بدأت الطائرات هذا اﻷسبوع في الهبوط في مطار اسطنبول الجديد. على اﻷقل انتهت ألعاب التخمين حول اسم المطار-حيث أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان افتتاح "مطار اسطنبول"-وهذا (انتهاء التخمين) ما لا يمكن قوله حول المطار نفسه، فمباني الركاب ومهابط الطائرات اﻹضافية لن تتم حتى عام 2028. وحينها ستكون الطاقة المطلوبة للمطار باستقبال 200 مليون مسافر في السنة قد تحققت أخيرًا، وحينها ستؤهله مساحته البالغة 7594 هكتار (أكثر من 75 ألف متر مربع)، ليصبح أكبر مطارات العالم، تماما كما أراد رجب طيب أردوغان.
فسيتخطى المطار نظرائه؛ "هارتسفيلد-جاكسون أتلانتا" الذي تبلغ سعته 104 مليون مسافر، ومساحته 1902 هكتار، ومطار العاصمة الصينية بيكين (95 مليون مسافر، 1480 هكتار)، ومطار دبي (88 مليون مسافر، 2900 هكتار)، ومطار طوكيو هانيدا (85 مليون مسافر، 1214 هكتار). ويستعير تقرير للمديرية العامة للطيران المدني التركي من اﻷدب ليسمو بالطبيعة المستقبلية لمشروع أردوغان المميز قائلا "تشبه مباني الركاب مدنا رأسية، شبيهة بتلك المدن الخيالية التي يصفها إيتالو كالفينو في عمله الذي لا ينسى المدن الخفية". فمطار اسطنبول الجديد إذن يجسد مدينتها الخفية.
حتى مع هوس المجتمع الدولي والإعلام اﻷجنبي بتداعيات قضية جمال خاشقجي خلال اﻷسابيع الأخيرة، ينشغل الأتراك بالشؤون الداخلية، وبصفة خاصة بخطط رئيسهم الضخمة لتحويل تركيا إلى قوة اقتصادية إقليمية كبرى. ولكن الحجم الضخم لمشروع المطار الجديد والذي يعد بتحقيق هذه الرؤية قد أتى بثمن مرتفع، 12 مليار دولار، وفي وقت أزمة اقتصادية حادة.
فقد فقدت العملة التركية 35% من قيمتها مقابل الدولار منذ يناير/ كانون ثان 2018. مشروع المطار ومشروعي أردوغان اﻵخرين للبنية التحتية، جسر جديد في اسطنبول (يربط بين الجانبين الأوروبي واﻷسيوي من المدينة) والقناة الواصلة بين البحر اﻷسود وبحر مرمرة، يعتبرها البعض مبادرات غير عقلانية؛ ومن المشكوك به أن يتحمل أغلب اﻷتراك كلفة السفر جوا في الوقت الذي ارتفع فيه متوسط أسعار التذاكر بنسبة 106% خلال العام الماضي. ولكن أردوغان غير المبالي يدعو برامجه "مشاريع مجنونة" ويقول أنها ستساعد على رفع الدخل القومي التركي إلى تريليوني دولار بحلول عام 2023، وستنتشل تركيا من أزمتها المالية.
تحولات "مجنونة"
تحولات أردوغان الحادة مؤخرا في السياسات الاقتصادية حيرت المراقبين. فهو يدافع عن تخفيض معدلات الفائدة كعلاج للتضخم، بينما يقول الاقتصاديون أنه يسيء فهم كيفية عمل معدلات الفائدة. وهو يضغط ﻷجل سيطرة بلا منازع على السياسة النقدية، ويرى المحللون أن محاولاته تلك ستقوض استقلالية البنك المركزي التركي. في صيف هذا العام، وبينما انهارت قيمة العملة التركية بشكل درامي في خضم النزاع مع الرئيس اﻷمريكي ترامب حول قس أمريكي سجين في تركيا؛ أمر أردوغان بإنشاء قصر رئاسي صيفي على ضفاف إحدى البحيرات.
عندما صعد حزبه العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، بدأ أردوغان مسيرته متبنيًا البراجماتية (العملية) الاقتصادية، ولكن استجابته للأزمة المالية العالمية في 2008 وما صاحبها من ركود اقتصادي كان بالشروع في سياسة جديدة من السلطوية الكينيزية.
