في أحد أيام عيد الفطر، كان أحمد، وهو اسم مستعار، على موعد مع التجربة الأولى للتحرش بمنطقة وسط البلد، كان هو فاعلها، سار بين حشد من المراهقين المتنافسين على لقب "أجمد شاب في الشلة"، اختبأ وسط الزحام وتحرش بإحدى الفتيات.
في الثلاثين من عمره، الآن، يعمل محاسبًا، وينتمي إلى طبقة صغار الملاك الزراعيين بمحافظة الشرقية، له حياة اجتماعية جيدة، ووضع مادي مستقر، يروي لي تجربته بعد مرور هذه السنوات، وإلى أي مدى تبدلت قناعاته الذاتية عن التحرش والمتحرشين.
عرفته عن طريق صديق مشترك كنت سألته إن كان تحرش بفتاة من قبل ويرغب في الحكي عن تلك التجربة، وطلبت منه سؤال أصدقائه، واعترف أحمد لصديقي باﻷمر، رفض في البداية التواصل معي، لكنه وافق بعد إلحاح من صديقي ووعده بأنني لن أفصح عن شيئًا يميز هويته، وأن الهدف من الكلام هو محاولة تفسير تلك الظاهرة من جانب فاعليها.
وافق بشرط نقل كلامه مكتوبًا، وطلب مهلة أيام قليلة لشراء شريحة محمول جديدة لإجراء هذه المكالمة، كان صوته مرتبكًا عندما تحدثنا عبر الهاتف، يصف الأمر بأنه "مكنش لطيف"، ويتذكر دوافعه وقتها، "مباراته لأصحابه"، أراد أن يثبت لهم حينها أنه "الأصيع"، "كانوا واقفين أمام السينما، اقترب من بنت واقفة مثلهم تنتظر بداية عرض الفيلم، تحرش بها، فالتفتت ونظرت له في عينيه، ثم غادرت المكان دون أن تدخل الفيلم.
ليست لذة جنسية ما شعر به "أحمد" عند لمس تلك الفتاة، ولم يشعر بالشبع الجنسي، فقط، جعله الأمر "فرحان" على حد تعبيره، يعتقد الآن أن الأمر كان بالنسبة له تمردًا، يثبت لنفسه أنه "قادر على فعل أي شيء"، ربما يكون تمرد على الكبت والسلطة الأبوية، كان يُحبس في المنزل أحيانًا ولا يسمح له بالخروج دون سبب واضح.
رغم ذلك، لا ينكر أحمد معرفته بنماذج لذكور كبار بالعمر، أصحاب سلطة ومال، لكنهم متحرشين، "المتحرش بالنسبة له شخص لديه نقص ويريد تعويضه"، يندهش الآن من قذارة الفعل، "أنا بقرف لو شفت واحد بيلمس واحدة، أو يضايقها"، يقصد بذلك التحرش الجنسي، فقط، ويستثني من ذلك "الترويش" كما يسميه، يراه شيئًا أقرب للإدمان أو المرض، فهو لم يتوقف عنه حتى الآن.
أحيانًا السخرية تكون دافعه عند مضايقة فتاة بكلمات يتفوّه بها أثناء عبوره الشارع، تعليقًا على لبسها، أو إذا لم تكن جميلة، على حد قوله، فلا مانع لديه أن يرمي كلمة للسخرية منها، وحين سألته عن الدافع طالما أن هذه المضايقات لا ترتبط عنده بأي شعور جنسي على حد قوله، لم يجد إجابة.
الحرمان طبيعة الحياة
"ربما ليس للمتحرش نوايا مسبقة لفعلته، قد تحركه لحظة ضعف يترجمها في تصرف أهوج"، كنت أتحدث مع صديق لي حول تلك النتجية التي استخلصتها بعد الحديث مع أحمد عن دوافع المتحرش، وطلبت منه أن يسأل زملاءه إذا كانوا خاضوا تجربة التحرش كفاعلين، اعترف له "سيد" أنه فعل ذلك من قبل، ولم يوافق على التحدث المباشر معي، وبالتالي تمت الإجابة على أسئلتي عن طريق هذا الصديق، أيضًا.
يبلغ سيد من العمر 17 عامًا، يدرس بالأزهر الشريف، تفتقر علاقاته إلى التعامل مع الفتيات بحكم طبيعة حياته ودراسته الأزهرية، يبدي غضبه ممن يتحرشون بالفتاة التي يصنفها محتشمة الملابس، ويعتقد أن من يفعل ذلك، "تسيطر عليه رغباته الجنسية"، بحسب تعبيره.
