كانت أيام تليق بسُبات سياسي دخلته البلاد منذ عقود. لا جديد تحت شمس القاهرة 2004، إلاّ بعض أصوات تجرّأت على معارضة النظام بفعاليات احتضنتها أرصفة وسط القاهرة. حينها، كان وائل عباس بالكاميرا كزملائه المدونين، يوثّق وينشر عبر مدونته الوعي المصري مظاهرات ضد نظام مبارك أو أخرى طلابية أو عُمالية، وحتّى اعتصام القضاة.
لم يمض إلاّ وقت قليل، حتى صار للوعي المصري انتشار بين مئات وربما آلاف من مرتادي الإنترنت آنذاك، فهي المنصّة التي كشفت تعذيب المواطن عماد الكبير، ومنها انتشرت قضيته للإعلام المحلي والدولي؛ لتواجه الشرطة علنًا تُهمة لم تكن توجه لها إلاّ في تقارير تنتشر على نطاق محدود: التعذيب.
هي القاهرة نفسها، لكن بعد 14 عامًا، وهو السُبات السياسي نفسه تقريبًا، حلّ بعد سبعة أعوام مُنهكة انتهت بحرب شوارع دامية أجهزت على أي جرأة للمعارضة؛ فخلت الشوارع ثم الفضاء الإلكتروني من الأصوات العالية، لكن وائل كان من قِلّة بقيت معارضة. استطاع المدون الحفاظ على عاداته القديمة، يشاكس وينتقد علانية سياسات ومسؤولين، سواء على حسابه بتويتر- قبل أن يغلق- أو عبر فيسبوك، حتى كان 23 مايو/ أيّار 2018، حين كتب فجرًا من منزله بالتجمع الخامس "أنا بيتقبض عليّا".
من الوعي المصري انتشر اسم وائل عباس، وبفضل مشواره معها بالأساس حصد العديد من الجوائز والتكريمات الدولية على المستويين الإعلامي والحقوقي، بل واختير في أكثر من قائمة معنية بالشخصيات اﻷكثر تأثيرًا في هذه المنطقة من العالم، بعد أن أثبت إجادته للسباحة ضد التيار، طالما اقتنع بما سيسبح تجاهه؛ فتحول بمواقفه ومع مرور الوقت إلى البطل الضد.
تُعرف القواميس هذا النوع من اﻷبطال على أنه شخص لا يُشترط فيه المثالية المضبوطة على مسطرة المجتمع، أو حتى التحلي بأي من الصفات التي ستكسبه قبول هذا المجتمع، فقط يتبع قواعد عالمه الخاص وقناعاته الشخصية، وهو الشخص الذي حتى لو كرهه البعض فلا يملكون إلاّ الإقرار بنقاط تميزه.
بين وسائل إعلام محلية ودولية، استضافته مُحللاً وكاتبًا ومصدرًا، تنقّل المدون والصحفي يُدلي بآرائه في الشأن العام ولو ضد اﻷنظمة المتتابعة؛ بدرجة حوّلت حساباته الشخصية لمنصّة تنشر شكاوى متابعيه الذين تخطى عددهم مئات الآلاف.
ومِن هؤلاء المتابعين، كان هُناك دائمًا من لم يُخف اندهاشه من نجاة المدون من مصير آلاف غيره: السجن، حتى طالته اليد نفسها وزجّت به إلى طره؛ فصار الحديث عنه مُرتبط بأخبار تجديد الحبس أو مناشدات إخلاء السبيل، كالتي أطلقتها منظمة مراسلون بلا حدود، قبل ساعات من إعلان قرار تجديد حبسه 15 يومًا، مساء أمس اﻷحد.
"قرصة" أخرى
ليست مراسلون بلا حدود الجهة الوحيدة التي دعمت وائل عباس، فمنذ اليوم اﻷول لغيابه عن منزله فجرًا، انطلقت النداءات التضامنية من المنظمات الحقوقية المختلفة، في البداية للكشف عن مكانه ومصيره، ثم للمطالبة بالحرية له من أصدقاء ومتابعين عهدوه يتضامن حتى مع من يخالفهم الرأي، طالما استدعت اﻷمور تضامنًا.
