تزيد وطأة الصمت كلما اقتربت من الجبل، يقل ضجيج سكان المقابر الذين يملأون كل شبر فيها؛ تُربيّة ومتعاطون وهاربون من أشياء مختلفة، أسر كاملة تعيش في المقابر، شحاذون بلا نبلاء، تتركهم خلف ظهرك وتكمل طريقك إلى الجبل حتى يطل عليك "الخلوتي"، منحوتًا على حافة الجبل، تبدو بقاياه كمن تنتظر لحظة الانهيار الأخير.
كلما توغلت في الطريق أكثر كلما انتظمت الشوارع، حتى تتحول المنطقة إلى مربعات ومستطيلات هندسية منتظمة، شوارع طولية تقاطع شوارع عرضية وقطع من الأرض قسمت وبيعت ووزعت لدفن الموتى، يستمر المصريون في دفن موتاهم هنا مثلما فعلوا طوال مئات السنين التي مضت.
لكن بمجرد الوصول إلى حافة الجبل يختلف الوضع تمامًا، يظهر المسجد الأسطوري المنحوت، يطل من أعلى كأنه خارج من عباءة الزمن فيبدو غريبًا عن التخطيطات الهندسية لعصر الستينيات الذي أنتج لنا شوارع متوازية متعامدة، فتترك الحاضر وراءَك وتصعد إلى الماضي، ولتصعد عليك أن تتسلق ولا تنظر خلفك، لإنك إن نظرت خلفك ستسقط وتعود إلى الحاضر مجددًا.
ركّز بصرك على موضع قدميك لأن حافة الجبل ضيقة والصخور تتحرك وتنذرك بالانزلاق الأخير. تشدّد لأن المغامرة تستحق.
بدأت القصة من سقوط الخلافة الفاطمية الشيعية في مصر، وتحوّل البلاد إلى المذهب السني على يد صلاح الدين الأيوبي. في سبيل تعزيز المذهب السني في استورد صلاح الدين كبار مشايخ الصوفية من إيران، السُنيّة في ذلك الوقت، فوفد مصر كثير من المتصوفة يمارسون عباداتهم، وليختلوا في الخنقاوات، خاصة عند جبل المقطم، والذي كان يعتقد أنه مكان مقدس لأن فيه غراسًا من أهل الجنة.
شاهين الخلوتي من إيران، وقد ولد في مدينة تبريز، وانتقل إلى مصر حيث أصبح واحدًا من مماليك السلطان قايتاي، ثم ترك حياة الجندية ليختلي في هذا المكان على جبل المقطم. ظل الشيخ العارف بالله شاهين الخلوتي ثلاثين عاما يتعبد في هذا المكان دون أن ينزل من الجبل، كما يقول عنه علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية.
بعد وفاة الشيخ شاهين الخلوتي، بنى له ابنه جمال الدين هذا المسجد في الموضع الذي كان مختليا فيه عام 1538. دُفِن الشيخ الخلوتي في قبر تحت القبة الملحقة بالمسجد، ودفن معه أيضا ابنه جمال الدين، ثم الشيخ محمد شاهين (كما يذكر عبد العزيز النابلسي في كتاب رحلاته).
اليوم لم يتبق من القبور الثلاثة سوى حفرة فارغة.
المسجد في حالة سيئة للغاية، ورغم أنه مسجد فريد من نوعه باعتباره الوحيد في مصر المنحوت في أحجار الجبل، فإنه يعاني من إهمال تام من وزارة الآثار.
أسفل صحن الجامع توجد خلاوي الصوفية، وهو تصميم غريب وغير معتاد، وقد استفاد فيه المصمم من الموضع الفريد للمبنى على حافة الجبل واستغل فيه المساحة الموجودة أسفل الصحن.
هذه الكهوف هي خلاوي للصوفية الذين كانوا منقطعين للعبادة، والتي كان يمتلئ بهم جبل المقطم. يقال إنه كانت هناك درجات منحوتة للوصول إلى هذه المغارات لكنها اندثرت الآن، وهناك رأي آخر بأن الصوفي كان يتم إنزاله بواسطة حبل من قمة الجبل إلى المغارة، وربما يكون هذا هو الرأي الأرجح إذ لا يوجد أثر لتلك الدرجات المنحوتة.
هذا هو النص التأسيسي للمسجد، وهو الوحيد المتبقي من ستة نصوص كانت موجودة قبلا، وتمت سرقتها تباعا.
على الرغم من الصعوبة الفائقة للوصول إلى المسجد، إذ لا يوجد طريق ممهد يوصل إليه ويحتاج إلى تسلق الجبل، إلا أن بقايا المسجد ممتلئة بآثار عبث العابثين، الذين سرقوا النصوص التأسيسية ونزعوا رخام المحراب وكل ما له قيمة في المسجد، كما تركوا كتاباتهم على جدرانه.
المسجد يتدهور أكثر فأكثر سنة بعد أخرى. تبين لنا مثلا هذه الصورة الملتقطة للمسجد في أواخر القرن التاسع عشر، أن هناك قبة صغيرة توجد خلف المئذنة، وهي غير موجودة الآن، كما أن الطابق الثالث كان لا يزال بحالة مقبولة، واليوم هو شبه مدمر. لاحظ أيضا أن القبة الضريحية الموجودة في يسار الصورة اندثرت الآن أيضا.
مسجد فريد على حافة الجبل يطل على المدينة، أو ما بقي منه يطل على ما بقي منها، مغلق مثلها تمامًا، ما لم يُنهب بات مهدومًا أو شبه مهدوم، الأحياء حوله يعيشون حول شواهد قبور أمواتهم، أما نحن فننتظر لحظة الانهيار الأخير، عندما لن يبقى من المسجد سوى بعض الصور.