من متابعتي للأحداث والآراء والمقدمات التحضيرية للجمعية العمومية غير العادية للأطباء المقرر عقدها غدًا في 22 يونيو، والتي تأتي كرد فعل بعد فشل جمعية سابقة عقدت في 11 مايو الماضي مباشرة، أظن أنه ما زالت هناك عدة خطوات مفتقدة كان من المفترض قطعها قبل الوصول لذلك الموعد.
تصدّى لدعوة الجمعية القادمة تيار نقابي ثانٍ يتزعمه الدكتور خالد سمير، وهو أستاذ جامعي وعضو سابق في مجلس النقابة العامة، أخفق في المنافسة على موقع النقيب في انتخابات 2015.
انتهز هذا التيار الفرصة ليعلن عن نفسه في أعقاب فشل الجمعية السابقة، والتي يتحمل مسؤولية فشلها جزئيًا تيار أطباء الاستقلال بزعامة الدكتورة مني مينا، وهي المجموعة المسيطرة على النقابة العامة للأطباء ومعظم النقابات الفرعية منذ 2013 وحتى الآن.
جاءت الجمعية السابقة كما تأتي الجمعية القادمة في نفس السياق، وهو تقديم الدعم للطبيب محمد حسن الذي كان قد تعرض لحكم قضائي قاس بسبب (مخالفة) ارتكبها في حق وكيل نيابة. الجديد هذه المرة هو تعلق الداعين لتلك الجمعية بضرورة الحوار مع السلطة، وكأنما كانت القطيعة مع السلطة هي ما تسبب في فشل الجمعية السابقة.
أرى أنه ما زال هناك تشوش كبير فيما يخص رؤية الأطباء للوسيلة الأكثر تأثيرًا لإرغام السلطة على تنفيذ مطالبهم، وأظن أن تلك الأمور يجب تداركها إذا ما قُدّر لتلك الجمعية الطارئة النجاح على عكس سابقتها.
تبدو المطالب المرفوعة للجمعية القادمة لإعتمادها، ليست فقط براقة للغاية، ولكن أيضًا نقابية صرفة، مثلا قضية تأمين الأطباء أثناء عملهم، والمطالبة بمنع حبس الأطباء في القضايا المهنية والإسراع في إعادة مناقشة مشروع قانون المسؤولية الطبية بمجلس النواب، والتعديات على مهنة الطب من دارسي العلوم الطبية، والتعسف الإداري ضد الأطباء، ورسوم الدراسات العليا و ضرورة تحمل وزارة الصحة لها، بالإضافة إلى ذلك هناك دعوات لتبني مطلب زيادة الأجور وتطبيق بدل العدوى الذي أقره القضاء، إلا أنني أظن أن إطلاق تلك المطالب المقبولة ليس كافيًا في حد ذاته لإنجاح الجمعية القادمة، وهذا ما سأوضحه حالًا.
ضرب الأطباء سيستمر لهذا السبب
أولى الخطوات المفتقدة، من وجهة نظري، هي عدم وجود تفسير متفق عليه لتنامي ظاهرة الاعتداء على الأطباء في أماكن عملهم. وأظن أن تفسيرات من قبيل أن السبب قد يكون تحريض الإعلام ضد الأطباء أو عدوانية مرافقي المرضى أو سوء تعامل الطاقم الطبي لا تعكس الحقيقة الكاملة. إن ما يهمني هنا هو أن الغالبية العظمى من تلك الحوادث تحدث في المستشفيات العامة والمركزية ولسبب وحيد في معظم الأحوال ألا وهو نقص الإمكانيات.
أظن أنه قد آن الأوان لنعترف أن نقص الإمكانيات هو السبب الرئيسي فيما يخص قطاع المستشفيات العامة والمركزية، وما يتبعه من تحويل للكثير من الحالات وإهدار الوقت والمجهود، وهنا قد يحدث سوء التفاهم، هكذا يتم وضع الأطباء في مواجهة جمهور غاضب لا يهمهم التفرقة بين الإهمال الطبي ونقص الإمكانيات، وباستمرار السياسة الحالية الخاصة بتقليص الدعم لهذا القطاع الذي يضم معظم الأطباء، سوف تتزايد تلك الاحتكاكات، فهذا القطاع هو الأكثر ارتباطًا في الوعي العام بفكرة مسؤولية الدولة عن توفير الخدمة الصحية والعلاج المجاني للمرضى وبالذات الفقراء منهم.
