تجلس مع أصدقائك على المقهى ليلًا بذهن غير صافٍ لأنك مضطر أن تذهب في صباح الغد إلى عمل مجبر عليه لتعيش تحت ضغط احتياجاتك الأساسية، تعمل لساعات تتجاوز الثمان، تنهكك الطموح والأحلام، وتشعر بالكبت والقهر.
دعك من هذا وذاك، هل تحتقر الكسل، والبطء، والاستمتاع الطويل، الطويل جدًا بمباهج الحياة؟
إذا كانت إجابات معظم الأسئلة "نعم"، إذاً أنت فقير.
ما هو الفقر؟
تُعرّف الحكومة الأمريكية الفقر بأنه العتبة التي يعيش تحتها عائلات أو أفراد يفتقرون إلى الموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية للحياة الصحية، إضافة إلى وجود دخل غير كاف لتوفير الغذاء والمأوى والملابس اللازمة للحفاظ على الصحة.
لكن إذا بحثنا عن تعريف محدد للفقر لدينا سنصل إلى إجابات أخرى، تجعلنا نعيد النظر في الفقر كحالة نفسية واجتماعية وسياسية.
نختبر الفقر بأشياء نعرفها كالحياة تحت ضغط الاحتياجات الضرورية من فواتير الإيجار والكهرباء والطعام وتأجيل احتياجات لسنوات مثل الجنس. وأخرى نجهلها مثل عدم القدرة على التفكير طويل الأمد، وفشل معظمنا في تطوير مهاراته، والعجز عن تغيير أماكن عملنا.
في تلك الحالة التي لا يوجد بها تعريف واضح للفقر فإنه يخلق ما يُعرَف بـ"عقلية الندرة"، أي طريقة التفكير المرتبطة بقلة الموارد المالية بالأساس، تلك الصفة اللصيقة بالفقراء في الثلث الأول من حياتهم على الأقل.
عقلية الندرة
يطرح البروفيسور شهرام حشمت في مقال له على موقع "سايكولوجي توداي" تساؤلات حول مفهوم الندرة؛ ماذا يحدث لعقولنا عندما ندرك أنّ لدينا القليل جدًا من الموارد؟ كيف يُشكّل هذا السياق خياراتنا وسلوكياتنا؟، إنها ليست مجرد قيود مادية، الندرة تؤثر على تفكيرنا ومشاعرنا، وتُوجَّهنا بشكل قوي حيال احتياجاتنا غير المُلبّاة مثل الطعام والجنس، وأحيانًا يتخذ الفقر شكل العزلة الاجتماعية، وعدم وجود أصدقاء.
ثمة جانب إيجابي من الندرة، بحسب حشمت، وهو زيادة قدرتنا على تحديد أولوياتنا، الندرة تخلق هدفًا قويًا يتعامل مع الاحتياجات الملحة، ويتجاهل الخيارات الأخرى، مثل الانحرافات، تصبح أقل إغراءً للأفراد الذين يعيشون في حالة ندرة، ويميل الطلاب الجامعيون إلى الاستفادة كأقصى ما يمكن من وقتهم قبل التخرج.
وتساهم الندرة أيضًا، وفقًا لمقال حشمت، في أنك تعيش حياة مثيرة للاهتمام وذات مغزى، يقول البروفيسور تود ماي، عندما يكون هناك دائمًا وقت لكل شئ، لا يوجد حاجة مُلِحّة لأيّ شئ، الحياة بلا حدود تفقد جمال لحظاتها، وتصبح مُملّة، ويُشَبّهها بما يحدث في أزمة منتصف العمر، نتوقف عن الشعور بأنّنا يمكن أن نكون شيئًا، ونفعل أي شئ، ونختبر كل شئ، ونُعيد هيكلة حياتنا حول الاحتياجات الضرورية.
لذلك، فإن الجوانب السلبية في الندرة أنها تجبرك على المساومة مع الواقع، لن أتزوج حتى أحقق كذا، لن أستمتع بما لدي من مال لأستفيد به في تحسين مستواي المهني، ويسمي الاقتصاديون تلك القرارات بـ"التكلفة البديلة".
ستجعلك "عقلية الندرة" تركز على الأمد القصير الذي ينجيك "أحيني النهاردة وموتني بكرة"، وتفشل في التحكم في النفس، وتبدأ في الإقدام على التضحيات، فأنت ملتزم بدفع إيجار منزلك، تقترض، وتؤجل دفع فواتيرك، وتعد الأيام المتبقية على قدوم راتبك، كل ذلك يدفعك إلى مقاومة إغراءات كثيرة، وكلما زادت الإغراءات تضاءلت قوة إرادتك، مما يجعلك أقرب إلى الاستسلام، بحسب حشمت، لذا يفشل الفقراء كثيرًا في التحكم بعادات مثل التدخين.
