* هذه شهادة محامٍ تعرض لهجوم وتنمّر بسبب دفاعه عن مثليين جنسيًا في إحدى القضايا. تحتوي الشهادة على اقتباسات وردت على لسان من هاجموه، يتضمن بعضها ألفاظًا بذيئة.
كان هذا ملخص لحوار دار أمامي بين مجموعة من الزملاء المحاميين في عرس أحد أصدقائنا.
فوجئت بانقلاب الحوار بيننا من السخرية والتهكم عليَّ بسبب دفاعي عن المثليين جنسيًا، إلى التهديد الصريح والصارم، ما جعلني أشعر بخوف حقيقي خاصة وأن الشخص الذي قام بتهديدي كان يتحدث بجدية ولم يعترض أي من الزملاء الآخرين على ما قاله. رحلت بعدها على الفور، وما زلت أخاف من الذهاب إلى تلك المنطقة حتى الآن.
بعد عدة أسابيع وبالصدفة التقيت هذا المحامي، فجدد تهديده لي مرة ثانية بإطلاق النار عليَّ هذه المرة، وقال إن عليَّ أن "أعود إلى رشدي" وأتوقف عن الدفاع عن المثليين جنسيًا. مرة أخرى شعرت بالخوف ولم أستطع الرد عليه، وابتسمت ورحلت.
في المواصلات العامة ألتقي بمحامٍ زميل. أعرض عليه أن أدفع أجرة الركوب عني وعنه، يواجهني برده؛ "لأ ماتدفعليش حاجة. إنت فلوسك حرام من بتوع الشواذ".
لم أكن أتخيل على الإطلاق أن دفاعي عن المتهمين في قضية رفع علم الرينبو سيجعلني مهددًا بالقتل مرتين، أو سيعرّضني لهذا القدر من التهكم والتنمّر والسخرية البشعة، أو سيجعلني دائمًا في موقف دفاعي أمام الجميع.
"رائحة قوم لوط"
بدأت القصة في 25 سبتمبر/ أيلول 2017 عندما نشرت عدة مواقع إخبارية خبر القبض على سبعة أشخاص على خلفية واقعة رفع علم الرينبو في حفل مشروع ليلى في التجمع الخامس. توجهت إثر ذلك إلى نيابة أمن الدولة العليا ونيابة التجمع الخامس لاكتشف عدم صحة هذه الأنباء.
كتبت ما حدث على فيسبوك، ليتناوب الأصدقاء والمعارف التعليقات المتهكمة والعنيفة على شاكلة "أنا هوريك شغل الدواعش ده كويس"، "إنت راجل مؤمن ومينفعش تدافع عنهم عيب كدا"، "أنا بكره اليوم اللي عرفتك فيه"، "يا ريت تراجع نفسك، عيال خولات زعلوا منك ناس كتير ونظرة الناس ليك بقت مش كويسة"، "إني أشم رائحة قوم لوط".
في صباح الثاني من أكتوبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، ألقي القبض على أحمد علاء وسارة حجازي على خلفية رفع علم الرينبو في الحفل، عندها توجهت إلى النيابة لحضور التحقيقات معهم وأنا على يقين أنني أقوم بمغامرة مهنية غير مأمونة، غير أنني فوجئت برد الفعل الذي كان أكثر عنفًا مما تخيلته لدرجة منعي في إحدى المرات من دخول نقابة المحامين.
عقب حضور التحقيقات ممثلًا عن سارة وأحمد، خسرت أغلب علاقاتي الإنسانية مع الأصدقاء والمعارف، تعرضت للوصم ولعنف مجتمعي لم أتخيله حتى، بقيت دائمًا في موقف دفاع في مواجهة هذا الهجوم.