في 2011، قدم أردوغان مشروع إنشاء القناة بين البحر اﻷسود وبحر مرمرة باسم "قناة اسطنبول"، محولا تركيز الاقتصاد التركي نحو مشروعات البناء. وعند إتمام هذا المشروع عام 2023، فسوف يفوق هذا الممر المائي-البالغ عرضه 500 قدم، وعمقه أكثر من 80 قدم، وبطول 30 ميلا- كل من قناتي بنما والسويس من حيث الحجم، وسيحول المركز التاريخي لإسطنبول عمليا إلى جزيرة، وسيخفض معدل مرور ناقلات البترول عبر مضيق البوسفور الضيق. ويقول أردوغان أن هذا التحول سوف يسمح للبوسفور بأن يصبح "المكان الذي كان عليه قديما، أحد العجائب الطبيعية".
في القرن السادس عشر، كان السلطان العثماني سليمان القانوني يحلم بشيء مشابه. كانت قناة سليمان ستسمح للسفن بنقل اﻷخشاب اللازمة للبحرية العثمانية لتوسيع أسطولها بالبحر المتوسط، وبنقل الحطب لسكان القسطنطينية لتدفئة منازلهم. ولكن التحديات التقنية الهائلة حالت دون تحقيق هذا الحلم العثماني. وبعد أربعة قرون، قدم بولنت أجاويد، وهو سياسي يساري دعاه مؤيدوه بـ"الفتى اﻷسمر" بسبب لون شعره، مشروعا مماثلا. ففي حملته في الانتخابات المحلية عام 1994، روج لمخطط القناة على أنه "مشروعه الضخم"، ولكن 87% من الناخبين اﻷتراك لم يقتنعوا به.
ولكن في الانتخابات العامة في 2011، بعد شهرين من الإعلان عن مشروع قناة اسطنبول، حصل حزب أردوغان، العدالة والتنمية، على 49 % من اﻷصوات- مما جعله الحزب اﻷكبر بالبرلمان، وأعطى أردوغان نفسه سلطة لا منازع فيها. وحياه أنصاره باسم "الزعيم" فيما صفقوا "لمشروعاته المجنونة"، فسرعان ما أعلن عن مشروع آخر ضمنها وهو مشروع مطار اسطنبول الجديد الذي سيكون "أضخم مطارات العالم". وبعد عام، في مايو/ أيار 2012، وافقت وزارة النقل التركية على جسر ثالث في اسطنبول. هذا الجسر الجديد - الواقع على بعد عدة أميال شرق المساحة المخصصة للمطار الجديد- سيكون ثاني أعلى جسر في العالم وأحد أوسعها بميزانية تبلغ 2.5 مليار دولار. وسيربط المطار الجديد ومشروع القناة بالمدينة، وسيأخذ اسم سلطان عثماني آخر هو سليم اﻷول "المتجهم" أول من اتخذ لقب "الخليفة" بين ملوك الترك. وقد بدأ إنشاء الجسر في 29 مايو 2013، في الذكرى السنوية للفتح العثماني للقسطنطينية عام 1453.
هناك رائحة عطنة
منذ البداية كانت برامج البنية التحتية الضخمة هذه مثيرة للاهتمام لتفاعلها مع الديموقراطية، ففي أفضل اﻷحوال، كما هو الحال مع العهد الجديد لفرانكلين روزفلت، وبرنامج دوايت أيزنهاور لربط الولايات، يمكن لهذه المشروعات أن تكون تعبيرات كينزية عن اﻹرادة القومية. ولكن في ظل صورة غير ديموقراطية للكينزية، كما في تركيا الأردوغانية، تصبح تلك المشروعات رمزا للانزلاق إلى "اللا-ليبرالية". وقد كان شباب اﻷتراك أول من لاحظ ذلك، ففي اﻷسبوع الذي بدأ فيه إنشاء الجسر في مايو 2013 قام حوالي 100 من مناصري البيئة اﻷتراك، معظمهم في عشرينياتهم، باحتلال منتزه جيزي العام في قلب اسطنبول. وأقاموا خياما ورسموا جرافيتي دعائي للحفاظ على البيئة على الجدران ضد "المشروعات المجنونة".
استلهم اعتصام جيزي حركة احتلوا وول ستريت في عام 2011. وبمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي، امتدت الاحتجاجات إلى عشرات المدن التركية، وتزايدت أعداد المحتجين إلى حوالي مليونين خلال أسبوعين. ووضعت مجلة دير شبيجل اﻷلمانية صور محتجي جيزي على غلافها، وكان العنوان الرئيسي Beugt euch nicht "لا تنحنوا". واستجاب كاتب صحفي تركي بالتساؤل "لماذا آخذ جانب ألمانيا ولوفتهانزا وأقول لا لمطار إسطنبول الجديد؟" واعتبر كثير من المحافظين هذه الانتفاضة محاولة مدعومة من الخارج ﻹعاقة التطور الجديد.
