تحل الذكرى الـ 46 على حرب أكتوبر 1973، متزامنة مع إطلاق شبكة نتفليكس الأمريكية فيلم الملاك (The Angel) الذي يتناول قصة تخابر أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وسكرتير مكتب الرئيس الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، مع إسرائيل، وهي قصة مثيرة للجدل ما زالت الحقائق فيها غائبة، بين مزاعم تنوعت بين كونه مواليًا للمخابرات المصرية وأخرى تعتبره جاسوسًا لصالح إسرائيل، ورواية ثالثة تروج لحقيقة كونه عميلًا مزدوجًا يعمل وفق أجندته الخاصة.
واستندت أحداث فيلم نتفليكس إلى كتاب أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا يوري بار جوزيف "الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، والذي يؤكد، كنقطة انطلاق، أن مروان كان جاسوسًا مخلصًا لإسرائيل، ولم يكن عميلًا مزدوجًا كما يروج بعض رجال الاستخبارات الإسرائيلية؛ ويزيدون بأنه خدع إسرائيل بخصوص توقيت عبور القوات المصرية خط بارليف في حرب تحرير سيناء.
كما يكذب أيضًا الرواية المصرية بأنه كان وطنيًا وقدم لمصر خدمات عظيمة ونال بعد حرب أكتوبر وسام من الرئيس السادات لما قدمه من خدمات لم يتم الكشف عنها.
الثابت أنه وحتى الآن تحمل ملفات أشرف مروان في مصر طابع سري للغاية.
بداية مُبهمة
"الملاك" هو الاسم الكودي لأشرف مروان في ملفات الموساد الإسرائيلي، كما يشير الكتاب الذي جاء في 13 فصلًا، تبدأ بوصف الجنازة الرسمية لأشرف مروان بعد وفاته الغامضة إثر سقوطه من شرفة منزله في لندن يوم 27 يونيو/ حزيران 2007.
يعرف "جوزيف" أشرف مروان بوصفه واحد من أكثر الجواسيس كفاءة في التاريخ بسبب دقة تسريباته نظرا لقرب منصبه من مراكز صنع القرار، وقد أحسن الموساد استغلال ذلك وحافظ على مصدره وحماه بكل قوة.
وعلى عكس الكتاب الذي يوضح أن مروان كان جاسوسًا، فإن الفيلم حاول تقديمه بصورة مغايرة، كصاحب تصورات لصنع سلام مع إسرائيل، وصاحب رؤية سياسية ثاقبة ترى أن أوان الاعتماد على الولايات المتحدة من أجل التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل قد حان، مع رؤية استشراقية تقدم جمال عبد الناصر كرجل ضيق الأفق لا يريد سوى الحرب، متزعمًا مجموعة من الفسدة المتعتطشين للدماء، الأمر الذي أدى بمروان إلى اختيار التعاون مع إسرائيل.
يبدأ الفيلم فعليًا في لندن صيف عام 1970، يُجري أشرف مروان اتصالًا هاتفيًا بالسفارة الإسرائيلية كشخص مجهول يريد الحديث مع السفير الإسرائيلي مايكل كوماي، وعندما اضطر إلى تعريف نفسه قال "اسمي أشرف مروان، وعندي معلومات مهمة للمخابرات الإسرائيلية، أريد أن أتحدث مع السفير". لكن موظف السفارة لم ينتبه له، وأخبره أن السفير غير موجود وعليه ترك رسالة مسجلة، شعر مروان بالخوف وأغلق الهاتف.
ما قبل البداية
يستعرض الكتاب نشأة مروان منذ ميلاده عام 1944، متتبعًا أصوله التي تعود إلى محافظة المنيا، ثم التحاقه بكلية العلوم بجامعة القاهرة وحصوله على شهادة البكالريوس في الكيمياء عام 1965، ثم عمله في مصنع كيماويات تابع للجيش.
وكشاب متسلق من الطبقات الجديدة في المجتمع الآخذ في التكون بعد 1952، كانت أقصى اهتمامات مروان منصبّة على ملاعب التنس، وكان عضوًا في رابطة مشجعي نادي هيليوبلس، حيث سيلتقي هناك بمنى ابنة جمال عبد الناصر. وعلى الرغم من تحري رجال عبد الناصر عن مروان والكشف عن ميوله الانتهازية إلا أن الزيجة قد تمت ورفعت مروان إلى مراكز صنع القرار في مصر.
