لن يجد المتمعن في تاريخ الإبداع البشري عبر العصور إلا المزيد والمزيد من الرجال في معظم مجالات الحياة، حيث يستحوذ الذكور على كل شيء، خاصة في مجالات مثل الرياضيات والفلسفة والموسيقى بينما يكاد ينعدم، إن لم ينعدم فعليًا، دور المرأة في احتلال مكانة رفيعة، ولا يترك الرجل للمرأة سوى بعض المهام التي يقول عنها - ويؤمن بما يقوله إيمانًا مطلقًا - إنها المهام التي خُلِقت من أجلها؛ الجنس، والحمل، وتربية الأطفال، والاهتمام بزوجها ومتطلبات المنزل، وكفى.
لم تظهر نسخة أنثوية توضع في مقابلة مع عظمة جاليليو ونيوتن وأينشتاين وغيرهم، فلماذا؟ ولماذا يُقَدَّر عدد الفائزات بنوبل بالعشرات، بينما يُقَدَّر الفائزين بها بالمئات؟ لماذا لم نسمع عن موسيقية لها اسم شامخ كأسماء موتسارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي؟ ولماذا لا يوجد فعليًا فيلسوفة واحدة حتى رغم أن كثيرات ينظّرن للفلسفة، ولكنا لا نجد أسماء لفلاسفة نساء في كتب تاريخ الفلسفة التي يكتبها الرجال، ويتوارثها من بعدهم رجال آخرون، ويعيدون الصياغات ويضيفون الفلاسفة الجدد، الذين لابد أن يكونوا بدورهم ذكورًا، لا إناث.
للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا أولًا أن نضع في الاعتبار مُقدّمة أساسية، مقدمة مقدَّسة، لا يمكن المساس بها أو مجادلتها أو تحطيمها، إنها مقدمة الإنسانية، فالنساء والرجال بشر، الرجل إنسان كما أن المرأة إنسان، لا فارق بينهما في النوع، ولا في الإنسانية، وعليه، يمكننا فقط الآن أن نكمل بقيَّة المقدمات الثانوية التي ربما تعطينا إجابة.
في إحدى مقالات كتاب النوع، الذي حرره كل من إيفلين آشتون وجاري أولسون، تحدثت الكاتبة بيتي رولِن في مقالتها "الأمومة.. من ذا الذي يحتاج إليها؟" عن ترسيخ فكرة الأمومة في عقول الرجال والنساء، جيلًا بعد جيل، منذ قديم الأزل، وفي الكتب المُقَدَّسَة، حتى وصفت الأمومة بأنها الأسطورة التي استقرت محطِّمة الأرقام القياسية لأطول الضلالات عمرًا في التاريخ.
تقول رولِن إن أسطورة الأمومة ظلت تتسحب بتخفٍّ في أمخاخ البشر، حتى أقنعت علماء النفس أنها إحدى الغرائز النسائيّة، وأن كل امرأة بالضرورة تشعر باحتياج غريزي لأن تصبح أمًا، وتربي الأطفال، فهي تعشق ذلك، ولكنها تقول "إن النساء لا يحتجْن إلى أن يُصبِحْن أمهات أكثر من احتياجهن إلى الإسباجِتي" وإننا لو وُجدنا في عالم كل من فيه يحبون تناول الإسباجتي، ويعتقدون أنهم بحاجة ورغبة إليه، فسنشعر نحن كذلك بنفس الأمر، وهذا ما قالت عنه رولِن "الرومانسية لوثت العلم".
بالطبع لا تريد رولِن للعالم أن ينتهي عن التكاثر ويندثر النَّوع البشري، ولكنها تُحَمِّل العالم مسؤولية اقتناع المرأة الراسخ، بأنها وُجِدت من أجل الزواج والحمل والوضع والرضاعة والتربية، وهي تصرخ بأعلى صوت أمام نساء العالم بأن يتوقفن عن ترويج تلك الفكرة، ولا يجعلنها محور الحياة، فحسب قولها إننا في زيادة سكَّانية مرعبة ولسنا مهددين بالانقراض إن امتنعت بعض النساء من التكاثر، وتفرغن لحياتهنّ وبدأن في صُنع التاريخ، كما يصنع الرجال.
