بعد أسبوع شاق من العمل في بيع قطع غيار السيارات، يتوجه محمد إبراهيم إلى الملعب الخماسي بجوار منزله.. مواظبًا على اللعب وتطوير أدائه، انتظارًا ليوم يصبح فيه واحدًا من هؤلاء اللاعبين، الذين تملأ صورهم الشاشات ولوحات الإعلانات المتناثرة على طول الطريق من "عزبة شلبي" بالمطرية، إلى اختبارات الكرة في النوادي الكبرى.
يسكن محمد إبراهيم (22 عامًا) في عزبة شلبي الواقعة بشمال القاهرة، إحدى أشهر مناطق بيع قطع غيار السيارات في مصر، والتي يعمل فيها مئات شباب والأطفال. طوال السنوات العشر التي لعب فيها محمد الكرة، لم يكف عن السعي لتحقيق حلمه باللعب لصالح أحد اﻷندية الكبرى. فإلى جانب المواظبة على التمرين واللعب؛ ذهب أكثر من مرة للاختبارات في أكثر من نادٍ على أمل لفت الأنظار لمن يُقدِّر موهبته، لكن جميع المحاولات كانت تنتهي بعدم اختياره لدخول الاختبارات "لافتقاره عامل الواسطة والمحسوبية"، على حد قوله.
يدفع محمد أسبوعيًا نحو 80 جنيهًا مقابل حجز أراضي "النجيل الصناعي" التي أخرجت العديد من المواهب، منهم من حالفه الحظ من أصدقائه فحجز مكانًا على خريطة الكرة، مرورًا بمراكز الشباب نحو أكبر الأندية المصرية.
لكن مراكز الشباب ليست عُصيّ سحرية للنجومية الكروية؛ "مراكز الشباب سلبية" قالها مصطفى جلال (20 عامًا) في معرض وصفه لحالة الملاعب السيئة بتلك المراكز، ما يجعل الملاعب الخاصة ملجأهم الوحيد للحفاظ على لياقتهم وما يرونه في أنفسهم من موهبة.
تمتلئ الملاعب الخاصة يوم إجازة عمال وشباب عزبة شلبي، يتنافسون قبلها على مستوى محلات وورش العزبة، فيأتي كل شاب أو عامل بفريق، ويتحدى غريمه أو صديقه في الورشة المجاورة، مقيمين ما هو أقرب إلى "دوري" للورش.
محمود سامي، يلقبه رفاق اللعب بـ"البارودي"، لا يتذكر وقتًا من حياته لم يكن فيه مفتونًا بلعب الكرة "أنا من ساعة ما وعيت على الدنيا دي وأنا بلعبها". بدأ محمود يلعب الكرة في شارعه ثم مدرسته التي صار لاعبًا في فريقها خلال منافساته في دورات اللعبة التي تقام على مستوى الإدارات التعليمية.
يفخر البارودي بمدى تطور مستواه، الذي يعود إلى تكرار لعبه على مختلف الملاعب الخاصة المقامة في تلك الساحات الشعبية بغرض الاستثمار والتربح. أما مراكز الشباب وملاعب الدولة ووزارة الشباب التي لعب بها؛ فلم تعبر به إلى بر الأمان، ما دفعه لمحاولة الوصول بنفسه عن طريق الاختبارات في الأندية.
يكرر سامي ما قاله محمد إبراهيم جاره وزميل اللعب "كالعادة الاختبارات بالوسايط"، ويَحكِي أنه شهد من تُسجَل أسماءهم كناجحين في تلك الاختبارات قبل أن يؤدوها، "عشان عندهم واسطة ويعرفوا ناس جوا النادي". الأمر الذي لم يقتصر فقط عليهم، بل على كُبرى الأندية المصرية "فيها لعيبة حاجزين مكان وملهمش علاقة بالكورة"، حسبما يقول البارودي.