لعب المال جزءًا كبيرًا من قصة مروان - وهذا ما لم يذكره الفيلم- حيث دفع الموساد لمروان ما يزيد عن مليون دولار، بالإضافة إلى إشارة جوزيف إلى أن عبد الناصر كان رجلًا نظيف اليد، يرفض أن يتكسب أحد أفراد عائلته بشكل غير مشروع، ولكن مروان كان مدمنًا للعب القمار وشكلت ذلك نقطة ضعف كبيرة في شخصيته، وتكررت حوادث تورطه في ديون كبيرة لجأ في إحداها إلى سعاد الصباح زوجة عبد الله المبارك الصباح، الابن الأصغر لأمير الكويت من أجل سدادها.
كانت هذه السياقات التي حاول من خلالها بار جوزيف تحليل سعي مروان لجمع الأموال مستغلًا منصبه، مرة من خلال بيع ما لديه من معلومات للموساد، ومرة من جهاز المخابرات السعودية، عبر كمال أدهم، رئيس المخابرات حينها، وهو في الوقت نفسه صهر الملك فيصل، إذ كشف رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم موسى صبري –بعد انتهاء الحرب- شراء مروان أراضٍ باسم زوجته منى عبد الناصر وبيعها مرة أخرى، خصوصًا مع كمال أدهم، مقابل حصول عمولات نظير خدماته.
كل هذه التفاصيل تجاهلها الفيلم تمامًا، إذ بدا مروان مضطربًا ومشتتًا، ضعيفًا مهانًا أمام ضابط الموساد مائير مائير رئيس المكتب 6، وهو مكتب الأبحاث في المخابرات العسكرية الإسرائيلية المختص بمصر، وهذه الصورة تتناقض تمامًا مع الصورة التي رسمها بار جوزيف في كتابه لمروان كشخص يعتز بأناه.
وبحسب بار جوزيف فإن مائير وصف مروان بعد أول لقاء بينهما بأنه "متغطرس" يحاول التلاعب بالجميع من أجل أن يخرج منتصرًا وحيدًا في هذه اللعبة، خصوصًا بعد أحداث مايو 1971 التي انحاز فيها مروان دون تردد إلى جانب السادات، بل ووفر المستندات اللازمة للزج بقيادات مراكز القوى في السجن. وبعد استتباب الأمور، تمت ترقية أشرف مروان وتعيينه مديرًا لمكتب السادات.
صانع سلام أم جاسوس؟
اعتمد الفيلم على الروايات الشعبية في مصر وإسرائيل من أجل رسم صورة مروان كعميل مزدوج، وأبرز تلاعبه بالجانبين المصري والإسرائيلي، حيث يبلغ الجانب الإسرائيلي بأن موعد الهجوم المصري في تمام السادسة من مساء السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، بينما بدأ الهجوم في واقع الأمر في الثانية ظهرًا، دون أي إشارة لأي اتفاق مسبق بخصوص هذا الأمر.
لكن ما يذكره بار جوزيف في كتابه يختلف عمّا استعرضه الفيلم، إذ يذكر أن بداية التسريب كانت بسبب قرار شركة مصر الطيران تحويل مسارات رحلاتها القادمة إلى القاهرة صباح السادس من أكتوبر إلى مطارات الدول الصديقة، خوفًا من وقوعها في مرمي النيران، ورغم أن القرار ألغي سريعًا، فإنه كان قد وصل بالفعل إلى عدة مكاتب لمصر للطيران خارج مصر ومن بينها مكتب لندن.
كان محمد نصير هو المدير التنفيذي لفرع الخطوط الجوية المصرية في لندن وقتها -لاحقًا أصبح رئيس مجلس إدارة شركة فودافون مصر- أحد أصدقاء أشرف مروان، قرر أخباره بالقرار لمعرفة دلالة ذلك وإذا ما كان معناه قرب إعلان الحرب، تلقف مروان المعلومة واتصل بالقاهرة لتأكيدها، وفي المساء أوصلها إلى رئيس الموساد.
بالإضافة إلى ذلك، فقد سرب مروان خططًا حربية تدرب عليها الجيش منذ العام 1971، وهي نفسها التي نفذت في أكتوبر 1973.
وفي وثائق الكتاب بتاريخ 24 أكتوبر 1972، أخبر أشرف مروان الجانب الإسرائيلي بتفاصيل اجتماع السادات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقراره بحتمية الحرب حتى دون توافر أسلحة الردع السوفيتية، مع تقليص مراحل الحرب الثلاثة إلى واحدة فقط.