طالب مركز هردو، في 31 يوليو/ تموز الماضي، السلطات بتمكين وائل من الحصول على حقه في العلاج، بعد أن مرّت أيام على قرار صادر من النيابة في آخر جلسة تجديد حبس له، منتصف الشهر، بالموافقة على عرضه على طبيب أمراض قلب وجهاز تنفسي.
وحتى أمس اﻷول السبت، لم يخضع وائل عباس لفحص القلب، وفقًا لما أكدته للمنصّة والدته علياء عبد المؤمن، التي حكت عما بدا على الأبن من إحباط "كان تعبان وحالته النفسية مش كويسة لأنه مش عارف إيه اللي بيحصل. وكان طالب كشف على قلبه ﻷنه صدره بيتعبه من الجلسة اللي قبل التجديد (قبل أسبوعين)، لكن ماتعرضش للفحص خالص، ومازال تعبان".
يتعرض وائل الآن لـ"قرصة ودن"، على حدّ وصف جمال عيد، مؤسس ورئيس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، الذي شهد "قرصات" قديمة للمشاكس حاد الطباع، الذي يكتب ويهاجم وينتقد مساوئ سياسية واجتماعية، لأنظمة سابقة يراها المحامي أنه "على كل فسادها وديكتاتوريتها، كانت لها حدود".
واحدة من تلك "القرصات" كانت الاعتداء عليه ووالدته داخل منزلهما عام 2009، واقعة وثّق وائل روايته لها في الوعي المصري، بينما قرر الطرف الآخر أن يتحوّل اﻷمر لقضية يذكر عيد أنها "انشطرت إلى قضيتين" توزعتا بين الجُنح والمحكمة الاقتصادية، بتهمتين لموكله هما التعدي على ضابط و"إتلاف سلك إنترنت"، وكلتاهما انتهيتا بالبراءة، رغم حُكم صدر بالحبس.
الآن.. وائل عباس لم يُمنع من الفحص الطبي فقط، بل من هوايته اﻷهم، القراءة، "مفيش أي كتب بتدخله، جبنا له كتابين رجعوا، وجبنا له قصص عادية مترجمة وبقالها أسبوعين مادخلتش، وكراسات وأقلام تلوين، خدوا كام قلم ومنعوا الباقي والكراسة"، تقول اﻷم عن الابن الذي منع السجن عنه حتى مجلات ميكي التي يُحبها "مارضيوش يدخّلوها. ابني مابيعملش حاجة دلوقتي غير التفكير والقلق".
ضد الفرقاء
انقضى عهد مبارك وظل وائل على مساره، ينتقد السلطة ممثلة في المجلس العسكري، ومعها انتقد الوجوه التي بدأت تُقَدّم نفسها كبديل مؤهل للحكم: الإخوان المسلمين، ليتسق في تلك المرحلة مع موقفه القديم من الجماعة، التي ناقش فرضية وصولها للحكم ومدى صلاحيتها لهذا اﻷمر في مقال نشره قبل 14 عامًا، أبرز فيه بعضًا من فكر الجماعات التي ترفع شعارات دينية.
"هو عارف إنه بريء والتهم الموجهة ليه ماحدش يصدقها على وائل ولا تتناسب معاه، فده تاعبه وتاعبنا. إزاي في السجن وهو بريء من غير أي اتهام جدّي يوجه له" تتساءل الأم في دهشة من وضع اسم ابنها في ملف القضية 441/ 2018، والتي من بين اتهاماتها "الانضمام لجماعة محظورة".
هذا الاتهام يطعن به جمال عيد في جديته، ليس ﻷيديولوجية وائل كشخص يميل لليسار "ومايمشيش معاه الاتهام ده" فحسب، بل أيضًا "ﻷن المفترض أن يكون للجماعة المحظورة اسم، وفي مصر المحظورتين هما داعش والإخوان، وكلاهما بعيدان عن وائل تمامًا".
