أصدر البابا تواضروس الثاني بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية اليوم قرارًا رسميًا بتجريد الراهب أشعياء المقاري من الرهبنة وعودته لاسمه العلماني، بعد تحقيق من لجنة رهبانية مشكلة من لجنة شؤون الرهبنة والأديرة بالمجمع المقدس.
وجاء في نص القرار الرسمي أنه بعد التحقيق الرهباني بواسطة لجنة خاصة شكلتها اللجنة المجمعية لشؤون الرهبنة والأديرة مع الراهب أشعياء المقاري، بخصوص الاتهامات والتصرفات التي صدرت عنه "والتي لا تليق بالسلوك الرهباني والحياة الديرية والالتزام بمبادئ ونذور الرهبنة من الفقر الأختياري والطاعة والعفة، قررنا تجريد الراهب المذكور وطرده من مجمع دير القديس العظيم مكاريوس الكبير بوادي النطرون، وعودته إلى إسمه العلماني وائل سعد تاوضروس وعدم إنتسابه إلى الرهبنة وحثه على التوبة وإصلاح حياته من أجل خلاصه وأبديته".
ودعا القرار جموع الأقباط إلى الحفاظ على نقاوة الرهبنة القبطية بتاريخها المجيد، وحياة الأباء الرهبان التي اختاروها بأنفسهم، "لذا نرجو من الجميع عدم تعدي الحدود الواجبة في المعاملات والعلاقات، والالتزام بالتعليمات التي تصدرها الأديرة في الزيارات والخلوات".
قبل صدور القرار رسميًا بيوم واحد، انتشرت على فيسبوك ورقة منسوبة للجنة الرهبنة والأديرة بالمجمع المقدس، تعلن "شلح وتجريد راهبان من رهبانيتهم" هما يعقوب وأشعياء المقاري، اللذان خدما في دير الأنبا مقار حيث عُثر على جثمان الأنباء إبيفانيوس مقتولا صباح الأحد الماضي.
صاحب انتشار الوثيقة على السوشيال ميديا شائعات تنبأ فيها أصحابها بأن يكون للراهبين علاقة بمقتل الأنبا، إلا أن اتصال بالمتحدث الرسمي باسم الكنيسة، نفى خلاله "دقة الوثيقة" دون أن يعلق على موقف الراهبين أو يفصح عن القرارات التي تعتزم الكنيسة اتخاذها بشأنهما، ليتوارى الخبر عن مسرح الترند. إلى أن عاد اسم أشعياء المقاري أو وائل سعد إلى الصدارة، بقرار تجريده الحاسم الذي صدر بتوقيع البابا اليوم.
بداية الارتباك
في مطلع أغسطس/ آب الجاري اجتمعت لجنة شؤون الرهبنة والأديرة بالمجمع المقدس برئاسة البابا تواضروس الثاني بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. لم تعلن الكنيسة أية تفاصيل عن الاجتماع وقتها، لكن وثيقة انتشرت على الصفحات القبطية في فيسبوك حوت أربعة بنود قيل إنها قرارات صادرة عن الاجتماع، قال البند الرابع فيها إن الكنيسة قررت تجريد الراهب يعقوب المقاري. وهو راهب آخر بالدير يختلف عن الراهب الذي تم تجريده اليوم.
الوثيقة الذي ثبت عدم صحتها بعد ساعات شككت في أن يكون للراهب المذكور علاقة بمقتل الأنبا إبيفانيوس.
في اليوم التالي أصدرت الكنيسة عبر الصفحة الرسمية لمتحدثها بيانًا رسميًا يحوي قرارات الاجتماع، وضمت تلك الوثيقة 12 قرارًا، اتضح منها اعتزام الكنيسة إعادة تنظيم شؤون الرهبنة وإدارة الأديرة بشكل جذري قد يحدث انقلابًا في حركة الرهبنة المصرية التي يعود تاريخها العريق لأكثر من 1800 عامًا مضت.
https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FCopticSP%2Fposts%2F1855345781170218&width=200&show_text=true&height=709&appIdكان هناك ثمة تشابه بين الورقة المنسوبة للكنيسة المنتشرة على الفيسبوك والاثنى عشر قرار الذين صدروا عن لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة بشكل رسمي، ما خلا أمر وحيد؛ لم يذكر البيان الرسمي اسم أي راهب من الرهبان من قريب أو بعيد.