في نفس الوقت، في يوليو/ تموز 2013، شكلت مجموعة المدافعين عن البيئة في متنزه جيزي منظمة الدفاع عن الغابات الشمالية NDF. وخلال اﻷعوام الخمس التالية على تشكيلها، أصدرت المنظمة مئات البيانات حول اﻵثار البيئية المتوقعة للمطار (الذي أزيلت لأجل إقامته غابات طبيعية). وعلى موقعها اﻹلكتروني نشرت المنظمة كتابا باﻹنجليزية تحت عنوان "مشروع المطار الثالث"، وترسم قراءة نتائجه صورة حزينة. فقد وثَّقت المنظمة أنه وِفق أرقام الحكومة نفسها، سيتم قطع 650 ألف شجرة، وستنقل 1.8 مليون شجرة أخرى أثناء عملية إنشاء المطار. وأشارت المجموعة أيضا إلى أن المطار سيُعرِّض 600 ألف طائر مهاجر للخطر في رحلاتهم خلال الربيع والخريف. وبعيدا عن تدمير موطن الطيور ومسارات هجرتها، فموقع المطار يجعل هذه الطيور مصدر خطر، لاحتمالات تصادمها مع الطائرات التي تستخدم المطار.
في 12 نوفمبر/ تشرين ثان 2013، في المدرسة الجديدة New School في نيويورك، قدم الفنان التركي بوراك أريكان مشروعا جماعيا لعرض البيانات يدعى شبكات المصادرة. ووثق المخطط ثلاثي اﻷبعاد العلاقات المعقدة بين المشروعات العديدة للحكومة التركية، وبين الشركات المنخرطة في تنفيذها.
وقد ربطت الخريطة أكثر من 600 شركة، و50 مؤسسة حكومية، و40 منظمة إعلامية بـ 500 مشروع، بما فيها جسرين، مركزين للمؤتمرات، تسعة سدود، 22 ميناء، ستة طرق سريعة، عشر مستشفيات، 25 فندق، ثلاث محطات طاقة نووية، ثلاث معامل لتكرير البترول، ثلاثة مباني دينية، 60 مركزا تجاريا، ومطار اسطنبول الجديد.
عُرض مشروع شبكات المصادرة في بينالي اسطنبول في عام 2013، وعرضت نسخة محدثة منه على حائط كبير في المتحف القومي لفنون القرن الحادي والعشرين MAXXI في روما من 2015 حتى 2016. وفي كلتا النسختين؛ ظهر مطار إسطنبول الجديد في قلب ملتقى للتربح لمشروعات عامة مع شركات خاصة، فهو مركز ما يدعوه أردوغان "تركيا الجديدة".
كشف مشروع المطار بصفة خاصة عن روابط وثيقة أكثر مما ينبغي بين الحكومة والمُقرِضين وشركات المقاولات. فالمتعاقد المحلي للمطار، وهو تحالف لخمس شركات، فاز بالعقد في 2013. وكي يقدم عرضه، حصل على قرض من ستة بنوك تركية. وذكرت بلومبرج في تقرير لها أن أحد البنوك أقرض المقاولين 1.5 مليار دولار، في حين قدم بنكان 966 ملوين دولار من كل منهما (قرضًا للتحالف الفائز).
على مر السنوات الخمس التالية، نفذ المال، فميزانية المشروع قد تضخمت وتخطت ما كان مقدرا لها بكثير. وفي إبريل/ نيسان 2018، طلب تحالف المقاولين 1.23 مليار دولار إضافية لإنهاء العمل على المطار.
كانت هناك أيضا شكاوى متزايدة حول ظروف العمال في الموقع. في أكتوبر/ تشرين أول 2016، ذكرت جريدة إيفرينسيل التركية الشيوعية أن العمال عاشوا داخل حاويات نقل مزدحمة وعملوا حتى 16 ساعة في اليوم. وشبَّه "منسق أمني" حاورته الصحيفة موقع البناء بالسجن. وادعت الصحيفة أن العمال تلقوا تعليمات محدودة حول الأمن الصناعي، وكان ثمة عدد كبير من الحوادث القاتلة، فقد سحقت المعدات عددا من العمال بالموقع، وسقط آخرون ليلقوا حتفهم. كما وقعت صراعات بين العاملين أيضا (بسبب ظروف العمل)، فلقي أحد العمال مصرعه عندما نشب قتال بين رجل في السادسة والثلاثين من عمره وبين زميل له داخل حاوية مما أدى إلى اشتعال حريق بها.
