منذ عدة أشهر تناقلت بعض المواقع الإخبارية صورة منسوبة لحساب لاعب الكرة المصري الشهير، محمد صلاح، على إنستجرام، يظهر فيها كتاب "فجر الضمير"، وبقليل من البحث نكتشف أن الحساب زائف. لا نتوقع أن يهتم صلاح كثيرًا بالكتاب الذي ألفه الأمريكي جيمس هنري بريستد والذي ترجمه الأثري العظيم الراحل سليم حسن، ويتحدث عن أن الأخلاق العبرانية (وبالتالي أساس الأديان الإبراهيمية) مستمدة من الحضارة والفكر المصري القديم.
ولكن منذ عدة أيام نشر صلاح صورة له على تويتر وهو يحمل كتابًا. اهتم جمهوره كثيرًا بالصورة، إذ يعنيهم كثيرًا أن يعرفوا ما الذي يقرأه نجمهم، وتزايد الصخب لعدة أسباب، منها أن صلاح لم يُظهر غلاف الكتاب كاملًا، واستدعى ذلك من المتابعين البحث حتى يكتشفوا عنوانه، وكان العنوان جذابًا فعلا؛ "فن اللامبالاة"، عنوان مناسب لفترة ما بعد إخفاق المنتخب المصري في تحقيق أي إنجاز له في كأس العالم. ولم يَقِّل الغلاف جاذبية، بالإضافة إلى كونه كتابًا ينتمي لنوع التنمية البشرية الرائج.
على خلاف ما قد يوحي به العنوان، لا يطلب منك الكتاب أن لا تبالي بشيء، ولكنه يطلب أن تهتم بما ينبغي أن تهتم به، على حساب الأمور الأخرى التي تشتت انتباهك واهتمامك. ويأخذك في صفحاته التي تتجاوز المائتين ليحاول التدليل على رأيه.
يقول مارك مانسون في بداية كتابه: "لقد اهتممت اهتمامًا زائدًا بأشياء كثيرة في حياتي، وأبديت أيضًا قدرًا من اللامبالاة تجاه أشياء كثيرة أخرى. ومثلما هي الحال مع الطرق التي لم نسر فيها، فقد كانت اللامبالاة التي أبديتها هي ما صنع الفرق كله". مرددًا صدى قصيدة روبرت فروست: "الطريق الذي لم أسلكه".
مانسون كاتب أمريكي سبق له أن ألف كتابًا عن كيف تجتذب النساء (من خلال الصراحة)، وهذا هو كتابه الثاني، ولكن أبرز ما يمكن أن تلاحظه هو صغر عمره نسبيًا على أن يؤلف كتابًا الغرض منه أن يعلِّم القارئ الكثير عن الحياة، هو من مواليد عام 1984 وعمره 34 عامًا.
يبدأ الكاتب فصله الأول بعنوان "لا تحاول" وهما الكلمتان المكتوبتان على شاهد قبر الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي، ويستخدم مانسون هذا الشعار ليشير إلى أن الضغط المجتمعي يدفعك لأن تحاول من أجل الحصول على المزيد، بدون أن تكون بحاجة إليه حقًا. يختار مانسون نموذج بوكوفسكي، ليس من منطلق عبقرية شعره، ولكن من منطلق تقبله لنفسه ككاتب فاشل، وصدقه في التعبير عن ذلك، مما جعل لأعماله قيمة كبيرة وكُتب لها النجاح.
يدلل المؤلف على أفكاره بذكر عدة بديهيات مثل كونك لست شخصًا مميزًا، أو ضرورة الألم في الحياة، أو أن أخطاءك عادة ستكون أكثر من التصرفات أو الخيارات الصحيحة التي ستقوم بها. ويختتم كتابه بملامح وجودية فيتحدث عن ضرورة تقبل الموت وأهمية ذلك وتأثيره على تعاملنا مع الحياة.
رغم أهمية بعض ما يقوله المؤلف، إلا أنه كعادة العديد من تلك الكتب، ينزع إلى تبسيط كل شيء، فمعظم القصص التي يسردها لها بداية ووسط ونهاية، أشبه بالقصص المؤلفة منها بالقصص الواقعية: ديف موستين المغني الرئيسي وعازف الجيتار في فريق ميجاديث ظل يشعر بالفشل لأنه طُرد من فريق ميتاليكا، في حين تجاوز عازف الدرامز بيت بيست هذا الشعور وعاش حياة سعيدة رغم طرده من فريق البيتلز، ما الدليل على ذلك؟ لقاء تلفزيوني لكل من موستين وبيست تحدث فيه أحدهما عن تعاسته وتحدث الآخر عن سعادته؟ ألا يمكن أن تكون هذه اللقاءات وليدة اللحظة؟ أليست الحياة أعقد مما يصرح به نجم موسيقي في لقاء تلفزيوني؟
في أحيان أخرى نشعر أن الكاتب متناقض، ففي مرة يتحدث عما يسميه "بَصَلة إدراك الذات" التي تبكينا/تؤلمنا كلما قشرنا منها طبقة، وبعدها يكتب عدة صفحات عن ضرورة التقدم والانفتاح على الإمكانيات، وذلك على حساب جملة "اعرف نفسك"، نقطة انطلاق البحث الفلسفي اليوناني القديم، لأنها في رأيه "خطرة، لأن من الممكن أن تجعلك تتجمد ضمن دور محدد تمامًا".