تعذيب أشعياء المقاري
الأحداث متواترة بطريقة سريعة والزمن هنا له قيمته، فعقب جلاء الحقيقة ونشر القرارات الصحيحة، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي نبأ يفيد بالقبض على الراهب أشعياء المقاري وتعذيبه من قبل الجهات الأمنية المصرية.
هذا الخبر جعل الكثير من الأقباط يسيرون في طريق الانفعال عاطفيًا، ويتساءلون كيف يتم التعامل مع راهب بهذا الشكل الوحشي.
سرعان ماخفتت تلك الأنباء بعد محاولة الأقباط لاستقصاء صحة الخبر والاطمئنان على هذا الراهب (الذي أعلن تجريده اليوم) وتبين أنه موجود في ديره بين أخوته من الرهبان.
لكن الأحداث استكانت لساعات فقط قبل أن تعود للفوران في اليوم التالي بوثيقة جديدة وشائعة جديدة.
شلح راهبين
تداول الأقباط ومعهم مسلمون مهتمون بسير قضية مقتل الأنبا إبيفانيوس وثيقة منسوبة للكنيسة القبطية تعلن تجريد الراهبين يعقوب وأشعياء المقاري، وخلقت الوثيقة حالة اضطراب خاصة لدى الرأي العام القبطي مع شائعة تفيد بتوجيه اتهام رسمي لأشعياء المقاري بقتل الأنبا الراحل.
سرعان ما ردت الكنيسة على لسان المتحدث الرسمي باسمها في تصريحات لمختلف وسائل الإعلام، تقول فيها إن هذا القرار "غير دقيق"، ولم تصدر قرارات بهذا الشأن "حتى الآن".
رغم أن الكنيسة لم تنف القرار بشكل واضح؛ إلا أن ذلك أعاد الأقباط مرة أخرى لمنطقة الاطمئنان، هم لا يريدون تصديق هذا احتمال أن يقتل راهب، فكيف لزاهد عابد متنسك أن تمتد يده بالشر لأبيه.
لماذا يعقوب وأشعياء المقاري؟
يأتي هنا السؤال لماذا هذين الراهبين بالذات الذين تحاصرهم الأنباء والاتهامات ثم طال أحدهما "أشعياء المقاري" التجريد؛ العلم أن هناك حوالي 150 راهب ينتمون لهذا الدير ويسكنون فيه؟
حكاية يعقوب المقاري
قصة الأول "يعقوب المقاري" - والذي نال درجة "قس" على يد الراحل البابا شنودة- بدأت عندما أصدر دير أبو مقار بيانًا رسميًا بختم الدير وموقع باسم الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس الدير في 30 مارس/ أذار 2015 يعلن فيه أن هذا الراهب لم يعد له علاقة بالدير، وأن الدير غير مسؤول عن أية مشاكل مالية أو قانونية يقوم بها هذا الراهب.
أكد الدير في بيانه أنه لم يمنحه أي توكيل أو تفويض أو إيصالات للقيام بأي أعمال تخص الدير.
هذا البيان جعل الراهب يعقوب المقاري يظهر على مسرح الأحداث وصار محط أنظار وتساؤلات؛ لماذا تصرف الدير معه بهذا الشكل؟
تعددت الروايات حوله، لكنها اتفقت جميعها في كونه الراهب الذي شرع منفردًا في تأسيس دير السيدة العذراء والأنبا كاراس، وذهب لصحراء وادي النطرون حيث سكن القديس الأنبا كاراس في القرن الرابع الميلادي.
نجح الراهب يعقوب المقاري في جمع تبرعات كثيرة بزعم إحياء ذكرى القديس وتعمير دير له، ولعب على أوتار قلوب محبي هذا القديس. وبالفعل استطاع ومعه عدد قليل من الرهبان في بناء جزء كبير من الدير بفضل تبرعات المحبين ورجال الأعمال الأقباط.
تأتي الرواية المقابلة من سيدة الأعمال مريم راجي التي قالت في شهادة لها إنها ساهمت بالتبرعات في بناء وتعمير هذا الدير. قالت سيدة الأعمال إنها ومجموعة من رجال وسيدات الأعمال قاموا بشراء أرض "كلفتنا ملايين الجنيهات لتشييد دير باسم السيدة العذراء والأنبا كاراس".