المعنى والهدف بدلًا من السعادة والمتعة
شيجييرو أويشي من جامعة فرجينيا للطب النفسي درس الرفاه، يقول في دراسة له استعرضها مقال بموقع "نيويوركر" إن الأفراد في الدول الغنية يبدون أكثر سعادة منهم في الدول الفقيرة، ولكن من جهة أخرى، الأفراد في الدول الفقيرة يميلون إلى رؤية الحياة أكثر معنى.
وفي استطلاع سنوي لمؤسسة جالوب أُجري في مائة وثلاثين بلدًا، حول العلاقة بين ثروة البلد ورفاهية المواطنين، خلص الباحثون أن الناس يكونون أسعد عندما تُلبى احتياجاتهم وغرائزهم في الحاضر، ولكن هذا الإشباع الفوري لا علاقة له بأن تعيش حياة لها معنى.
يميل السعداء، بحسب مقالة أويشي، لأن يتحدثون عن حياة سهلة، وصحة جيدة، يستطيعوا أن يشتروا ما يريدونه بدون توتر مالي، بينما الناس الذين يشعرون بالمعنى في حياتهم، يميلون إلى اختبار إشباع العلاقات الاجتماعية، وينخرطون في فعل الأعمال الخيرية، يعتنون بأطفالهم، يفكرون في الكفاح والتحديات، ويُصلّون.
وربما لأن الفقر يُجرّد الناس من السعادة في المدى القصير، فإن أشياء مثل الروابط الاجتماعية، والمعتقدات الدينية تمنح الفقراء إحساسًا بالهدف، وتجبرهم إلى النظر بعيدًا للتركيز على العلاقات التي لديهم مع أطفالهم، وآلهتهم، وأصدقائهم، والتي تصبح لها معنى أكثر بمرور الوقت.
أي أن الفقراء لا ينظرون إلى المدى البعيد بطريقة نفعية، يضعون أهدافا طويلة الأمد، ولكن بطريقة عاطفية، يقدرون العلاقات طويلة الأمد، مثل الزواج المستقر، أصدقاء العمر، والممارسات التي تمنح حياتهم معنى مثل الطقوس الدينية، والواجبات الاجتماعية.
الفقر ظاهرة معقدة
لا يمكن عزل الفقر أو حالة الندرة عن منظومة الحياة الاقتصادية؛ ففي المجتمعات الرأسمالية الحديثة يدخل المال في نسيج علاقاتنا الاجتماعية ليفسدها، ويخلق منظومة قيم مرتبطة بالمصالح، وفق رأي مايكل ساندال، أستاذ فلسفة في جامعة هارفارد، فإنه بمجرد دخول المال إلى نسيج حياتنا الاجتماعية، سواء في التعليم أو الخدمات الطبية، أو العلاقات الجنسية، يرغمنا على أن نكيف علاقاتنا الاجتماعية مع النموذج الاقتصادي، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إفساد علاقاتنا الإنسانية، فيتحول الزواج إلى ما يشبه سوق النخاسة، والمغازلة إلى حالة بغاء، وقيم الصداقة والأخوة إلى رابطة المنفعة والمصلحة.
كذلك إذا دمجنا حالة الندرة في المنظومة السياسية لمعظم الدول النامية، حيث يسود الحكم المافياوي على أنظمة الحكم الرشيد، نجد أن الاستغلال الذي نقع في أسره، يُشكّل الكثير من سلوكياتنا وعلاقاتنا.
يجمع الدكتور مصطفى حجازي في كتاب "مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" آليات سلوكية تتخذ أنماطًا عدة للأفراد الذين يعيشون في مجتمعات تتعرض للفقر والقهر.
العلاقات يغلب عليها المستبد والمستضعف، المتع تتخذ شكل السادية "التلذذ بإيذاء الآخرين"، أو المازوخية "التلذذ بالتعرض للأذى"، أو كما يُقال: "يا تركبني يا اركبك".
تقليد القوي في أسلوب معيشته، لكنته التي يتحدث بها، ولغة جسده، تخيل أن سارقيك وناهبيك موضع إعجاب وتقليد من المنهوبين!.
الشعور بأنك مفعول بك طوال الوقت، دينيًا أنت تؤمن بالقضاء والقدر، وهو التفسير المقبول والمريح لوضعك الاقتصادي والاجتماعي، تُفسّر الأمور بطريقة خرافية، مثل البركة، والحظ، واستجابة الدعوات، لقد تضاءل شعورك بالفعل وبالقدرة.
للفقر بصمات أخرى
يقدر معظم الفقراء أشياء مفاهيمية مثل الشرف والأخلاق والدين، تشكل تلك هويتهم الاجتماعية، حتى لو اخترقوها سيخترقونها سرا، رأس مال الفقير شرفه، هذه الكلمة التي اعتبرها الروائي المصري ألبير قصيري بلا معنى، ومن اختراع الأغنياء.
