قابلت الطبيب البيطري، محمد أمين، في عيادة بيطرية محاطة بالأراضي المزروعة بقرية كوم أبو راضي، التابعة لمحافظة بنى سويف، كنت ضمن لجنة التفتيش على العيادات البيطرية بالمحافظة، والتي تتبع الهيئة العامة للخدمات البيطرية.
تخرجت من كلية الطب البيطري في جامعة بنى سويف عام 2012، وتعينت في البداية كطبيبة في الإدارة البيطرية بمركز الواسطى، ثم انتدبت للعمل بالهيئة العامة للخدمات البيطرية.
كانت العيادة البيطرية أشبه بـ"عشة الفراخ"، ولم أتردد، أثناء تفتيشي عليها، في وصفها بذلك إلى الطبيب أمين الذي يعمل بها، لكنه وافقني وقال لي: "إن عشة الفراخ قد تكون أنظف منها".
داخل وحدة/ عيادة بيطرية
كأي مبنى خدمي في أي قرية تفضل الحكومة أن يكون قريبًا من محطة السكة الحديد أو من طريق عمومي، ليسهل التفتيش عليه من وقت لآخر.
يعمل أمين داخل مبنى لم يجرى له أي صيانة منذ أن بنى في الخمسينات، طفحت مياه الصرف في دورات مياهه، ولم يجد الطبيب حلًا سوى شراء كرسي على حسابه الشخصي ليقعد به خارج المبنى في استقبال الحالات، كذلك الأقلام الجاف التي يکتب بها التقاریر اشتراها على حسابه الشخصي أيضًا، وربما لا يعلم أن الهيئة العامة للخدمات البيطرية اشترت ب791 ألف جنيه أقلام وأدوات كتابية العام الماضي.
تنقطع الكهرباء في قريته شبه يوميًا، ولا يوجد مولد كهربائي بالعيادة، لذلك فإنه يتسول الثلج من البيوت المجاوره له من أجل حماية الأدوية التي تحتاج حفظها في الثلاجة، وهو إجراء غیر کاف، "بس نص العمى ولا العمى کله”، بحسب ما يقول.
كان يعمل معه في العيادة معاون بيطري لكنه خرج مؤخرًا على المعاش، أرسل طلب للإدارة لتعيين معاون أخر لکن قوبل الطلب بالرفض. أصبح "أمين" يعمل طبیبًا ومعاونًا في آن واحد، وقریبًا سيضيف لمهام وظيفته عاملًا بعد أن یخرج العامل على المعاش، ويصبح أمين وحيدًا في العيادة.
جولة تستيف الدفاتر
توقف عن شكواه لي عندما قاطعته الطبيبة البيطرية، شيماء عبد التواب، ضمن المفتشين، وقالت "ليس لدينا ميزانية لأي شئ، بتعيين موظف عام يتطلب موافقة وزارة المالية، وهذا مستبعد حدوثه في ظل تقليص العمالة بالقطاع”. وأوضحت له: "أن فريق التفتيش أتى لمتابعة دفاتر حضوره وانصرافه ودفاتر صرف الأدوية لبیان سير العمل في العيادة”. فدخل أمين لإحضار الدفاتر لها بعد اخبارنا بأن أسهل شيء هو تستيف الدفاتر، ليسرع من انصرفنا عنه.
هذا هو حال جميع العيادات البيطرية الحكومية، تمثل أوضاعها صورة واضحة تحاول الإجابة عن حال الطب البيطرى فى مصر.
تقتصر السياسة العامة التي تحكم بها وزارة الزراعة والهيئة العامة للطب البيطري على دفتر الحضور والانصراف، دفاتر عدد الکشوف التي تدخل العيادة البیطریة والأدوية التي تصرف، لکن يغيب عن أعينهم المشاكل الأساسية، يقول ذلك الدكتور، أحمد عبد الباسط، الطبيب البیطري بعيادة قریه میدوم.
يضيف لي عند مقابلته أثناء جولة التفتيش "إن المفتشين يأتون من ثلاثة جهات: إدارة التفتيش بالمركز، أو الهیئة البيطرية، أو من المحافظة مباشرة، لكن لا يطلبون شيئًا سوى الدفاتر باعتبار أنها المعیار الرئيسي لإتمام عملهم”.
يكمل: "صحيح أن الدفاتر شيئًا مهمًا لضبط العمل داخل العيادات، واكتشاف بؤر الإصابة بالأمراض البیطریة داخل القریة، لكن في المقابل هناك أشياء ليست منطقية في ظل نقص بعض الأدوية والتحصينات المطلوبة"، یرسل سنویًا کمية من الأدویة البیطریة للمدیریة، توزعها على الوحدات، وينبغي على الطبيب بيعها لأصحاب الحيوانات قبل انتهاء صلاحیتها وإلا قد یحول الطبیب للتحقیق، أو يكون مطالبًا بدفع قیمتها.
