في 27 شارع شريف بوسط البلد*، يوجد قصر باهر، ذَبُل بريقه تحت أطنان التراب وعقود من الإهمال والتشويه.
إنه قصر البارون دي جليون.
بُني هذا القصر عام 1872، وكان يقع مكان حلبة قديمة لسباق الخيل. البيت من تصميم المهندس المعماري الفرنسي أمبرواز بودري Ambroise Baudry 1838 - 1906، الذي عاش في القاهرة في الفترة من 1871 وحتى 1886، وهو أيضا مصمم عمارة متاتيا الشهيرة في العتبة، والتي هدمت عام 1999.
بودري أيضا هو أحد المهندسين المشاركين في تصميم وتنفيذ سراي الجيزة، تلك السراي الهائلة التي بناها الخديو إسماعيل وكانت حديقة الحيوان الحالية جزءا من بساتينها. هُدمت السراي نحو عام 1903، ويوجد مكانها حاليا مباني كلية الزراعة. من أعماله أيضا منزل مليونير القرن التاسع عشر الشهير روفائيل سوارس.
لنترك الآن المهندس ونعود إلى البارون.
اسمه بالكامل هو ألفونس ليوبولد ماري ديلور دي جليون. ولد عام 1843 في باريس، وتوفي في 1899. كان والده جنرالا في الجيش. تخرج مهندسا من مدرسة باريس للمناجم عام 1864.
الصورة التالية للبارون من رسم الرسام المستشرق الشهير جدا جيروم:
عاش البارون في مصر لأكثر من عشرين عاما، وكان أول مدير لشركة مياه الأسكندرية التي أنشئت عام 1860، وظلت شركة خاصة لنحو مائة عام قبل أن يؤممها عبد الناصر. وهو أيضا مؤسس شركة مياه القاهرة عام 1865، والتي أممها عبد الناصر أيضا عام 1957. أنشأ البارون في القاهرة مصنعًا كبيرا للثلج والبيرة، كما بنى ثلاث مدارس في الصعيد.
نعود الآن إلى قصره المنسي بشارع شريف. هذه صور قديمة للقصر
بمقارنة الصور بحال القصر الآن، نجد أنه تعرض لتعديلات كثيرة. أولها؛ صار هناك مبنيان يلتصقان به من اليمين واليسار، وقد أدى هذا إلى تدمير واجهاته الجانبية التي كانت تمتلئ بالعناصر المعمارية الإسلامية، كما يظهر من الرسومات التخطيطية للقصر:
تذكر بعض المصادر أن القصر (أو الفيلا) يقع في شارع المناخ (الاسم القديم لشارع عبد الخالق ثروت). شارع عبد الخالق ثروت يتقاطع مع شارع شريف قريبا جدا من القصر، وعلى هذا فربما كانت حديقة القصر تمتد حتى شارع عبد الخالق ثروت، وقد بنيت عليها الآن عمارتين أو ثلاثة.
ثانيا؛ تمت تعلية البيت بدور إضافي قبيح، لا يتصل على الإطلاق بالطراز المعماري للمبنى. أدى هذا إلى تدمير العرائس (الأشكال التي تزين السور على السطح)، والقبة التي تظهر في الصورة القديمة. وثالثًا؛ تم إغلاق المدخل والنوافذ بالحديد. رابعا: فُقدَت المشربية الخشبية التي كانت تزين الواجهة، وأخيرا: تم تدمير جزء من واجهة البيت لعمل محل تجاري.
بيع البيت عام 1914 لتاجر لوحات يدعى موريس ناهمان، استعمل المكان كمتجر للتحف والأنتيكات لسنوات طويلة.
تم تأميم المبنى عام 1960 تقريبًا، فحصل عليه بنك الأسكندرية الذي حوله إلى أحد فروعه.
في 12 مارس 1995 تم تسجيل المكان كأثر بأمر من رئيس الوزراء. بعدها دارت معركة قضائية طويلة بين بنك الأسكندرية الذي أراد استرداد المبنى، ووزارة الآثار التي تمسكت به. في 2013 صدر أخيرا حكم قضائي يؤيد قرار تسجيل المبنى كأثر، وبذلك يخرج بنك الأسكندرية من الموضوع، ولا يتبقى من أثره سوى الثقوب التي تركتها لافتته المنزوعة عن الواجهة.
هناك الآن لافتة بائسة من الورق المقوى مكتوب عليها بخط اليد أن المبنى تابع لوزارة الآثار.
المبنى في حاجة ماسة إلى الترميم، وهو متروك في حالة من الإهمال التام، ولا نعرف ما هي حالته من الداخل.
القصر يصلح لأن يكون مقرا لمتحف، خاصة وأن قاعاته الداخلية مليئة بالزخارف واللوحات الفنية، لكنه متروك ليتداعى، شأنه شأن كل شيء آخر في مصر.
(*) تذكر بعض المصادر أن رقم القصر 23