يغادر منزله دون أدنى نية للتحرش قبل أن يجمعه موقف ما بفتاة تسير في الشارع، تسوّل له نفسه إنها الفتاة المناسبة، يقول في داخله "هي دي"، معاييره في الانتقاء واضحه تتضمن شكل الفتاة وملابسها، ينطلق نحوها مؤمنًا بأنها "لازم تاخد اللي فيه النصيب"، وفق تعبيره لصديقي أثناء حديثهم.
يصنف سيد ردود أفعال الفتيات حين يلمسهن بين "الخضة، الصراخ، السب"، لا تؤثر فيه ردود الأفعال مقابل السعادة التي يشعر بها بين أصدقاؤه، باستطاعته فعل أي شئ جريء، وحين ينفرد بنفسه يسألها "إذا كانت تلك الأفعال خطأ؟"، شكوكه غير المنطقية بين خطأ ما يفعله من عدمه ربما تأتي من رد فعل الناس عندما يشاهدوه يفعل ذلك، يقول إن من حوله لا يبالون.
من أين يأتون؟
إذًا، فـ"احتمالية التحرش تتزايد وسط الأصحاب لاستعراض قوة المتحرش ولفت الأنظار له"، يفسر الطبيب النفسي، محمد هاني، ذلك، بأنه نابع من إحساس عميق بالنقص، حيث يستمد المتحرش قوته من وجود أصدقائه، وحين يفتقد وجودهم يشعر بالخجل من القيام بنفس السلوك بمفرده، بالضبط كما قال لي أحمد وسيد.
وربما يتوقف المتحرش عن تكرار الفعل حينما تأخذ الضحية موقفًا معلنًا ضده، يتفق هاني مع ذلك، حيث يخشى المتحرش ذلك إلى الحد الذي يمكن أن يجعله لا يكرر الفعل مرة أخرى، وقد يشعره بالخجل أو فقدان لجزء من إحساسه بنفسه، بخلاف إن قامت الفتاة بالصمت مثلًا سيكون لديه انطباع آخر، وقد يعطيه شجاعة لتكرار الموقف، وهنا يظهر تأثير خبرة المتحرش الذاتية في اختياراته المتماشية غالبًا مع مواصفات ضحاياه.
وتكون ظروف النشأة والمناخ المحيط بالشخص واحدة من أهم المؤثرات التي يراها هاني منطبقة على قصص هؤلاء الذكور، مثل حداثة السن، وحالة التواصل بين الوالدين وأبنائهم، وحاجتهم إلى التوجيه الدائم والحديث المستمر، تحديدًا عندما يواجهون تساؤلات تتكون لديهم بمجرد تعرضهم لتجارب يحتكوا خلالها بالجنس الآخر لأول مرة، خصوصًا أن المجتمع أصبح يفصل الجنسين في سن مبكر.
نقاط مشتركة تجمع المتحرشين
في حالتين أخريين، لم أستطع التواصل المباشر معهم. اضطررت إلى الاستعانة بوسيط محل ثقة يتيح كلامه معهم مساحة أوسع لتبادل "دردشة" تخلو من الشعور بالشك، على أن يستأذنهم في تسجيل المحادثة صوتيًا بعد أن يؤكد لهم الغرض منها.
إحدى النقاط المشتركة بين الحكايات تمثلت في سخريتهم كرد فعل أول على فكرة البوح بمثل هذه المواقف، اعترفوا بالتحرش وحكوا عن تجاربهم، يعمل كلاهما في البناء، ويأتوا من محافظة في الدلتا إلى القاهرة بحثًا عن فرصة عمل بأجر يومي، يعتقدون "أن الفتاة التي يتحرشون بها تستاهل ما يفعلوه، ويتحدثون بكل ثقة حول رغبتها في ذلك"، آرائهم تدل على أنهم لم يتحدثوا مع فتاة منذ نشأتهم، وأنهم لم يحصلوا على الحد الأدنى من التعليم أو التربية.
مشروع إعادة تأهيل الجناة
منذ عام 2015 أطلق المجلس القومي للمرأة خطة سميت بـ"الاستراتيجية الوطنية لمكافحة العنف ضد النساء"، أعلن المجلس أنها لا تقتصر على الضحايا من النساء فقط، لكنها تضمنت التعامل مع مرتكبي العنف (الجناة)، إلا أن نشوى الحوفي، عضوة المجلس، تقول "أول مرة أسمع عن وجود جزئية تخص التعامل مع الجناة، نحن نركز على التعامل مع الضحايا فقط على حد علمي"، مبررة أن "الاستراتيجية تشكلت قبل أن تأتي إلى المجلس".