ماذا قدَّمت الدولة؟
يبلغ عدد مراكز الشباب في مصر نحو 4072 مركزًا، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتعمل وزارة الشباب والرياضة على تطوير وإنشاء 2000 ملعب بنظام النجيل الصناعي تعترف بهم الدولة، مزودين بأعمدة الإنارة الكاشفة داخل مراكز الشباب في جميع المحافظات، بالإضافة إلى التعاون بين وزارة الشباب ووزارة الإنتاج الحربي في إنشاء مصنع لإنتاج نجيل صناعي محلي وتصدير الفائض.
لكن كل هذا يصب في مصلحة زيادة الاستثمارات في الملاعب وتأجيرها، ومكاسب المصانع وإنتاجها؛ لا في اللاعبين. غير أن هناك أضعاف ذلك العدد من الملاعب –ومئات آلاف اللاعبين- بين الأراضي الزراعية في الأقاليم، والمباني السكنية في الأحياء الشعبية بالمدن الأخرى، ولا تعرف الوزارة عن اؤلئك شيئا، وتوجد دلائل تشير لكون كثير منها غير مطابق للمواصفات القياسية الآمنة.
السم في العسل
لم يتوقع محمود السيد (25 عامًا) أن التحامه مع أصدقائه سيحمل هذه المرة ما لم يرد في خاطره.. سقط على أرضية الملعب وتألم بشدة، ظن أنها إصابة عادية. ولكن حينما حاول الوقوف؛ فشل وسقط أرضًا، ليحمله رفاقه إلى خارج الملعب.
ذهب السيد لطبيب قال له إن إصابته سببها الأساسي لعبه على أرضية رديئة. وبعد عدة فحوصات أخبره أنه مُصاب بقطع في الرباط الصليبي، ليدخل في نوبة بكاء بعدما فرصة عرف أن عودته للملاعب شبه معدومة، وأن ممارسته لكرة القدم مرة أخرى باتت مرهونة بخوض رحلة علاج تستمر لنحو عام.
لا توجد إحصائية صادرة عن أية جهة رسمية أو أهلية يمكن من خلالها التعرف بدقة على إصابات الملاعب. تنتشر الإصابات بالتواء الكاحل وتمزق الأربطة والتواء العضلة والشد العضلي وقطع الرباط الصليبي ومفصل الركبة، لرواد ملاعب الخُماسي. يقول من تحدثنا إليهم إن الأطباء يرجعونها لرداءة الملاعب ثم انعدام ثقافة الإحماء عند الممارسين.
هناك ملاعب تستخدم طبقات رديئة من النجيل الصناعي تجعل اللاعبين أكثر عرضة للإصابات، فضلًا عن الطبقة الصلبة بالأسفل التي تجعل عنف وضرر رد فعل الارتطام أو الالتحام أضعاف ما يمكن أن يحدث على النجيل الطبيعي.
عشق ممتد
بشراب –جورب- محشو بالقطن وقش الأرز، أو مزيج من الجوارب القديمة مع ربطة مُحكمة، تكتمل "الكرة الشراب" التي لعبها كثيرون في الشوارع والحواري المصرية قديمًا. لم تُفرِّق كرة الشراب بين المدينة والريف، ومثلت بداية الدخول لعالم اللعبة بالنسبة لـ"فراودة" الكرة المصرية أمثال: محمود الخطيب، وحمادة إمام، وحسن شحاتة، ومحمد أبو تريكة وغيرهم، قبل أن يتطور شكل الكرات الملعوب بها حاليًا بتطور الشغف والجنون بها.
رغم كل هذه العواقب والمخاطر وعدم تمهيد الطريق أمام موهوبي الكرة، فإن المصريين يعشقونها ويلعبونها في أي وقت وحين؛ في الشوارع والمدارس والمنازل، بل حتى في مترو اﻷنفاق.