خرجت الشائعات عن عدد حالات الوفاة بالموقع عن السيطرة سريعا. وطلب عضو معارض بالبرلمان التركي استجوابا رسميا حول مقتل 400 عامل في موقع البناء. وفي فبراير/ شباط 2018، أعلنت الحكومة أن سبعة وعشرين عاملا، لا 400، قد لقوا مصرعهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ووقعت حالة الوفاة اﻷخيرة في يوليو عندما انقطع كابل ونش متحرك مسقطا موادا وزنها 30 طنا فوق كابينة الونش، حيث جلس مُشغِّله البالغ من العمر 52 عاما.
خلال العام الماضي، بدأت الحكومة حملة إعلامية لحشد الاهتمام الشعبي بالمطار. ونشرت وكالة اﻷنباء الحكومية "اﻷناضول" فيديو مصور في موقع البناء أظهر العمال وهم يستمتعون بلعب البلياردو، ويعزفون على آلات موسيقية ويرقصون، ويشترون القهوة في سوق مليء بالبضائع. ولكن عندما ألقت الشرطة القبض على 537 عاملا تظاهروا في الموقع احتجاجا على ظروف العمل، لم تذكر وكالة اﻷنباء الواقعة.
ونتيجة لها أمرت محكمة باسطنبول بالقبض على 24 عامل بناء وقيادي عمالي، خلال حملة الملاحقة التي ستستمر حتى محاكمتهم، وهو إجراء دعته منظمة العفو الدولية "محاولة وقحة للسلطات ﻹخراس الاحتجاج المشروع". ووفق هيومان رايتس ووتش، لقي 38 عامل على اﻷقل مصرعهم في "حوادث عمل كان يمكن الحيلولة دون وقوعها" في موقع بناء المطار، كما أصيب آخرون بإصابات خطيرة".
عيد ميلاد تركيا
في 21 يونيو/ حزيران من العام الجاري، قبل الانتخابات الرئاسية بثلاثة أيام، هبطت الطائرة الرسمية لأردوغان في المهبط اﻷول للمطار. وقبل هذا نشرت الصحف تقارير حول تزايد وتيرة العمل بالموقع ﻹنهاء اﻹنشاءات في موعد عيد ميلاد الرئيس الرابع والستين في 26 فبراير (2018). ولكن هذا الموعد لم يمكن الالتزام به. كما تأجل افتتاح خط مترو اﻷنفاق الذي يربط المطار بوسط اسطنبول، الذي كان مقررا له عام 2018، إلى عام 2019.
مطار اسطنبول اﻷول، الذي افتتح عام 1912 كمهبط طائرات، ثم في 1953 كمطار، جرت تسميته على اسم كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة. أما الثاني؛ الذي افتتح خلال عام أزمة مالية منهكة في 2001، فقد سمي باسم أول طيارة تركية، صبيحة جوكجين، التي كانت الابنة المتبناة ﻷتاتورك. ثمة أيضا مهبط طائرات في مدينة تدعى كاتالكا على أطراف اسطنبول، مسمى باسم هذارفن أحمد جلبي، وهو مخترع عثماني من القرن السابع عشر.
في كتاب رحلات بعنوان "سياحتنامة"، يدّعي الكاتب العثماني أوليا جلبي أن هذارفن طار فوق البوسفور بأجنحة صناعية في عام 1638، ويقول أوليا أن هذارفن "تدرب أولا بالطيران فوق منبر أوقميداني ثمان أو تسع مرات بأجنحة نسر، مستخدما قوة الريح" ثم -وبينما شاهده السلطان العثماني مراد من قصره- "طار [هذارفن] من قمة برج جلاطة وحط في ميدان دوجانسيلار في أوسكودار، بمساعدة الرياح الجنوبية الغربية". وجعل طيرانه السلطان فخورا وخائفا في نفس الوقت، فيدعي أوليا جلبي أن السلطان بعدما منح هذارفن صرة من العملات الذهبية، دعاه بالرجل المخيف "القادر على فعل أي شيء يرغب فيه" ونفى المخترع إلى الجزائر.