تختلف مها أحمد، المحامية بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، مع نشوى، وتقترح أن يصاحب عقوبة السجن المنصوص عليها في قانون التحرش، إعادة تأهيل للجناة، عن طريق أخصائيين اجتماعيين تابعين لإدارة السجون، خصوصًا في الحالات التي أخذت مسارًا قضائيًا.
المجتمع المدني مشغول بمحاربة التضيق الأمني
تتبنى مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل في مجال حقوق المرأة، مسؤولية التصدي للتحرش والاعتداءات الجنسية بشكل عام، من ناحية، وتتبنى مثيلتها التي تهتم بقضايا الطفل، من ناحية أخرى، دورًا لتوعية الطفل وحمايته، انطلاقًا من التعريف القانوني الذي يعتبر من هم دون الثامنة عشر أطفالًا، ولما كانت أعمار أصحاب الحكايات التي قابلتها تقع ضمن هذه الشريحة، توجهت إلى مجموعة من هذه المؤسسات لمعرفة آليات العمل التي يعتمدونها لمناهضة التحرش من جانب الطرف الفاعل.
تنفي ماجدة عدلي، مديرة مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، وجود مؤسسات لإعادة تأهيل المتحرش في مصر، وتقول: "يقتصر دمج الذكور في مكافحة قضايا العنف ضد المرأة على بعض الفعاليات القليلة مثل المدرسة النسوية التي أقامتها نظرة في فترات ماضية".
وترى ماجدة أن النصيب الأكبر من مسؤولية الدعم وإعادة التأهيل تقع على الدولة، مشيرة إلى قلة عدد مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل على قضايا العنف ضد النساء في مصر في ظل حالة التضيق الأمني، بشكل يفرض عليها أن تعطي الأولوية لدعم الفئات الأولى بالرعاية من ضحايا هذه الاعتداءات والناجيات من التحرش.
المتحرش شريك في التغيير
"مدن آمنة للنساء، هو مشروع تشارك فيه مصر، وتعتبر أكثر الدول التي ركزت على العنصر الذكوري، كون الذكور شركاء في التغيير"، تقول خديجة الطاهر، مسؤولة مشروع مدن آمنة للنساء بهيئة كير الدولية.
بدأ المشروع قبل خمس سنوات بعد بحث للجامعة الأمريكية خلُص إلى أن المناطق العشوائية هي الأكثر في ارتفاع معدلات التحرش، وبناءً عليه؛ اختارت الهيئة منطقة إمبابة وعزبة الهجانة ومنشية ناصر، بتمويل من 4 جهات منها الاتحاد الأوروبي والمعونة الأمريكية، وتعمل على تدريب الشباب من خلال جمعيات داخل هذه المناطق، تحت مظلة الأمم المتحدة، وفقًا لكرستين نبيل، المشرفة الميدانية بالمشروع نفسه.
تقول كريستين "في بداية المشروع استهدفنا كسب متطوعين داخل هذه المناطق ونقوم بتدريبهم، ولاحقًا يستكملون بأنفسهم العمل على التوعية بحقوق النساء ومناهضة العنف في مناطقهم، أثناء ذلك وجدنا أن سائقي التوكتوك هم الفئة الموصومة بالتحرش، وأدركنا الحاجة إلى فعل ما هو أكثر من توعية للنساء، وأهمية دمج السائقين في هذه العملية".
تشرح خديجة التي شاركت في تدريبات المشروع استحالة اعتراف أحدهم أنه تحرش بإمرأة في البداية، ولكن عند شرح مفاهيم التحرش والنوع الاجتماعي، يدرك أنه يمارس أفعالًا تعد تحرش في حين لا يعتبرها هو كذلك، معددةً مراحل تحول هذا الشخص من ممارس للتحرش إلى مناهض له.
"بداية قد يعاكس إحدى المتطوعات، لكن بعد تكرار التعامل بينهما، تتغير نظرته لها، يدركها ككيان يشاركه أنشطة مختلفة وجزء من فريقه، ومن ثم تصحيح لبعض الأفكار الخاطئة التي يستند إليها في التعامل مع النساء، إلى أن يقرر بعضهم التطوع لتوعية ودمج غيره من الذكور لمناهضة التحرش، الأمر الذي تعتبره كرستين أكثر فاعلية في التغيير، انطلاقا من إحساسهم بالمسؤولية.