"صلاح لدينا لا خوف علينا"
بالإضافة إلى الأرقام وإنجازات المنتخب المصري أو الأندية على المستوى القاري أو العالمي، فإن نجم محمد صلاح، لاعب المنتخب المصري وليفربول الإنجليزي، بدأ يلمع بعدما قاد منتخبه للتأهل للمونديال بعد غياب 28 عامًا، فضلًا عن المستوى الذي يقدمه مع ناديه، فأصبح ضمه رغبة كبرى الأندية، وعلى رأسها ريال مدريد.
لم يكن طريق صاحب الـ25 عامًا نحو النجومية العالمية مفروشًا بالورود، كان يستقل نحو 4 حافلات من قريته التابعة لمركز بسيون بالغربية إلى العاصمة 5 أيام أسبوعيًا، ليُجري التدريبات ثم يعود لقريته. لكنه رغم هذه الظروف؛ استطاع شق طريق احترافه، وبات أفضل لاعب في إفريقيا وفي الدوري الإنجليزي والأفضل في استفتاء رابطة الكتاب الرياضيين في إنجلترا، وهداف الدوري الإنجليزي بـ32 هدفًا في موسمه الأول مع ليفربول، ووصل مع فريقه لنهائي دوري أبطال أوروبا، فأصبحت الجماهير تتغنى به وتستمتع بأدائه وتنتظر مبارياته وتردد في المباريات المهمة: "صلاح لدينا لا خوف علينا".. لكن هل صلاح وحده كافٍ؟
كل هذا الشغف والتعلق والهوس بكرة القدم والتفاف الناس حولها مشجعين ولاعبين-هواة ومحترفين- قد يجعل من مصر دولة رياضية كروية من الدرجة الأولى، لكن ذلك مشروط باستثمار كل ذلك الشغف بشكل أفضل مع توفير رعاية وبيئة وملاعب. لكن كيف؟
التجربة البرازيلية
تنجب البرازيل أفضل من لمسوا كرة القدم، رغم فقرها وتقشفها في بداية حقبها الحديثة.
ركزت البرازيل على "الفوتسال" أو كرة الصالات الخماسية في صقل مهارات لاعبيها قبل الانتقال إلى الملاعب الكبرى.
كرة الصالات مصممة بوزن أثقل وحجم أقل من الكرة العادية وتُلعب في ملاعب خماسية، أي مصممة ليلعب فيها فرق مكونة من 5 لاعبين فقط، ما يدفع لاعبيها إلى التفكير واللعب بسرعة وتجريب بعض الحركات والمراوغة وتطوير طريقة اللعب.
يدين كبار نجوم الكرة البرازيلية لملاعب الفوتسال بكثير من المهارات التي تعلموها وأهلتهم للانتقال إلى الساحات الكبرى، أمثال: بيليه، زيكو، روماريو، رونالدو، رونالدينهو. فقد جعلتهم تلك الساحات لاعبين مختلفين بتقنيات فنية متعددة، منها إمكانهم الخروج من أوضاع صعبة بمساحات أضيق، وإنهاء الهجمات ولعب الكرة العادية بأداء فني عالٍ.
عملت البرازيل على استيعاب مواهب ومهارات عشرات الملايين المحبين لكرة القدم، من خلال ما يزيد على 10 آلاف نادٍ للفوتسال، فضلًا عن أندية كرة القدم العادية، وتطوير الملاعب والمراكز الرياضية والملاعب المفتوحة، لتخرج ألمع نجوم تحقق العديد من الإنجازات على المستويات الفردية والجماعية.
استثمار قومي
في 2005 كان رعاة كرة القدم في البرازيل يساهمون بنحو 200 مليون دولار في الموسم الواحد، ويقول موقع سامبا-فوت المتخصص في شؤون الكرة البرازيلية إن هؤلاء الرعاة يساهمون الآن بأكثر من مليار دولار سنويًا، وتشير التقديرات إلى مضاعفة هذا المبلغ بحلول نهاية هذا العقد.