وبغضن النظر عن رؤية رولِن، فهناك نماذج نسائيَّة كثيرة كُنّ لديهنّ حياة زوجية، وأطفال، ولكن لم تلهِهْن تلك الحياة عن النَّظر خارج إطار الأمومة، وأشهر الأمثلة ماري كوري ، العالمة الوحيدة التي حازت على جائزة نوبل مرّتين في مجالين مختلفين، ففي عام 1903 حصدت كوري مع زوجها بيير كوري والعالِم هينري بيركل، جائزة نوبل في الفيزياء لأبحاثهم المشتركة في دراسة ظاهرة الإشعاع المؤين، وكانت هناك نيَّة لتكريم بيير وهنري فقط، وبعد تظلُّم بيير، تم إضافة اسم ماري للجائزة لتصبح أول امرأة تفوز بها، حتى وَضَعَت ابنتها الثانية إيف كوري بعد مرور سنة واحدة فقط، ولم تكُفّ أو تكلّ أو تملّ، بل ثابرت حتى فازت بنوبل للمرة الثانية في الكيمياء ولكن منفردة هذه المرة عام 1911، لاكتشافها عُنْصُرَي الراديوم والبولونيوم.
الجدير بالذكر أن ابنتها الكُبرى إيرين كوري، المولودة في 1897 حازت مع زوجها على نوبل في الكيمياء، وربما يلاحظ المتابع أن ماري كوري قد حصدت نوبل وإيرين في الرابعة من عمرها، ثم وضعت مولودة ثانية، وليس عندها أدنى مشكلة من مشاكل الأمومة، والجدير بالذكر أيضًا أن عائلة كوري لم تكن بالثراء الفاحش الذي يجعلها توفر كل أساليب الراحة المطلقة، بل كانت تقوم بالتدريس في السوربون لتغطية نفقاتها بصعوبة.
ولكن ما يجب الوقوف عنده حقًا، أن جامعة كراكوف في بولندا رفضت التحاق كوري بها لمجرد أنها امرأة، كما أنها قُبَيْل فوزها الأول بنوبل، عندما دُعِيَت هي ووزوجها بيير في المعهد الملكي ليلقيا كلمة عن النشاط الإشعاعي، مُنِعَت كوري من القاء كلمتها لأنها أنثى، وسُمِح لبيير كوري زوجها فقط بالحديث. كل ذلك سيحيلنا إلى أن تلك المرأة واجهت في حياتها العديد من الحواجز والموانع التي اجتازتها، وثابرت من أجل الوصول لهدفٍ أسمى، كَي تقول للعالم إنها إنسان كامل يستطيع تعلم الفيزياء والكيمياء كالرجال.
سيحيلنا ذلك إلى إجابة أخرى، وهي الهَيمنة البشريّة الذكوريّة منذ الأزل، والتي كرست النظرة الدونية للأنثى، فالرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ في القرآن، ونَاقِصات عقل ودين في السنة، وخُلِقن من أجل الرجال ولم يُخلق الرجال من أجلهن في المسيحية، وخادمة وعبدة ونجسة في اليهودية، ومحتقرة ومُهانة عند اليونان، وليس لها روح عند الرومان، وفي مرتبة أدنى في الزرادشتية، وأسوأ من العواصف والموت والجحيم والأفاعي والسمّ في الهندوسية، وفي الثقافات كلها تقريبًا هناك تفضيل للذكر على الأنثى، بعيدًا حتى عن الأديان، لأن العقل الجمعي للبشر، قد تم تربيته منذ الصغر بصورة مُحدَّدَة، تعتبر المرأة أقل شأنًا من الرجل، ولها أشغال معينة في الحياة، ولا ينبغي لها الاقتراب من بعض المناصِب العليا، أو أن تفكر كالرجال.
في مقالة لفيرجينيا آدامز، بعنوان "الذكر والأنثى.. الاختلافات بينهما" وعلى لسان جون موني عالم النفس بجامعة جونز هوبكنر، قال "إن ما جاء في سفر التكوين كان خطأ، ففي البدء خلق الله حواء" مشيرًا إلى أن الميل الأساسي للجنين البشري هو أن يصبح أنثى، وإلا فيجب أن يضاف شيء ما للحصول على الذَّكَر. فالطبيعة تفضل المرأة، ولكن المجتمعات تنحاز إلى الرجل، وتتساءل آدامز "هل تختلف النساء جِذريًا عن الرجال؟" وتسوق الإجابات التي تلوح في الأفق، بين اختلافات ناتجة عن التكيف المجتمعي والتربية، وبين اختلافات تمليها الجينات، وبين اختلافات نتاج تفاعل معقد بين الوراثة والبيئة.
تصل آدامز إلى نتيجة مُهمَّة تتعلق بالتربية، فمِن المعروف تَقدُّم الأطفال الذكور في المهارات الحسابية والهندسية، وتَفَوُّق الفَتَيات في المهارات الكلامية واللغوية، ولكن بعض الاختبارات أثبتت عكس النظرية "فالأولاد المتميزين في استخدام الكلمات، وغير المتوافقين مع الأشكال، كانت أمهاتهم مسرفات في حمياتهم" وعلى العكس، فالبنات اللاتي أبرزن تقدم في الحساب والهندسة الفراغية، كانت أمهاتهن يتركهن للعمل بمفردهن.