تضيف السيدة في روايتها المكتوبة والمنشورة بأحد المواقع المسيحية الإخبارية أنهم كتبوا الأرض باسم الراهب يعقوب المقاري، وذهب معه 4 رهبان ليسكنوا الدير ويعمروه. موضحة أن كان في الفترة الانتقالية بين بطركية الراحل البابا شنودة الثالث والبابا تواضروس الثاني.
وتابعت مريم؛ "عند تجليس البابا تواضروس كان من المفترض تسليم الدير للكنيسة بحسب القوانين الكنسية، ولكن يعقوب المقاري رفض، وزعم أنه يمتلك الدير ولن يسلمه للبطريرك أو الكنيسة، وطرد الرهبان الذين كانوا معه".
أكملت؛ ظل الراهب رافضًا رغم مناشدات رئيس الدير الأنبا إبيفانيوس له بتسليم الدير الجديد لسلطة الكنيسة وبطريرك الكرازة المرقسية، حتى صدر قرار من دير الأنبا مقار (حيث انخرط الراهب في السلك الكنسي)، بخروجه من الدير وانقطاع علاقته به، مع تنويه من الدير بإخلاء مسؤوليته عن المشاكل المالية والقانونية التي تورط فيها يعقوب المقاري، واسمه العلماني شنودة وهبة عطا الله جورجيوس.
القرار الصادر في نهاية مارس 2015، رد عليه يعقوب المقاري برواية مختلفة، قال فيها إن أرض الدير باسم شخصية تعيش خارج البلاد ومازال يقنعها بالمجئ للتنازل عن أرض الدير للكنيسة. كان هذا كله في عام 2015، ثم تم إسناد القضية للأنبا مكاريوس أسقف المنيا وأبو قرقاص.
شائعة تجريد الراهب يعقوب من رهبانيته أعادت للأذهان تلك الواقعة القديمة بما لها من روايات مختلفة، وظهر الراهب في تصريح صحفي مقتضب لأحد المواقع الإخبارية ينفي شلحه، ويوضح أن قضيته ما زالت قيد البحث مع أسقف المنيا وأبو قرقاص، والذي تم اسناد الفصل في القضية له منذ الخلاف في مارس 2015.
الراهب المشلوح أشعياء المقاري
أما الراهب الذي صدر قرار بتجريده/ شلحه رسميًا اليوم "أشعياء المقاري"، فتتلخص قصته في خلاف نشأ بينه وبين الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير الأنبا مقار في فبراير/ شباط الماضي، ترتب عليه طلب الأنبا الراحل من البابا تواضروس بنقل الراهب من الدير.
هذا الطلب غير من مساره خطاب التماس موقع من 52 راهب من دير الأنبا مقار يطلبون فيه بقاء هذا الراهب مع تعهد بخضوعه لأبيه أسقف ورئيس الدير الأنبا إبيفانيوس، وتمت الاستجابة لهذا الالتماس ليبقى الراهب في الدير.
بالفعل بقي الراهب أشعياء المقاري من وقتها داخل أسوار الدير ولكن مع حادث مقتل أسقف ورئيس الدير، عادت سيرته لتطل على مسرح الأحداث. ومع قرار تجريده اليوم عاد اسمه ليطل بقوة أكبر، لا كمجرد راهب عاص؛ وإنما كشخص خارج تمامًا على قيم الكنيسة الروحية والطهرية.
لماذا دير الأنبا مقار
لا يخفي على أحد أن دير الأنبا مقار له طبيعة خاصة في حياته الرهبانية، فقد كان الدير هو النموذج الأقرب للحياة الرهبانية المنضبطة منذ أعاد إعماره الأب متى المسكين. فعند دخوله قلما تجد مظهر من مظاهر الرفاهية أو الدنيوية.
استقلال الدير لسنوات طويلة وعدم تبعيته إداريا للكنيسة بسبب الخلاف الممتد بين الأب الراحل والبابا شنودة، بالإضافة لتميزه واختلافه بالعديد من السمات التي لن تجدها في باقي أديرة وادي النطرون، جعله هدف حصين يسعى المعارضون لفكر متى المسكين في اختراقه فكريا، خاصة بعد موت الأب المسكين عام 2006.
بدأ الراحل البابا شنودة الثالث في بسط نفوذه شيئا فشيئًا على هذا الدير، فزرع فيه ألغام فكرية موالية لأفكاره وأفكار الكنيسة "الصحيحة والبعيدة عن الهرطقة" - من وجهة نظره-.