الإقبال السنوي المتزايد من الأطفال والشباب على نوادي كرة القدم بمختلف درجاتها جعل البرازيل تستثمر في لاعبيها، فحصدت مختلف البطولات وتربعت على عرش الكرة العالمية، فضلًا عن تحقيق مكاسب اقتصادية.
تساهم كرة القدم في البرازيل بنحو 5% من إجمالي الدخل القومي. وهي تحتل المركز الأول كأكثر الدول تصديرًا للاعبي كرة القدم في العالم، بواقع نحو 1500 لاعب يشاركون في البطولات الدولية والقارية ومختلف الدوريات العالمية، وفقًا لدراسة أجراها المركز الدولي للدراسات الرياضية CIES.
يرجع النمو الاقتصادي البرازيلي في تلك الناحية إلى فتح أسواق جديدة أمام تصدير اللاعبين وتسهيل الحكومة البرازيلية الاستثمارات الرياضية، فلا تجد نادٍ أو دوري أو بطولة إلا وفيها لاعب برازيلي واحد على الأقل يلعب ويلمع نجمه بها، حتى أصبح اللاعبون أحد مصادر توفير العملة الصعبة للبرازيل وجلب الاستثمارات، خاصة في السوق الأوروبية التي تحظى بقوة شرائية عالية، آخرهم نيمار المنتقل من برشلونة الإسباني إلى باريس سان جيرمان الفرنسي بصفقة بلغت 222 مليون يورو، وراتب شهري وصل لنحو 30 مليون يورو كأغلى صفقة في تاريخ كرة القدم.
لكن ماذا يمنع مصر من اتباع خطى البرازيل؟
يقول طه إسماعيل، لاعب الأهلي الأسبق والخبير الكروي، إن شغف الشباب بكرة القدم غير مُستفاد به في مصر.
يضيف إسماعيل لـ"المنصة"، أن كرة القدم في مصر ممارسة شعبية، ولا تقتصر على مشاهدة الدوري العام أو الكأس فقط. لكنها تفتقر البنية الأساسية المتمثلة في مراكز الشباب والساحات والملاعب المفتوحة والصالات المخصصة لممارستها، بدلًا من إقدام الهواة والموهوبين على استئجار الملاعب الخاصة غير الآمنة بمئات الجنيهات.
يؤكد إسماعيل أن مركزية وتكدس القاهرة صعَّبت من توفير مساحات كافية للعب الكرة، بالإضافة إلى خسارة مواهب من الأقاليم تجد صعوبة في اتباع خطى محمد صلاح بالقدوم إلى العاصمة للتدريب ثم العودة لقراهم بشكل شبه يومي، مشيرًا إلى أن مصر من أفقر البلاد في عدد لاعبي الكرة مقارنة بعدد السكان.
الكابتن فاروق جعفر، لاعب الكرة ومدرب الزمالك الأسبق، يقول إن تنمية كرة القدم في مصر أمر ضروري، خاصة بعد وصول مصر لكأس العالم بعد غياب، تزامنًا مع زيادة عدد المحترفين بالخارج.
يضيف جعفر لـ"المنصة"، أن اتحاد الكرة يحتاج لاستقدام خبراء في علم كرة القدم ليخططوا مع نجوم الكرة المصرية والفنيين لوضع إستراتيجية واضحة وتنفيذها في كل المحافظات، مع الاستفادة من مراكز الشباب التي تفتقر الإدارة الفنية، بالإضافة لضرورة عودة دوريات المدارس مرة أخرى والإشراف عليها جيدًا.
يؤكد جعفر على ضرورة استغلال كل هذه الطاقات لتنمية كرة القدم، وعلى الحكومة أن تعمل على إنشاء الأكاديميات ومدارس الكرة وترعى كرة الصالات بشكل جيد، دون ترك ذلك الجهد بكامله للشركات الخاصة الذي تستثمر في "مدارس الكرة" بهدف جني الأرباح دون رعاية المواهب.