ترسل الهيئة العامة للخدمات البيطيرية سنویًا کمية من الأدویة للمدیریة، توزعها على العيادات، وينبغي على الطبيب بيعها لأصحاب الحيوانات قبل انتهاء صلاحیتها وإلا قد یحول الطبیب للتحقیق، أو یكون مطالبًا بدفع قیمتها.
على الجانب الآخر فإن مفعول الأدویة ردئ وهو ما يدرکه أصحاب الحیوانات من خلال التجربة، لذلك فإن الطبیب هنا بین أمرین: إما أن یصف علاجًا یاتی بنتیجة حتی یأتیه أصحاب الحیوانات مره أخری، أو يصرف لهم أدوية ضعيفة المفعول فتهجر عيادته. وهو شئ غير منطقى إذ أن الهیئة تدعم الأدویة التي تشتریها من الشرکات ولا تکسب فیها شیئًا.
حال المزارعين
أما المزارعين والمربين فإن يشتكون من ارتفاع ثمن الخدمات المقدمة لهم من العيادات في ظل تدنيها، يحكي لي أحمد توفیق أبو العمدة، وهو مزارع من قرية قمن العروس، في بنى سويف، أن أسعار الخدمات المقدمة من العيادة البيطرية تبدأ ب7 جنيهات لسعر الکشف مقسمة إلى 5 جنيهًا لتسجیل الحيوان و2 جنيه لإصدار بطاقة برقم له.
يركب لكل حيوان رقم في أذنه عن طريق نماره، بعدما تلف الجهاز في العيادة التي يكشف فيها أبو العمدة على ماشيته أصبح العامل يعطيه الرقم في يده، ذات مره ضاع الرقم من أبو العمدة واضطر لشراء رقم جديد حتی یوافق الطبیب علی الکشف.
كان العلاج يعطى بالمجان فی السابق لكن الآن صار أغلى من الصيدلية رغم ضعف تأثيره وأصبحت أي خدمة أخرى من تلقیح أو تجريع أو رش أو تنظیف جروح أو الجس.
أصبح أبو العمدة يعطي ماشيته علاجًا من الصیدلیات الخاصه لان بها أنواع أفضل من الأنواع الموجودة في العيادة، والتي لا تأتي بنتيجة سريعة.
"مصر لا تعرف المراعي و عدد المزارع بها قليل على مستوى جميع الوحدات الموجودة فى قرى مصر المختلفة" يقول الطبيب عوض عدلی والطبيب سمیر نجیب والطبيبة عزة عبد المنعم، العاملين بالهيئة العامة للخدمات البیطریه، فتشوا على مئات العيادات بقرى مصر ولم تختلف الصورة کثیرًا عن الأمثلة السابق ذکرها بل وربما أسوأ، لذلك كانوا أقل مني اندهاشًا، ذات مرة زار الطبيب سمیر نجیب، وعيادة بیطریة بقرية في محافظة الفیوم، كان الطبيب يجلس على مكتب على أرض ترابية تحت سقف وعيادة من البوص.
بحسب بيانات الهيئة العامة للخدمات البیطریة، تخدم كل عيادة بيطرية نحو عشرة إلى عشرين قریة، وهو عدد أکبر من احتمال أي عيادة.
يقول الدکتور عوض عدلی، طبیب بیطري بقسم الرعایة والعلاج في الهیئة العامة للخدمات البیطریه، من واقع البيانات التي يتسلمها شهریًا من مختلف مدیریات مصر، إن متوسط تعداد الحيوانات فی كل كل قرية یصل ل5 آلاف حیوان فی المتوسط. أی أن العيادة تخدم 50 ألف حیوان فی المتوسط.
إذ أن متوسط عدد العاملين في العيادة 3 أطباء وعامل ومعاون، غير أن هذا العدد تعرض لانخفاض مستمر حتى أصبح في حالة "محمد أمين" طبیب فقط في العيادة دون معاون وعامل.
ثلاثة شغلانات لا تكفي
قامت الطبيبة عزة عبد المنعم، العاملة في الإدارة العامة للرعایة والعلاج، بالهیئة العامة للخدمات البیطریة، بتصوير مقطع فيديو خلال تفتيشها علی إحدی الإدارات في محافظة الاسکندریة.