الجانب الإسرائيلي من جهته تأكد من صحة المعلومات ودقتها، حيث قام السادات بعد الاجتماع بيومين بإقالة المعترضين على القرارات الجديدة وهم وزير الحربية محمد صادق ونائبه وقائد البحرية. وكلف رئيس الأركان سعد الشاذلي بتعديل الخطط، ليقوم باستبدال الخطة "جرانيت 2" والتي كانت تهدف لتحرير سيناء بالكامل "للعملية 41" وهدفها الوصول إلى المعابر بوسط سيناء، ثم التعديل الأخير نتج عنه خطة "المآذن العالية" وهي تعتمد على تحرير عشرة كيلومترات فقط من الضفة الشرقية لقناة السويس.
كانت خطة المآذن العالية سرية للغاية حتى أنها لم تبلغ للسوريين، حتى لا يتراجعوا عن المشاركة في الحرب إذا عرفوا أن مصر لن تخوض الحرب للنهاية. أخبر أشرف مروان الاسرائيليين بهذا التغيير الجوهري في فكر السادات، لكن قادة المخابرات العسكرية الإسرائيلية لم يهتموا بهذه المعلومات ظنًا منهم أن المصريين لن يجرؤوا على بدء الحرب دون أسلحة الردع السوفيتية، والتي لن تصل أبدًا خصوصا بعد طرد القوات السوفيتية من مصر.
ذلك كله ينفي رواية الفيلم بأن مروان كان عميلًا مزدوجًا، اتخذ قرارات كشف أو إخفاء المعلومات بشكل منفرد، متأثرًا بالقصة التي يرويها أحد أساتذته في الجامعة عن جاسوس اسمه غابو عمل لصالح المخابرات البريطانية والألمانية في ذات الوقت خلال الحرب العالمية الثانية، لاقتناعه بأن عليه أن يعمل على إحلال السلام في الأرض بنفسه.
وأيضًا تنفي وثائق الكتاب رؤية الفيلم بأن إحلال السلام كان نتيجة رؤية شخصية لمروان، حيث أكد بار جوزيف أن مروان نقل محادثات أكتوبر 1971 بين السادات والسوفييت إلى الجانب الإسرائيلي، ونقلتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بدورها إلى الأمريكيين وقد تضمنت إحدى الرسائل وجهة نظر السادات بخصوص استعداده لسلام كامل مع إسرائيل بناء على هدنة روجرز التي تستند إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، لكن اذا لم تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل فإن مصر ستكون مضطرة لخوض الحرب، إضافة إلى التأكيد على أن جهود السادات تهدف لاستعادة مصر لأراضيها، وأنه لا يهتم بمصير القضية الفلسطينية تحديدًا. لكن اسحق رابين، سفير إسرائيل لدي الولايات المتحدة آنئذٍ، لم يوصل الرسالة خوفَا من ضغط أمريكي على بلاده من أجل المضي في السلام.
وطبقًا لرواية جوزيف فقد كانت أخر خدمات مروان في الحرب للإسرائيليين هو تسريبه لمحادثات وقف إطلاق النار، والتي جاءت في لقاء وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر كيسنجر بالسادات في اسوان، ثم تسريبه إحدى رسائل السادات وحافظ الأسد تتعلق بالموقف السوري بخصوص استئناف الحرب.
قفزة النهاية
بعد انقضاء الحرب، منح الموساد أشرف مروان 100 ألف دولار تقديرًا لمجهوداته الحاسمة اثناء فترة الحرب، في المقابل قرر السادات إخراجه من دائرة صنع القرار، ليوليه رئاسة الهيئة العربية للتصنيع، ثم جعله مندوب مصر في نادي سفاري الذي ضم فرنسا، مصر، السعودية، المغرب، إيران، والذي تأسس لمقاومة المد الشيوعي في افريقيا والشرق الأوسط. وبعد وفاة السادات، ينتقل أشرف مروان إلى الإقامة في لندن ويبدأ تأسيس إمبراطوريته المالية، حتى وفاته الغامضة هناك.
طرح الاختلافات بين سيرة أشرف مروان في الكتابة عن سيرته في الفيلم لن يصل بنا إلى رواية متماسكة إلا بعد سماع الرواية الرسمية لمصر، فلا أحد يستفيد من حجب المعلومات في هذه القضية أكثر من آلة البروباجندا الإسرائيلية، من أجل ترسيخ روايتها الخاصة في العقل الجمعي العربي، وتفتح مساحات كبيرة للتأويل.
لا تهمنا شخصية "الملاك" قدر ما تهمنا رمزيتها، التي تجعل من إسرائيل دولة استطاعت اختراق العمق العربي، باعتبارها دولة تسعى إلى السلام في منطقة بربرية تحب الدماء.