تجاربهم الاستمتاعية قليلة، خاصة غير الشرعية مثل المخدرات والجنس، وذلك يعزز في شخصياتهم الجانب "الإبقائي"، كل القيم التي تعزز بقاءه، وأنماط تفكيره، ومشاعره، أكثر من التي تعزز نوعية حياته، قيم مثل الالتزام، وتحمل المسؤولية، والصبر، أكثر من العفوية، والصدق، والاستقلالية.
الفقر يجعل من وعود الحياة والحضارة نجومًا جميلة وبعيدة وشاعرية، عيوننا مُعلّقة عليها، وعلى الأرض تعيقك الظروف والتحديات وتضاربها، تريد الزواج وتكوين أسرة، وأن تعيش البطالة فترة، وتستمتع بالكسل، وترغب في دورات ألماني للعمل في البرمجة بفرانكفورت، هنا تدخل ظاهرة يسميها المفكرون "عبادة البطل".
صديقتي مدرسة 31 عاما تكافح من أجل البقاء حية ومرتاحة ومشبعة فميًا وجنسيًا، تتوحّد مع نانسي عجرم، تلك المرأة التي يتقاطر من أجلها أصدقاؤها الشباب، هذه الابتسامات والضحك حيث لا توجد علامة على الفقر أو الكبت أو الإحباط، هذا النجاح والصوت الحلو، هذه النعومة والميوعة التي حرمتها منها بيئتها المحافظة وحياتها الصعبة المنهكة.
أنا أيضًا كاتب هذا المقال كنت أتوحد في شبابي مع باولو كويلهو، بطلي المعبود في المراهقة، وأنا أعاني من وضع هش مهنيا واجتماعيا واقتصاديا، أفكر فيه الذي سافر مع صديقته الهيبية العالم، وسط تجمع مبهج يحتفون بكل ألوان المتع الأخلاقية وغير الأخلاقية، وعندما نضج كتب الرواية، أفكار تحمل معانٍ صوفية ساحرة، وحقق نجاحا ساحقا يكاد ينافس به الإنجيل.
ما يخسره الفقراء إلى الأبد
كثير من أعمارنا تضيع في البكاء على اللبن المسكوب، أحببنا صديقاتنا في الجامعة، ولكن بحكم تداخل المال في العلاقات الانسانية فضلن رجالًا يكبرهن بأعوام كثيرة بسبب قلة مواردنا المالية، صداقاتنا تحولت مع العمر لعلاقات مصالح، تتعرضين للتحرش من رئيسك في العمل، حتى أصدقائك يعاملنك كبغي، يفضلن أن يقضين معك أوقاتا لطيفة عابرة عن علاقات وثيقة ممتدة، نقضي أكثر من عشرة ساعات يوميًا في أعمال مرهقة، ونودع بأسى هواياتنا القراءة، والموسيقى، والرقص، والرحلات.
منطقة تركيز الفقير كيف يتغلب على تحدياته اليومية، يجلب اللبن لأطفاله، يُحسّن وضعه المالي حتى لا يحتاج للآخرين، أو "الستر" كما يقول الفقراء في بلدنا، توفير فرص أفضل لأبنائه، لا يفكر كثيرا في التمتع بمباهج الحياة، أو يشك في الإجابات التي تقدمها له ثقافته الدينية حول سبب وجوده على الأرض، لأنه عمليا يحتاج إلى كل طاقة في خلاياه العصبية لجعل حياته اليومية أقل صعوبة، وهذا ما لاحظه المعلم الهندي أوشو في بداية محاضراته عن التأمل والروحانيات، أنّ القادمين من الدول الغنية فقط من يأتون طلبًا للمعرفة، أما كثير من الهنود في بلاده، يطلبون منه مساعدات، ويتعاملون مع الرب بمنطق السؤال والحاجة، يريدون عمل مستقر، الزواج، مال، وخلص إلى أنه يُتعذّر أن يشعر الإنسان بجوعه المعنوي للمعرفة والحقيقة ورغباته الأساسية غير مُلبّاة.
"إنهم يبدون وكأنهم منومون مغناطيسيا"، لا "يعانون من البارانويا التي تصيب مدمني المخدرات"، هذه هي شهادات جيران عواجيز فقراء على يوتوبيا أوشو في أنتيلوب الأمريكية، المكان الذي اقتطع أوشو منه أرضًا لمدينة فاضلة عاش أفرادها، ومعظمهم أثرياء، راقصين وضاحكين ومستمتعين ببعضهم طول يومهم، كما استعرضها المسلسل الوثائقي "Wild Wild Country" على شبكة "نتفليكس".
في لمحة ذكية لنجيب محفوظ، يكتب في رواية أولاد حارتنا مُجسّدًا الفقر في حالته المصرية "ومرت عربة كارو تحت الشباك وهي تنشد مصفقة: (الفاتحة للعسكري.. قلع الطربوش وعمل ولي)، وابتسم قاسم فتذكر ليلة غنى المعلم يحيى هذه الأنشودة وهو في تمام السطول، آه لو تستقيم الأمور فلا يبقى لك إلا الغناء يا حارتنا".