أما دورسي سايرز فتوضح في مقالتها المعنونة بـ "هل النساء بشر؟" كيف أن المجتمع هو من أضفى صورة ذهنية لبعض الوظائف التي يمكن للمرأة أن تلتحق بها، وتمتهنها، كالغزل والنسيج والصباغة وحفظ الأغذية والتخمير، والتي احتلها مجتمع الذكور في عصر التكنولوجيا عن طريق إدارة المصانع، فهل نقول إن الرجل يقلد المرأة إن امتهن مهنة الطبخ مثلًا؟ فلماذا نقول إن المرأة تقلِّد الرجل إن ولدت بموهبة بأعمال بالميكانيكا؟ تتساءل سايرز قائلة "من العبث إقناعها بأن تمارس شيئًا آخر"، وإن كرهت الوظيفة وتركتها، فمن المُجحف أن نقول إنها تركتها لأنها أنثى لا تتكيف مع وظيفة ذكورية، بل إن المعقول هو القول بأن الوظائف كالجحيم بالنسبة لأي شخص، يمكن أن يتركها، ويمتهن أي شيء آخر، وذلك وارد بالنسبة للذكور، كما هو بالنسبة للإناث، ليس هناك فارق، بل المجتمع هو من يصنع الفارق، ويؤمن به، ويجعله محور حياته، ويربي الأجيال من بعده على ذلك، فتتوارث الرجال فكرة أن الرجل هو المطلق الأول، والوحيد، ومن بعده تأتي الأنثى، كي تخدمه، وترعاه، وتربي أولاده.
وعلى ذكر الرياضيات فها هي هيباتيا، فيلسوفة الإسكندرية بالقرن الرابع الميلادي، التي ضلعت في الرياضيات وعلم الفلك، وتبنَّت الأفلاطونية المحدثة، الأمر الذي كرهه رجال الدين المسيحي، واتهموها بالإلحاد والهرطقة، لا لشيء سوى أنها كانت امرأة، تريد أن تتعلم، وتعلم البشر من بعدها، فسَلَخوها، وبقت الاسكندرية من بعدها في عصور مظلمة، لمِئات السنين.
هذه النماذج وغيرها، مثل كلارا شومان، زوجة الموسيقار الكلاسيكي روبرت شومان، وهي مؤلفة موسيقية ألمانية، تأثرت بشوبان، ولها العديد من المؤلفات المنفردة للبيانو، ولمؤلفاتها طابع جميل، لا نستطيع أن نقول إنه قبيح لأنه قادم من امرأة، بل سيقول الذكوريون المحبُّون للموسيقى الكلاسيكية، إنها موسيقى فريدة، ولكنها أيضًا موسيقى سطحية، وهزيلة، ما إن يعلموا أنها من تأليف أنثى، اسمها كلارا.
والآن، ربما مازال هناك متسع من الوقت والأمل للمرأة، كي تُبهر العالم، ونأمل أن يأتي اليوم الذي تتساوى فيه الكفَّة بين إبداع المرأة وإبداع الرجل عبر التاريخ، بما أن النسبة العددية بينهما متساوية تقريبًا، وإن زاد عدد النساء في العالم عن عدد الرجال، ولكي نشعر بالمساواة الحقَّة بين الرجل والمرأة، فعلى المجتمعات أن تكف عن إيمانها المُجْحِف باختلاف المرأة عن الرجل في كل شيء، وأنها لا يُعتد بإنجازاتها؛ فتلك الرؤية الأحادية من شأنها أن تُنشئ أجيالًا، لتجد أن كل رواد الفكر والعلم والسياسة ليسوا سوى ذكورا، ويطمس التاريخ بدوره عظمة هيباتيا، وجمال كلارا، وعبقرية ماري، وآلاف غيرهن حتمًا تعمد المؤرخون عدم الاعتراف بهن، لأن كل واحدة فيهن، مجرد امرأة.
إنها دعوة لثورة المرأة على واقع أزلي، لا يمكن تغييره بين يوم وليلة.. ثورة على نفسها، كي تحقق - إن أرادت - ما حققته غيرها من إنجازات في حياتها، فهؤلاء كُنّ سيدات، خَلَقن تاريخهن الخاص، ودورنا نحن الذكور، أن نعترف بهن، ليس لكونهن إناثًا، بل اعترافًا بالإنسانية.