تقول لي إن هذا الفیدیو قمت بتصویره خلال حملة تطعيم الحيوانات ضد الحمى القلاعية وحمى الوادى المتصدع في الإسكندرية قبل عدة أشهر، لاحظت أثر قلة العمالة التی لم تساعد الطبیب علی تعقیم السن وتبدیله عند الانتقال من تحصين لتحصین آخر ومن حیوان لحیوان آخر، وهو شئ يؤثر على درجة فاعلیة التحصین التي يسأل عنها الفلاحون دائمًا.
الطبيب أصبح یحصن ویکتب اسم صاحب الحیوانات ویتقاضی منهم ثمن التحصین، لذلك لا یتفرغ الطبیب لمهمة التعقیم و تبدیل أسنان الحقن وملئ الحقن بالتحصین. زاد عليها أنه أصبح في بعض العيادات وحيدًا فإن خرج للتحصین فی قرى أخرى يغلق العيادة.
تضيف: "وجود اکثر من طبیب فی العيادة یعطی تنوع في التخصصات، أحدهم یکون مسئولا عن التلقیح الاصطناعی وأخر الحیوانات الالیفه واخر حیوانات الحقل وهذا یجعل العمل اسهل و الرعایة البیطریه أفضل".
يبلغ عدد الأطباء البيطريين فى مصر 56 ألف طبيب، ويتخرج سنويًا 4 آلاف طبيب بيطرى من 13 كلية طب على مستوى مصر، لكن عدد الأطباء البیطريین العاملین فی الحکومة لا یتجاوز 15 ألف طبيب بیطري، لذلك فإن نسبة البطالة بين الأطباء البیطریین تتعدى ال18 %. طبقًا لبیانات نقابة الاطباء البیطریین المصریه بعد توقف تعیینات الأطباء البیطریین فی الحکومه منذ حوالی 20 عامًا.
لكن تعيين الأطباء ليس بيد الهیئة العامة للبيطريين أو وزارة الزراعة لكنه بيد وزارة المالیة. بحسب الدکتور حسین الرفاعی مدیر الاداره العامه للرعایه والعلاج، بالهیئة العامة للخدمات البیطریه.
و تابع : أما عن قلة فاعلیة الدواء فالهیئه تتعاقد مع شرکات الأدویه البیطریه بنظام المناقصات وصاحب العطاء الأقل سعرًا یفوز بتورید الأدویة للهیئة التي توزعها على الوحدات البیطریة في قرى مصر و بالتأکید الاقل سعرا لن یکون الاعلی کفاءه و لکنه الروتین الحکومی الذی حاولنا أن تتغیر لوائحه وقوانینه و لکن الخوف من التلاعب أو الرشوة یقید ذلک.
أين تذهب أموال الموازنة
تعتبر الهيئة العامة للخدمات البيطرية ضمن الهيئات الاقتصادية في الحكومة طبقًا لجدول موازنة الهيئات الخدمية على موقع وزارة المالية، في العام السابق حصلت الهيئة على 278 مليون و339 ألف جنيهًا، لكنها لم تحقق موارد بنصف المصروف عليها إذ بلغت قيمة الموارد 129 مليون و129 ألف، لكن المشكلة الأكبر في إدارة تلك الأموال.
توزع الأموال المرسلة سنويًا إلى الهيئة على 8 أبواب، الأول خاص بالأجور والتعويضات، والثاني خاص بشراء السلع والمستلزمات، والثالث الفوائد، والرابع للدعم والمزايا الاجتماعية، والخامس للمصروفات الأخرى، والسادس لشراء الأصول غير المالية، والسابع لحيازتها، والثامن لسداد القروض المحلية والأجنبية.
مضطرين لزيادة الخدمات دائمًا
یقول الدکتور حسین الرفاعی إن الأموال المدفوعة في الخدمات البیطریه تساهم فی تطویر الوحدات، فأجر الکشف والتلقیح الإصطناعی والعملیات الجراحیة وغیرها من الخدمات تحصل داخل صندوق العلاج الاقتصادی الذی من خلال إیراداته نتمکن من دفع مصاریف الوحدات والمدیریات من إناره وآثاث وأدویه وبنزین ووقود ومیاه وغیرها من أوجه الصرف التی تحتاجها الوحدات ولکن إیراداته لا تکفی لذلك نحن بصدد رفع أسعار الخدمات.
اتمنى أن تصل مطالبنا إلى البرلمان كونه المسؤول عن زيادة موازنة وزارة الزراعة والهيئة العامة للخدمات البیطریه وسن القوانین التي تضمن أداء أفضل للهیئة والوحدات البیطریه بإعادة هیکله القوانین الخاصة بتعیینات الأطباء البیطریین وسن قوانین لتکلیفهم کالأطباء والصیادلة، والأهم الاستماع للشكاوى التي توقفنا عن سماعها من أطباء العيادات البيطرية بعدما فقدنا الأمل في العمل على حلها.