أعتقد أن تقليص دعم هذا القطاع يحدث بالتزامن مع دعم غير مباشر لقطاع آخر، هو قطاع المستشفيات الجامعية الذي توحش تمامًا حتى أنه يقال إنه يعالج 75% من المرضى، ولمَ لا؟ فهذا القطاع هو الأقل ارتباطًا في الوعي العام بحق العلاج المجاني وهذا القطاع هو، في نفس الوقت، خط إنتاج وتدريب وتطوير الفئة الأكثر أهمية والأكثر حظا من الأطباء، فئة أساتذة الجامعة، الذين لا يشكلون أكثر من 10% من الأطباء ولكنهم يحتكرون كل شيء حرفيًا.
هؤلاء لن يشاركوا في أي إضراب لهذا السبب
ثاني الخطوات المفتقدة، من وجهة نظري، هي اختلاط الأمور بخصوص "نجاعة" سلاح الإضراب أو الاستقالات الجماعية، السؤال الذي يطرح نفسه هنا، عن حق، هو: من هي القطاعات التي ستشارك في تلك الإجراءات؟ ما هي الأهمية النسبية لكل قطاع من حيث قدرته على علاج أية نسبة من المرضى؟ الحقيقة القاسية هي أن منظومتنا الطبية العامة، عوضًا عن التطور في اتجاه طريق التكامل لتشكل هيكلًا ثلاثي المستويات، انحرفت - بقدرة قادر- بحيث يتم وضع مكونات تلك المنظومة في مواجهة بعضها البعض، المستشفيات الجامعية والمؤسسة العلاجية والتأمين الصحي وقطاع الطب العلاجي (المستشفيات العامة والمركزية).
لا داعي لإعادة الكلام المعروف حول توسع وتطور قطاع المستشفيات الجامعية والوضعية التمييزية للعاملين به من الأطباء أساتذة الجامعة، والسماح لهم بالجمع بين العمل في القطاع الطبي العام والخاص والتأمين الصحي والمؤسسة العلاجية، مع وجود تعارض ظاهر للمصالح، من هنا أشك تمامًا في وجود معاناة مهنية من أي نوع لدى هذه النخبة. وبناء على ذلك، أشك تمامًا في إمكانية انخراط هذا القطاع في ممارسات مثل الإضراب أو الاستقالات الجماعية.
وباستبعاد مشاركة قطاع المستشفيات الجامعية شديد الأهمية، من حيث نسبة المرضى المترددين عليه، كما أوضحت، وكذلك قطاعات أخرى أقل تميزًا، مثل المؤسسة العلاجية والمستشفيات التعليمية، أشك كثيرًا في أهمية أسلحة مثل الإضراب والاستقالات الجماعية في إطار المنظومة الطبية القائمة حتى لو التزم بها 100% من أطباء المستشفيات العامة والمركزية، وهذا أصلًا من رابع المستحيلات.
.. والحل الوحيد؟
ولنكن واضحين إن السلاح الوحيد المتبقي للأطباء إذا أرادوا توصيل رأيهم بشكل قوي للرأي العام وللسلطة في نفس الوقت، هو القدرة على عمل وقفات احتجاجية بمقر النقابة العامة والنقابات الفرعية، وقفات احتجاجية لنقل رسالة واضحة وموحدة تفضح خطط الحكومة وتكشف عيوب سياساتها الصحية وتطالب الرأي العام بفتح عيونه لمعرفة الحقيقة، مثل تلك الوقفات لا تقوم على الحشد في حد ذاته ولكن الحشد المنظم، أي أن تكون تلك الجموع قادرة على الإدارة الذاتية والمناقشة المنظمة لكل البدائل واتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي.