كان ﻷوليا المولود بعد موت السلطان سليمان العظيم (القانوني) بخمسة وأربعين عاما، أسلوبا مزخرفا في كتابه؛ ففي سياحتنامة، أمده خياله بأكثر مما أتاحته له ذاكرته. ومع ذلك، فصورة ابن اسطنبول الذي طار فوق البوسفور بأجنحة صناعية، لا تزال تطارد الخيال التركي. وقد طالب بعض الكتاب الصحفيين بأن يسمى المطار الجديد باسم هذارفن؛ وفضل آخرون اسم مؤرخه فطلبوا بأن يكون "مطار أوليا جلبي الدولي". الغالبية ضغطوا ﻷجل اسم أتاتورك، حيث أن مطار أتاتورك الحالي سيغلق أمام الرحلات التجارية بنهاية عام 2018. وبدأ اﻷتراك المحافظون حملة على شبكة اﻹنترنت لتسميته "مطار عبد الحميد الثاني" [آخر الخلفاء العثمانيين]. وكتبوا في عريضتهم أنه بذلك، "يمكن للمسلمين حين يحطون في اسطنبول الشعور بفرحة الوصول إلى مركز الخلافة".
في يوم أحد عادي خلال الشهر الماضي، حضرت غداءً عائليا في بويرازكوي، مدينة صغيرة شمالي اسطنبول على بُعد عدة أميال من المطار الجديد. في طريقنا إلى المطعم، تسلقت سيارة العائلة خلال تلال مرتفعة تغطيها بكثافة أشجار صنوبر الغابات الشمالية. كانت النوافذ مفتوحة، وكان الهواء منعشا وخال من التلوث. ومع قدوم الليل، أتى النسيم من البحر الأسود ولمعت اﻷضواء الحمراء لجسر السلطان سليم المتجهم، الذي كان في الخلفية. جرى ابن قريبتي ذو الأعوام الثلاثة إلى الشاطئ حيث لعب مع أعمامه وأخذ يصيح بفرح. فيما أشعل أحدهم نارا بالقرب منا. أخذ الصغار يستمتعون بمشهد البحر على ضوئها.
لقد استمتعت باللحظة ولكني عرفت أن هذه السكينة ستتلاشى قريبا. ففي 30 ديسمبر/ كانون أول، ستملأ قافلة من آلاف الناقلات جسر السلطان سليم بالصخب وهي تنقل معدات شركة الطيران الوطنية التركية من مطار أتاتورك إلى مبنى الطيران الجديد. وقد قارن المدير العام للخطوط التركية العملية بحمل العثمانيين لسفنهم فوق اﻷرض أثناء غزوهم للقسطنطينية في 1453. كما لو كانت مشاهد الطبيعة في الغابات الشمالية أرضا معادية تم الاستيلاء عليها أخيرا.
في رواية "ذات الشعر اﻷحمر"، الصادرة عام 2016 للروائي التركي الحاصل على جائزة نوبل في اﻷدب أورهان باموق، يتطلع تركي متوسط العمر صنع ثروته كمستثمر عقاري إلى اسطنبول من مقعد طائرته. مُحطَّمًا بالشعور بالذنب بسبب حادثة في شبابه أسفرت عن مقتل رجل. يتخيل رجل اﻷعمال رؤية جسد هذا الرجل في نفس المكان الذي لفظ فيه أنفاسه اﻷخيرة. ولكن شعور رجل الأعمال بالذنب يتعلق أيضا بما فعله بمدينة اسطنبول. وبينما ينشغل المراقبون العالميون بمقتل شخص، هو جمال خاشقجي، والغموض المحيط بمكان جثته، قد يشعر كثير من اﻷتراك في اﻷيام القادمة بحدة أكبر، بعبء هذا الذنب اﻵخر الذي يحمله رجل اﻷعمال.
ربما يكون مطار اسطنبول الجديد قد أضاف 225 ألف وظيفة إلى الاقتصاد التركي، وقد يرفع الدخل القومي بما يقدر بخمسة بالمائة في عام 2025، واستبدل مطارا متداعيا وغير كفؤ للمدينة؛ ولكن، هذا الدافع للنمو والربح قد أتى على حساب شيء لا يمكن استبداله. فبينما تستعد الطائرات التركية للهبوط على مهابط أكبر مطار بالعالم في المستقبل، قد ننظر إلى مدينة خفية، تلمع أضواؤها في المساء، ونتذكر أن مساحاتها المظلمة قد امتلأت يوما باﻷشجار العالية والطيور الجوالة، وبعائلات من الثعالب وقطعان من الخراف، ببحيرات رائقة وحقول خضراء لا نهاية لها- امتلأت بالحياة.