انتقد وائل الإخوان وخصومهم على حد سواء، وطيلة 14 عامًا لم يتمكن أحد من وضعه على قائمة أي معسكر، إلاّ الذي كان وائل واضحًا وصريحًا في الانتماء له: ثورة 25 يناير فحسب، وهو ما وعاه أبناء المعسكرين، فكانت الخصومة صريحة معه ولدرجة كادت أن تزج به في السجن ﻷكثر من مرّة، منها على سبيل المثال قضية "مذبحة ماسبيرو".
اقرأ أيضًا.. الذكرى الخامسة للمذبحة| "خواسك" وفانلة "ماسبيرو" الحمراء
موقع وائل واضح ومحدد، حتى منذ كان الفريقان على وفاق، فهو المؤمن بنظرية "الخروج من الطاسة"، عنوان كتابه ومن قبل مقاله المنشور عام 2013 في موقع البداية.
في ذلك المقال انتقد وائل خيارات حظيت بشعبية مثل اعتبار المجلس العسكري "بديل لمبارك ويمنع وصول الإسلاميين للحكم"، ثم اعتبار الإخوان "بديل العسكر والفلول"، وتلك بالفعل كانت قناعات وائل عباس وقت أن كان منتمون للثورة يختارون على مضض بين الثنائي مرسي وشفيق، كما انتقد من بعد ذلك "مَن زعموا أن العسكر والفلول بديل الإخوان مرة أخرى".
لكن وعلى الرغم من العداوة الواضحة بينه والإخوان، إلاّ أنه كان من القطاع الذي وصف ما حدث في رابعة العدوية والنهضة بـ"المذبحة"، ووصف التحركات لعزل مرسي بـ"الانقلاب"، وذلك دون أن يتزحزح عن انتقاده للجماعة وسياساتها.
قارئ الأحداث
يمكن وصف وائل عباس بأنه قارئ متأنٍ لأحداث الماضي والحاضر؛ ما منحه رؤية استشرافية للأمور، جعلته على سبيل المثال من قِلّة شككت في نوايا "تمرد" في وقت كانت الحركة حديث الساعة ومحل ترحاب إعلامي وشعبي.
يُميز المُدون الذي سيُتم الرابعة واﻷربعين من العُمر في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، جرأته في الدفاع عن آرائه حتى لو كانت ضد السائد في المجتمع، أو ضد القريبين منه، ولو كان الثمن قطيعة لسنوات، أو "عداوة من شٍلَل".
وائل هو منتقد نظامي وشخصي ناصر والسادات، هو مَن انتقد علانية النظام الحالي، وكان ممن ساهموا في إثبات مصرية جزيرتي تيران وصنافير؛ وهو المُستهدف بشائعات تمس حياته الخاصة ومقالات تتهمه كآخرين في المجالين الحقوقي والإعلامي بـ"العمالة".
بعيدًا عن السياسة؛وائل عباس هو صاحب آراء تُعارض لأسباب اقتصادية واجتماعية "موضة عربات شيك تبيع البطيخ" على الرغم من شهرتها وإعجاب كثيرين بها، وهو مَن انتقد "دُعاة الـ3G" على حدّ وصفه، وذلك قبل أعوام من أمواج الغضب العاتية ضد أغلبهم الآن، كما أنه. المضاد للجميع انتقد أيضا شكسبير.
وائل، أفلت على مدار 14 عامًا من أفخاخ عديدة، ولم تدفعه "قرصات اﻷذن" لهجر قناعاته. وحتى حينما تكررت مرّات توقيفه في المطار خلال العامين الماضيين، أو حين ضاقت مساحته الافتراضية بغلق حسابه على تويتر ﻷسباب لم تكن واضحة، لم يتراجع وشاكس عبر فيسبوك، الساحة غير الخاضعة لسيطرة سياسية أو مادية والتي صارت تُغضب كثيرين وتشغل بال حتى نوّاب البرلمان؛ فكان وأن زُج به لسجن "خايف يتنسي فيه زي ناس كتير"، كما تقول اﻷم التي أخبرها ابنها أن جلّ ما يريده في هذه اللحظة تحديدًا هو "قعدة مع العيلة".