كانت البداية مهنية، فبعد تلك القضية ذهبت إلى غرفة النقابة في إحدى المحاكم الجزئية، التف حولي عدد من المحامين من أجل "نصحي وإرشادي"، جرى ذلك بطريقة فظة، وقيل لي إن عليَّ الكف عن الدفاع عن المثليين جنسيًا. قال لي أحدهم "طيب إنت زيهم. إنت بتاخد فيها زيهم، قول لنا، إحنا أولى". اتخذت بعد هذا الموقف قرارًا بالمواجه حتى النهاية.
ذات يوم كنت متوجهًا إلى النقابة، أحد المحامين شاهدني خارج أبوابها.
- "إنت رايح فين؟"
- "أنا داخل النقابة".
- "لا مش هتدخل النقابة دي طول ما أنا موجود، مش هتدخل".
استدعى الزميل زميلًا آخر، وتوجها إلى بعض الأساتذة المحامين من كبار السن ممن لا علاقة لهم بفيسبوك وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي، ممارسًا التحريض ضدي.
في النهاية تمكنت من دخول النقابة ولكن الأمر لم ينته هنا، فقد عمد المحامي الذي حاول منعي من دخول النقابة إلى تشويه صورتي بداخلها مع الزملاء الآخرين.
لم أعد أحتمل الأذى النفسي، شعرت وقتها أنني مضطر للمغادرة بعد أن بلغ التنمّر حد إلقاء عبارات مثل "إنت بتبألل"، "الخرم وسع أووي"، "معانا خولات في النقابة".
"مش عايز أعرفك تاني"
بسبب دفاعي عن سارة وأحمد انقطعت علاقتي بأصدقاء الطفولة في الحي الذي أسكن به.
بدأ الأمر برسالة عبر فيسبوك من أعز أصدقائي "أنا مش عايز أعرفك تاني، ماينفعش نبقى صحاب". في البداية لم أصدّق الرسالة، توقعت أنها أرسلت بطريق الخطأ وأنه سيصححها، انقضت الدقائق واحدة تلو الأخرى ولم تصحح الرسالة، فكان السؤال "إنت مش عايز نبقي صحاب تاني ليه؟ أنا عملت حاجة؟"، فرد "أيوة إنت بدافع عن الشواذ مينفعش يكون صاحبي بيدافع عنهم علاقتنا انتهت لحد هنا".
ثم حذفني من قائمة أصدقائه.
اعتدت سماع عبارة "لا أريد أن أعرفك مرة أخرى لأنك تدافع عن الشواذ"، بكل تنويعاتها وصياغاتها بالعامية والفصحى، من أصدقاء ومعارف وزملاء، وكذلك "هتقابل ربنا ازاي وإنت بتدافع عن قوم لوط. ده بلاء، إرجع عن اللي بتعمله حرام عليك".
هؤلاء من واجهوني. آخرون حذفوني من فيسبوك وأشاحوا وجوههم عني عند اللقاء.
بعض معارفي لم يقاطعوني، اعتدت قضاء الوقت معاهم، مرات على المقهى ومرات نتجول في شوارع القاهرة. هؤلاء، لا يتحدثون وأنا معهم سوى عن المثليين وقضاياهم، بطريقة ساخرة وعدوانية، السخرية والعدوانية لا تتناول المثليين فقط بطبيعة الحال ولكن أيضًا تمتد إلى من يدافعون عنهم.
ذات مرة كنا نتجول على كورنيش النيل فاشترينا ذرة مشوية.
- "يا عمرو، ما تجرب الدرة دي كدا؟ كبير وتخين وهيعجبك أوي، ولا إنت بتحب تاخد مقاس معين؟".
- "وأنا آخده ليه أنا مالي؟".
- "مش إنت خول يا ابني وبتدافع عن الخولات؟ بتحس بإيه بقى لما بتاخده يعني أنا عايز أعرف الموضوع مختلف ولا إيه؟".
في هذه اللحظة انفجرت ببكاء هستيري. اعتذر الأصدقاء "إحنا مش قصدنا يا عم، مش إنت اللي بتدافع عنهم؟ يا عم إنت مالك ومال الناس وإيه اللي عايد عليك بس طالما نفسيتك بتتعب؟".
