لنتخيل كيف كان شعور أول شخصين يتواصلان معًا عبر هاتف محمول، من المؤكد أن الموقف كان غريبًا، وأحد أوجه غرابته يكمن في أن أهميته- حينها- اقتصرت فقط على هذين الشخصين، لأنه لم يكن هناك ثالث يستطيعون التواصل معه، لأنه ببساطة أحد بعد لم يمتلك هاتفًا محمولًا.
مع انتشار شراء الهواتف المحمولة وتطبيق تكنولوجيته حول العالم، ثقلت أهميتها، إلى أن وصل الأمر إلى استحالة تخيُّل عدم وجود هاتف نحمله دائما بين أيدينا، وباتت العودة إلى الوراء مستحيلة، لأن الإنسان لن يستطيع التواصل عبر التليجراف أو الفاكس، فوظائف الهاتف المحمول تغطي وتتجاوز كل مهام وسائل التواصل التي سبقته.
هكذا كان فيسبوك؛ تطور طبيعي لطفرة تكنولوجية واكبت تواصلًا أسرع وأنجح، لن نستطيع العودة إلى ما سبقها.
تحول فيسبوك إلى صورة افتراضية تعكس كل تفصيلة في الحياة اليومية، من صور لأشخاص، وذكريات في الأماكن التي زرتها، وحتى متابعة آخر الأخبار بشكل متواتر ولحظي، ومواعيد حفلات لفرقتك الموسيقية المفضلة، وقراءة آراء المشترين للسلعة التي حيرك قرار شرائها، والكثير والكثير من الخدمات
من المنطقي جدا أن تُسعد كل تلك التفاصيل المستخدِمين، أو بمعنى آخر؛ ما يطلبونه يجدونه! إلا أن فضيحة فيسبوك-كامبريدج أناليتيكا بشأن استغلال بيانات وسلوك المستخدمين بهدف توجيههم إلى ما يريده شخص ما في مكان ما، أثارت العديد من التساؤلات حول الخصوصية واستغلال بيانات فيسبوك.
عقيدة مؤسس فيسبوك
في محادثة يعود زمنها إلى عام 2004، عَرَض مؤسس موقع فيسبوك، مارك زوكربيرج على أحد أصدقائه معلومات تخض 4000 طالب من زملائه في جامعة هارفارد، فهم "مغفلون وثقوا به" على حد وصفه، لأنهم أدخلوا بياناتهم عن طيب خاطر. قد تكشف المحادثة عن مجرد طيش شاب مراهق لا يدري بأنه سيمتلك معلومات عشرات الملايين من البشر في المستقبل، لكنها قد تؤكد حقيقة نواياه بشأن التعامل مع مسألة الخصوصية من ناحية أخرى.
بعد هذة المحادثة بحوالي 6 سنوات، اعترف زوكربيرج بصحتها، ثم اعتذر، وأوضح أنه لم يكن حينها ناضجا كفاية للتعامل مع كل المعلومات التي وضعت بين يديه. ولم تكن المحادثة هي الفريدة من نوعها، فقد سُرّبت محادثات أخرى تشير إلى أبعد من مجرد التهاون مع مسألة الخصوصية، وقد تصل الى حد الاستغلال.
وبعدها بحوالي 14 عاما، يقف الشخص نفسه لدى أعضاء الكونجرس الأمريكي لاستجوابه بشأن تورط شركات أبحاث اتهمت باستغلال بيانات أكثر من 87 مليون مستخدم لموقع فيسبوك لاستهدافهم بدعاية سياسية صممت خصيصا لهم، صبت في مصلحة حملة ترامب في الانتخابات الأمريكية لعام 2016. وكان رد فعله المعتاد هو الاعتذار، ولا شيء آخر سوى توقيف حسابات شركة الأبحاث كامبريدج أناليتيكا قبل الاستجواب بحوالي شهر.
يأتي استجواب زوكربيرج ضمن عملية تحقيقات واسعة يقودها روبرت مولر المُعيّن من قِبل وزارة العدل الأمريكية لحل لغز تَدَخل روسيا في الانتخابات الأمريكية. لم تُستدل أستار القضية بعد، لكن مولر أثبت تورط 13مواطنا روسيا وشركات أبحاث من بينهم كامبريدج أناليتيكا ووكالة أبحاث الإنترنت الروسية.
خيوط القضية تزيد المشهد تعقيدا، طارحة تساؤلات عدة ليس فقط حول استهتار القائمين على فيسبوك بمسألة خصوصية المستخدمين، بل تهاون المستخدمين أنفسهم في مهزلة الاستمرار في استعمال تلك المواقع وإدخال بياناتهم طوعًا.
كيف تُجمَع البيانات
في عام 2014، دعا فيسبوك مستخدميه إلى معرفة أنواع شخصياتهم عن طريق اختبار طوّره باحث علم نفس الدكتور ألكساندر كوجان الذي يعمل في شركة كامبريدج أناليتيكا، وأسماه "هذه هي حياتك الافتراضية". من خلال الاختبار، حصلت الشركة على معلومات حوالي 270 ألف مستخدم، والتقط في طريقه بعض المعلومات التي تخص أصدقاء هؤلاء المستخدمين الذين وصل عددهم إلى حوالي 50 مليون.
في مقابلة على القناة الإذاعية بي بي سي 4، يؤكد باحث علم النفس كوجان أن فيسبوك وكامبريدج أناليتيكا استغفلاه حينما أبلغلاه أن كل الإجراءات قانونية، وأنه لم يعر اهتماما للتأكد من ذلك في حينه.