يقضي المؤلف وقتًا في إقناع قارئه أنه لن يكون مميزًا في كل شيء، يذكر مثلًا أن "الرياضيون المتميزون أشخاصًا بليدين ذوي تفكير ضحل كأن الواحد منهم صخرة كبيرة من غير عقل". (لا نعرف تأثير هذه الجملة على صلاح!) ويسعى المؤلف أن يتقبل القارئ كونه شخصًا عاديًا، وأن قدرًا كبيرًا من حياته سيقضيه في أمور تافهة ومملة، وهذا أمر هام بالفعل، ألا تُضَخِّم من مكانة نفسك. ولكن في رأيي لا تصلح هذه الافتراضات مع جميع الناس، هناك أشخاص متميزون بالفعل، منهم محمد صلاح نفسه، نجاحاتهم وإخفاقاتهم مميزة كذلك وغير عادية، وبالتأكيد هو مصدر إلهام لجميع من حوله ومن يتابعه، وفي هذا مسؤولية عليه، وعليه أن يكون واعيًا بها حتى لو قرر أن لا يتحملها.
ولكن نقطة الضعف الأكبر –في رأيي– في الكتاب وفي العديد من الكتب في هذه النوعية، تظهر حين يتحدث المؤلف عن تجربته الشخصية، وكيف مر بصعوبات فتجاوزها وصار أفضل حالًا، هذا الذي يوحي للقارئ بأهمية تعميم هذه التجربة حتى لو لم يصرح الكاتب بذلك، ويتم تجاهل أن لكل شخص وضعه المختلف، الناتج عن مجتمع وطبع شخصي بعينه.
اقرأ أيضًا: أدب التنمية الذاتية.. هيبتا على خطى باولو كويللو
ينطبق هذا حتى على مجال كرة القدم. وإذا اتخذنا من منتخبنا نموذجًا؛ لدينا صلاح، اللاعب العالمي الآن رغم أنه لم يستطع أن يلتحق بناد مصري كبير في البداية، وفشلت تجربته الاحترافية في أول ناد كبير في الخارج، قبل أن يصير من أفضل لاعبي العالم. ولدينا الحضري الذي كان حارسًا محدودًا في بداية حياته، قبل أن يتعملق في نهايتها. ولدينا رمضان صبحي الصبي المعجزة الذي كان نجم أكبر ناد في مصر، قبل أن يتلاشى توهجه تمامًا في الخارج. هذه ثلاثة أنماط مختلفة، لا يمكن أن تنطبق عليها النصائح نفسها المتعلقة بالاهتمام وعدم الاهتمام وحق الانفتاح والرفض، فكل شخصية لديها مسارها واختياراتها، وحقها في الاهتمام حتى بالأمور التافهة.
حملت الترجمة العربية بعض الأخطاء الطفيفة مثل القول "يشبه هذا ما حدث لي عندما دست في بقعة من أسيد حارق فصرت أحس البيت يبتعد عني كلما سرت في اتجاهه أكثر". (صـ 19) والمقصود أن يكون الشخص خاضعًا لتأثير عقاقير الهلوسة. "It’s like this one time I tripped on acid".
أو في قول: "يرغب معظم الناس في الحصول على المكتب الأفضل"، (صـ52) والمقصود المنصب الأفضل أو الأعلى. "most people want to get the corner office"
أو اعتبار بيتر باركر الرجل الوطواط بدلًا من الرجل العنكبوت (صـ 126)، ولكن في المجمل كانت الترجمة سلسة ومناسبة للكتاب.
لن يكون الكتاب مشبعًا لبعض القراء، ولكنه سيكون ممتعًا ومفيدًا لصلاح، على الأقل أكثر إمتاعًا من كتاب فجر الضمير، وكذلك للعديد من القراء الآخرين. وهنا نتحفظ على التعالي على هذا النوع من الكتب، فهي فرصة جيدة لصلاح وجمهوره من بعده أن يعرفوا شيئًا عن بوكوفسكي والفلسفة اليونانية والبوذية، خاصة إذا سلمنا أنه –وجمهوره- لا يقرأ أخبار الأدب.
اقرأ أيضًا: من نجريج إلى آنفيلد.. صلاح يركض في الاتجاه الصحيح
محمد صلاح نجم celebrity لم يكن لدينا مثله من قبل، بالطبع كان لدينا عادل إمام وعمرو دياب وعمر الشريف، نجوم تقلدهم جماهيرهم، ولكننا هذه المرة أمام نجم تكتب عنه الصحف العالمية يوميًا، ووصل لما وصل إليه بجهده ونحن متأكدين من ذلك لأننا رأيناه بأعيننا، بالتالي حينما يجده متابعوه يقرأ؛ فسيقتفون أثره. وهذا أمر إيجابي حتى لو بدأ بكتاب في التنمية البشرية.