البابا شنودة كان يرى أن هناك آراء في الدين اعتنقها الأب متى المسكين وأتباعه أقل ماتوصف به هو الهرطقة.
لذا عمد البطريرك الراحل ومعه أعوانه من الحرس القديم لإلحاق أبنائه من الرهبان بهذا الدير، ومحاولة استمالة الرهبان الموجودين هناك بالفعل بترقيتهم ورسامتهم كقساوسة وقمامصة.
ولأن الدير كان مختلفًا حتى في زي الرهبان؛ فعند زيارة البابا شنودة للدير أحضر معه القلنسوات المشقوقة والمتعارف عليها في الزي الرهباني بمختلف الأديرة وطلب منهم ارتداءها بدلا من زيهم المعتاد.
كان الرفض والموافقة من رهبان الدير في هذا الموقف معيار البطريرك الراحل عمن سيتبعه، ومن سيظل متمسك بنهج الأب متى المسكين الذي طالما اتهمه البطريرك الراحل بالهرطقة.
وهكذا ظل الإنقسام الذي أحدثه إختلاف البابا شنودة مع متى المسكين لغمًا باقيًا معدًا للإنفجار في أي وقت، إذ وقع الدير تحت نير الإنقسام.
دور الأنبا إبيفانيوس
مواجهة الإنقسام وإحداث التقارب بين رهبان الدير كانت مهمة الأنبا إبيفانيوس الذي تولى منصب أسقف ورئيس دير الأنبا مقار بالإقتراع السري.
هكذا تحرك الأنبا إبيفانيوس على أرض الدير محاولا فك الاشتباكات التي أحدثتها عودة الدير لحضن الكنيسة رسميًا بعد وفاة متى المسكين، واستعادة البطريرك الراحل (البابا شنودة الثالث) وحرسه القديم السيطرة على الدير، بينما قدم البابا تواضروس للأنبا إبيفانيوس ضمنيا كل ما هو ممكن من الدعم.
خاض الأسقف المتنيح (المتوفي) المعارك الفكرية مع بطريرك الكرازة بكل إخلاص، إذ سانده في "معركة معمودية الكاثوليك"، وابتسم في وجهه وربت على كتفه وواساه في كل خسارة في معركة التنوير في مواجهة الحرس القديم.
كان الأنبا الراحل يقضي الوقت خارج الدير في مهام يكلفه بها البطريرك، فيعود كل مرة وقد نجح في أن يجعل صورة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية أكثر بريقًا وإشراقًا على مستوى العالم.
ثم يعود تلميذ الأب متى المسكين المخلص من جديد داخل الدير ليتجول بين الألغام الفكرية (هذا معه وهذا عليه)، حتى نال التشدد الفكري منه، إذ يتردد بقوة سيناريو أن معركة التنوير مقابل التشدد هي اللغم الذي انفجر ليطيح بحياة الأنبا المتنور، لكن يبقى فكره التنويري متحديا الفكر المتشدد فالأفكار لا تموت بموت صاحبها.
اقرأ أيضًا: أزمة الكنيسة المصرية.. مقتل الأنبا إبيفانيوس يفتح بابًا جديدًا للتسامح
كيف يرسم ال12 قرار مستقبل الرهبنة بالكنيسة؟
تبقى قرارات لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة التي صدرت مؤخرًا هي رمانة الميزان للحياة الرهبانية، والتي ستعيد ضبطها من جديد كما تأمل البطريركية والمجمع المقدس.
جاءت هذه القرارات الصادرة رسميًا في 2 أغسطس الجاري، لتتفق مع رؤية وأفكار الأب متى المسكين وتسير في نفس اتجاه عظات الأنبا إبيفانيوس، وكأن البابا تواضروس أراد أن يضع بهذه القرارات إكليلاً من الزهور على قبر الراحل الأنبا إبيفانيوس "شهيد التنوير"، رفيق كفاح البابا تواضروس الثاني لنشر الأفكار الإصلاحية بالكنيسة وتعزيز التقارب والتحاور بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأخرى.
هذه القرارات من شأنها أن تضبط الحياة الرهبانية وتعيد الرهبان إلى مبادئ الكنيسة الأولى، والالتزام بنذور الرهبنة بإعلان الموت عن العالم والحياة الأرضية، وعيش العزلة والزهد الاختياري، والمثول للتعبد بإخلاص دون الاختلاط بالعالم الخارجي.
اقرأ أيضًا: اسم الوردة في دير الأنبا مقار