ويزعم أحد المنشقين عن الشركة، كريستوفر ويلي، أن المعلومات التي بيعت من قبل فيسبوك استخدمت بهدف دراسة نفسية المشاركين، ومن ثم إرسال دعايا سياسية لهم، كل حسب ميوله، لإقناعهم بانتخاب ترامب خلال حملته عام 2016.
أنكر فيسبوك وكامبريدج أناليتيكا أي نوع من الانتهاكات بشأن خصوصية المستخدمين، وأكدا أن البيانات قد جُمعت بشكل قانوني. لكن فيسبوك اتهمت كامبريدج أناليتيكا بعد ذلك بأنها لم تحذف البيانات عندما طُلب منها، لأن نقل بيانات أصدقاء المستخدمين خارج الموقع ضد قواعد فيسبوك.
لكن ما يقوله مدير العمليات السابق في فيسبوك ساندي باراكيلاس من عام 2011 إلى 2012 يؤكد تورط فيسبوك من خلال عدم اتخاذها التدابير اللازمة لحماية بيانات المستخدمين التي تُجمع من قبل مطوري التطبيقات. وعندما أرسل تخوفاته إلى مدرائه، لم يستجيبوا له، مع العلم أنهم يستطيعون بكل تأكيد حماية البيانات. بل على العكس، كانت ردودهم تعزز انعدام رغبتهم في معرفة كيفية استخدام المطورين لبيانات المستخدمين، كي يبقى فيسبوك في مأمن قانوني.
إذن القائمون على فيسبوك يتجنبون معرفة ما يفعله المطورون، بينما يطّلعون على كل ما يفعله المستخدمين، حتى الصور والروابط التي ترسل عبر الرسائل الخاصة، بهدف التأكد من تماشيها مع "معايير فيسبوك".
المنطق الذي يتعامل به فيسبوك مع الرسائل الخاصة بين المستخدمين يتناقض تماما مع سهولة حصول المطورين على تلك البيانات دون متابعة تامة، ما قد يشير إلى تواطؤ القائمين على فيسبوك، وليس مجرد الإهمال. ولكن ما سبب استمرار المستخدمين في مشاركة بياناتهم عبر فيسبوك بالرغم من معرفتهم بتلك المهزلة؟
لماذا نستمر؟
لم يقف المستخدمين مكتوفي الأيدي، إذ تعالت دعوات إلى حذف الحسابات من على فيسبوك، من بينهم مشاهير مثل الممثل الكوميدي جيم كاري الذي غرد عبر تويتر مستاء من عقيدة زوكربيرج المستهترة بالخصوصية، كما شجّع بريان أكتون، مؤسس تطبيق واتساب المملوك حاليا من فيسبوك، على حذف التطبيق إثر الفضيحة.
لكن دعوات المقاطعة لم تجد لها صدى، إذ أن استطلاعات رأي لم تُظهر تباينا في عدد مستخدمي التطبيق قبل وبعد الواقعة، إنما أظهرت انخفاضًا في عدد الساعات التي قد يقضيها المستخدم للموقع. ويكمن السبب في أن فيسبوك احتل جزءا كبيرا من البنية التحتية للإنترنت على مستوى العالم، وطور أسلوب حياة الملايين ليتشابك مع كل تفصيلة حياتية، إذ إنه يحل محل الكثير من أدوات التواصل التي لم يعد لها وجود.
كما أن البدائل القليلة مثل إنستجرام مملوك أيضا من فيسبوك. بالإضافة إلى مجانية الموقع التي تخدع المستخدم العادي وتجعله يعتقد أن وجود حسابه من عدمه لن يؤثر على أعلى الهرم.
وبالتالي، فإن البحث عن بدائل مأزومة، في إطار مفهوم فيسبوك لاحتكارية التواصل والجمع الدائم البيانات. يعج الإنترنت بنصائح في استخدام الموقع للحفاظ على الخصوصية، أو حتى يطرح بدائل نادرة لمواقع تؤدي مهام فيسبوك نفسها، لكن يبقى بيع بيانات المستخدمين لمطوري التطبيقات هو مقابل مجانية استخدام مثل تلك المواقع.
حتى وإن تحمس مستخدم ما وألغى حسابه، فإن فيسبوك يستمر في تتبع سلوكه على الانترنت وخطواته الافتراضية. ففي مستهل عام 2017، مكّن فيسبوك المُعلنين من استهداف "جمهور أوسع" من خلال تقنيات ديناميكية تسمح بمعرفة أي منتًج يرغب المستخدِم في شرائه في أي مكان عبر الإنترنت. لكن زوكربيرج رد بكل ثقة بالنفي عندما سئل ما إذا كان فيسبوك سيتأثر من دعوات مقاطعته، ما يؤكد استهتاره الدائم بالمستخدمين.
ربما علينا أيضا إدراك أن مفردات اللعبة السياسية قد تدفع بشركات أبحاث لاستغلال ثغرات تكنولوجية بسبب تباطؤ أو تواطؤ أحدهم، لاستهداف وتوجيه وتحريك ملايين البشر وتحفيزهم على سلوك ما قد يغير وجه العالم.
ستنتهي التحقيقات يوما ما، إما قد تدين الجاني ويُحاسب على ما فعله، أو سيَفلت من العقاب بسبب ثغرة قانونية أو تكنولوجية ما، ليُضاف للقانون بند جديد على أمل إحقاق الحق في المستقبل. لكن الزمن لن يعود للوراء والأحداث التي غيرت مسار التاريخ قد حدثت بالفعل. وربما تنتج البشرية في المستقبل وسيلة تواصل تتيح للمستخدمين التحكم الكامل في بياناتهم في عصر ما بعد فيسبوك.