هذه المراجعة لا تنوي حرق حبكة الرواية، وكل ما سيتم ذكره لن يتعدى ما هو معروف لكل من صادف النبذة المكتوبة على الغلاف الخلفي.
يقول الفنان بيلي كريستال على لسان "هاري بيرنز" ـ بطل فيلم عندما قابل هاري سالي When Harry met Sally "عندما أشتري كتابًا جديدًا، فإن أول صفحة أقرؤها هي الصفحة الأخيرة، وبهذا؛ فإن مت في أي وقت قبل إنهاء الكتاب؛ سأكون مرتاحًا لأنني عرفت كيف انتهى".
ربما أمثال السيد هاري بيرنز هم المعنيون حقًا بروايات الكاتب الفرنسي "ميشيل بوسي". نتحدث هنا عن روايته المترجمة أخيرًا إلى العربية، والصادرة عن المركز الثقافي العربي باسم "فتاة الرحلة 5403". تأتي الرواية في ما يقارب 575 صفحة، وتعني بحل لغز عسير تخبر عنه النبذة القصيرة التي يحملها الغلاف الخلفي.
تبدأ الرواية بمشاهد تسبق سقوط طائرة الرحلة رقم 5403، ويبدأ الفصل التالي بعد مرور ثمانية عشر عامًا على الواقعة المذكورة، ويعتمد الفصل على رواية المحقق المسؤول عن فكّ لغز القضية.
بعد عدة صفحات يزف المُحقِّق بشرى عظيمة للقارئ بأنه قد توصّل لحل اللغز، وهو حل واضح يسير ـ في رأيه ـ يستدعي فقط النظر بتمعن لصفحات الجريدة التي نشرت الخبر آنذاك. ثم تبدأ الرحلة مع مسيو بوسي عبر صفحات الرواية الطويلة، وبينما يستمتع الكاتب/ الراوي بتواتر الأحداث والتحليلات يتلاعب بك مقدمًا لك ما تظنه أنت دليلًا أو تلميحًا، ثم تنظر في أسى إلى الصفحات الباقية، مذكرًا نفسك بأن هذا بالقطع ليس دليلًا، وإلا لحُل اللغز وانتهت القضية، فما الذي عساه يملأ الصفحات الطويلة القادمة؟
تتسابق الشخصيات طول الرواية لحل لغز الرضيعة التي نجت من حادث الطائرة المذكور، وهناك عائلتان تتنازعان إثبات هوية الطفلة، ولكل دوافعه ورغباته؛ فهناك من يرغب في ضمّها إليه من باب التعويض عن الابن المفقود، ومنهم من يرغب في حل اللغز لتنتهي مأساته أو شعوره الدفين بالذنب الذي لا يقدم له الراوي تبريرًا، وهناك من أعياه البحث عن تفسير وخسر في سبيله كل غال ونفيس وودّ لو شعر أن حياته لم تضِع في البحث وراء أوهام.
عبر باريس واسطنبول وحتى كندا، يسهب مسيو بوسي في ذكر التفاصيل، كل التفاصيل ويقف على مسافة واحدة من أبطاله مستعرضًا تشريحهم النفسي، زلاتهم ودواخلهم، ويتدخل الكاتب على لسان شخصياته بتعليقات تفسر أبعاد شخصيات أخرى متورطة في الأحداث.
بذل الكاتب ميشيل بوسي جهدًا فائقًا في ترتيب تاريخ مقنع لروايته، عبر تضفير أحداث تاريخية حقيقية بأحداث الرواية، وتقدم كل تلك التفاعلات المتضافرة تفسيرًا لسلوك الشخصيات، إذ ينطلق أبطال الرواية من واقعهم (المتخيل) متأثرين بالوقائع التاريخية.
يتمهل الكاتب في غزل خيوط روايته، دون عجلة تستدعيها طبيعة الغموض والإثارة التي يتسم بها أدب الإثارة Thriller الذي تنتمي له الرواية، وتفرض على الكتاب في معظم الأحيان إيقاعًا لاهثًا. فكل شخص ساعد المحقق مثلا بمعلومة، يصفه ميشيل بوسي وصفًا دقيقًا وموحيًا، كل مبنى وطأته قدما أحد الأبطال؛ لا بد له من خلفية تاريخية، أو منظر طبيعي خلّاب يجدر وصفه.
قدرة الكاتب على الوصف وتمتعه بالنفس الطويل مذهلة، لا تقدر بثمن، خاصة مع وجود روايات تصدر بأحجام أقل تبعث على الملل من صفحاتها الأولى.
صداع تشويقي
النوع الأدبي الذي يقدمه بوسي ليس جديدًا، فأدب الإثارة الذي نرى فيه شخصيات معقدة ذات دوافع متباينة تحركها في محيط الجريمة أو الحادثة، هو نوع أدبي قديم نسبيًا، ويمكننا تقريب المسألة بذكر روايات أجاثا كريستي ودافني دو مورييه وباتريشا هايسميث، وهن كاتبات أسهمن في نقل أدب الإثارة والجريمة من منطقة كتابات التسلية الرخيصة إلى رحاب الأدب، واشتركن في كونهن هربن بذكاء من فخ إملال القارئ أو فقد اهتمامه قبل انتهاء صفحات الرواية وانكشاف اللغز.
يعيدنا هذا لمقولة هاري بيرنز التي بدأنا بها هذا الاستعراض، فلأمثال هاري بيرنز يبدع ميشيل بوسي مولف رواية "فتاة الرحلة 5403"، فعند اقترابك من ثلث الكتاب الأخير، ينتابك الغيظ من كثرة التفاصيل؛ هذا رجل لا يراعي حرق الأعصاب ولا يفهم المعنى الحرفي لأحر من الجمر. دان براون (مؤلف شفرة دافنشي) بجواره حمل وديع، رفيق بالقراء. بعض القراء وصفوا الرواية على موقع تقييم الكتب goodreads، بأنها "صُداع"، لا مجرد صدع في تاريخ الأدب التشويقي.
ولكن؛ إذا قادك نفاذ صبرك إلى استباق الصفحات؛ فستخسر حتمًا فضائل الاستمتاع بجو الرواية الممتع وبنائها الدرامي المدهش الذي تزيده ترجمة الأديب المغربي عبد المجيد سباطة جمالًا ورونقًا.
إجمالًا؛ الكتاب بالفعل تحفة أدبية لا تُفوّت، ولولا طول صفحاتها لربما عمدت إلى قراءتها مجددا قريبًا حتى مع انكشاف اللغز في الصفحات القليلة الأخيرة.
بقيت تفصيلة صغيرة، للراغبين في الاطلاع على الرواية بأي من نسختيها الفرنسية أو الانجليزية؛ ذلك أن الاسم الصادرة تحته الرواية بالعربية هو اسم تجاري، وذلك لارتباط الاسم الأصلي "طائرة بدونها" بأغنية فرنسية، والقارئ العربي في الغالب لن يدرك التلاعب اللفظي الذي قصده المؤلف في اسم الرواية الأصلي Un avion sans elle – إلا أن المترجم يفسّر بساطة هذا الأمر في أحد هوامش الكتاب ببراعة ـ ولهذا السبب تحديدًا أيضا صدرت النسخة الإنجليزية تحت اسم تجاري كذلك، وهو After the crash.