حتى تلك اللحظة كنت خسرت 90 بالمئة من أصدقائي وتجنبت البقية بسبب الأذى النفسي الذي أتعرض له، ولم يبقَ سوى المعارف.
أحد هؤلاء المعارف سألني ذات يوم عن سر دفاعي عن المثليين، واستنتج إنني مثلي "اشمعنى يعني، إنت أكيد منهم". حاولت أن أشرح له أنني لو كنت مثليًا كنت سأعلن ذلك فأنا لا أرى الأمر عارًا، فكان رده "يعني إنت عايز تقنعني إنك بتدافع عن خولات وإنت مش منهم؟ طيب إيه مصلحتك؟ ماتزعلش مني إنت أكيد خول زيهم".
تحولت إلى شخص لديه ميول عنف مفرط، عصبية، وكبت لا أستطيع البوح به لأحد ولا أجد طريقة لإخراجه سوى الدموع التي لم تتوقف طيلة تلك الفترة. صرت أميل للعزلة أقضي وقتي وحيدًا لا أريد أن ألتقي بأحد.
في كل ما سبق من حالات لم يدافع عني أحد من أصدقائي أو من زملاء مهنتي قبل أن تنقطع علاقتي بالجميع، سوى شخص واحد ولم يسلم مما أتعرض له من أذى وتنمر. من لم يشارك في التهكم والسخرية التتزم الصمت.
كيف خسرت البقية الباقية
لم تعد الهند تجرّم المثلية الجنسية. كان هذا خبرًا تداولته المواقع الإخبارية، فشاركته على فيسبوك. بعدها خسرت العشرة بالمئة المتبقين من أصدقائي.
آخر من خسرتهم اتصل بي تليفونيًا ليخبرني أن هناك 15 محامٍ اتصلوا به يشكون ما أقوم به وتساءلوا "إيه آخرتها معاه؟". سألته "يعني آخرتها إيه؟ هم ناويين يعملوا إيه؟"، فرد أنهم لن يفعلوا شيئًا "بس اللي إنت بتعمله ده غلط".
ليلًا اتصلت بهؤلاء الأصدقاء وكان من بينهم شخص استهزأ بي في تعليقاته على خبر إلغاء تجريم المثلية في الهند، فلم يرد أي منهم. بعد أيام صعدت إلى الطابق الثاني في المقهى حيث اعتدنا اللقاء، ففوجئت باستقبال باهت، نظرت اليهم باستغراب ولم أصدق ما يجري، تركتهم ونزلت الدور الأول وأنا أقول لنفسي "أكيد حد فيهم هينزل يصالحني دلوقتي"، "دول صحابي اللي عارفينّي مش هيسيبوني زعلان".
اقرأ أيضًا: كيف ستفشل "حرب الهوية" ضد المثليين في مصر
للأسف كنت مخطئًا. عرفت حينها أنني خسرت من تبقى من أصدقائي.
تحولت من محامٍ حقوقي يدافع عن المثليين جنسيًا بسبب نبذهم والتنمر الذي يتعرضون له، إلى ضحية لهذا النبذ والتنمر، ضحية مهدد بالقتل إذا توجهت إلى أحد أحياء القاهرة، دائمًا في موقف دفاعي يحاول أن ينفي عن نفسه المثلية وكأنها تهمة، في مواجهة مجتمع مريض.
لم أندم لحظة عن دوري الذي قمت به في قضية علم الرينبو، ولو تكرر الموقف ثانية فلن أتردد في القيام بنفس ما قمت به، سأظل مدافعا عن جميع حقوق الإنسان ومنها حقوق المثليين. لن أتراجع خطوة للوراء.
اقرأ أيضًا: "المصيدة".. انتهاكات السلطة لمعاقبة المثليين