بعيدًا عن خداع الذات، يبدو لي أن هذه الوسيلة هي الأنسب في اللحظة الراهنة، وفي حال نجاحها ستكون نموذجًا يمكن تكراره. ذلك إذا كان المقصود فعلا هو التعاطف مع الطبيب محمد حسن، أو أي طبيب آخر قد يدان بسبب ما تفرضه شروط المهنة وهذا غرض نبيل في حد ذاته، أما إذا كان المقصود هو استغلال اللحظة لأغراض أخرى مثل إخلال توازن القوى بين التيارين المتنافسين: تيار قائمه أطباء الاستقلال المسيطر وتيار خالد سمير المنافس فهذا أمر آخر.
يرى التيار النقابي المنافس صاحب الدعوة الأخيرة، ضرورة التواصل مع السلطة ويحاول فرض آلية يرى أنها كفيلة بحل كل مشاكل الأطباء، عن طريق محاولة عمل (لجنة تواصل) مع السلطات الثلاث، كما يدعي، تمنح فترة 6 أشهر لحل مشاكل الأطباء.
انفجار كبير قادم
في المقابل يرى التيار النقابي المسيطر أن التواصل مع السلطات يجب أن يتم من خلال نقابة الأطباء، وأن أي التفاف على دور النقابة سيشكل خطورة عظيمة على مصالح الأطباء، ويرفض هذا التيار وضع هذا البند على جدول أعمال الجمعية المرتقبة. هذا الأمر الأخير بالذات هو ما ينذر بانفجار كبير في اللحظات الأولى لهذه الجمعية.
ولكن بعيدًا عن تلك التجاذبات وليدة اللحظة الراهنة بين التيارين المتنافسين، فإن المؤكد أنه ليس لدى الغالبية العظمى من الأطباء شكوك كبيرة في أن هذا التيار المسيطر يعتبر ممثلهم الوحيد، وأيا كانت اعتراضات بعض المهتمين، وأنا منهم، على أداء هذا التيار إلا أنه يجب احترام هذه الحقيقة، فهذا هو التيار الذي انتخبته غالبية من اشترك في انتخابات 2013 و2015 و2017 على التوالي.
لنكن أكثر وضوحًا، وبعيدًا عن تلك التجاذبات بين الفريقين المتنازعين، أنه يجب التأكيد على أن اقتراح (لجنة تواصل) لا يعدو كونه خدعة كبيرة، فكل عاقل يعرف متى تستمع السلطة، أية سلطة، للنقابات.
وكل عاقل يعرف أن تفتت وتناحر كتلة الأطباء هو جل ما تريده السلطة، إذا كانت المجموعة المسيطرة قد تسببت في عزوف الكثير من الأطباء عن العمل العام، بدليل فشل الجمعية الأخيرة وتدني نسبة مشاركة الأطباء في الانتخابات النقابية، فإن المجموعة المنافسة قد تتسبب في تقويض نشاط النقابة نهائيًا.
والمؤسف حقًا أنه لا أحد من المجموعة المسيطرة على النقابة ولا من المجموعة المنافسة لديه خريطة طريق واضحة لكيفية وقف الاعتداءات على الأطباء في ظل تقليص الدعم ونقص الإمكانيات، ولا أحد من الفريقين لديه تصور واضح عن آليات حقيقية فعالة لتحقيق وضع أفضل للسواد الأعظم من الأطباء، ولا أحد من الفريقين، فيما أظن، لديه تصور دقيق عما يمكن أن يكون سبب الخلل في منظومتنا الطبية.
لذلك هم في واد ومعظم الأطباء في واد آخر، ولابد من طريق ثالث ينادي بضرورة منع من يعملون بالقطاع الطبي العام في كل مستوياته من العمل في نفس الوقت في القطاع الطبي الخاص، أسوة بكل المنظومات الطبية المنضبطة، لما في ذلك من تكافؤ للفرص وإمكانية خلق مشترك نقابي وإنساني بين عموم الأطباء.