.