كانت اﻷجواء احتفالية داخل مسرح فولكسبوهن في برلين، مساء 16 أبريل/ نيسان 2018، حين منحت منظمة العفو الدولية (فرع ألمانيا) جائزتها الحقوقية التاسعة لمركز مصري، هو مركز النديم لتأهيل ضحايا العُنف والتعذيب، والتي تسلّمها عضو المركز طاهر مُختار.
في تلك الليلة، ألقى مختار بيانًا ندّد بـ"تضييق النظام المصري" على هذا المركز "مدرسته" الطبية والحقوقية، وحمل الجائزة نيابة عن مؤسسات المركز الطبيبات عايدة سيف الدولة وسوزان فياض ومُنى حامد، ورابعتهن الدكتورة ماجدة عدلي، التي حاورتها المنصّة؛ فتحدّثت ليس عن تكريم "النديم" فحسب، بل وعن إصرار أعضائه ومُرتاديه على استكمال رحلتهم المشتركة، رُغم سنة كاملة أغلقت فيه أبواب المركز بالشمع اﻷحمر.
"تحرّشات النظام"
تقول عدلي عن الجائزة، التي أعلنت منظمة العفو الدولية منحها للنديم، في يناير/ كانون الثاني الماضي- أي قبل أن يُكمل المركز سنة كاملة تحت التشميع- "الجايزة تقدير لشغل النديم في هذه الفترة العصيبة بالذات. إحنا في مصر بنمر بأصعب فترة، عمومًا مش النديم بس، كل المنظمات الحقوقية. وإحنا من ضمن هؤلاء المستهدفين والمستهدفات".
أمام الاستهداف جاء "التقدير العظيم" من مُنظمة تراها عدلي "دولية كبيرة تتمتع بالشفافية والفعالية"؛ ما يجعلها تنظر لهذا التكريم باعتباره "درجة من الرد على تحرّشات النظام السياسي في مصر بالنشطاء والحقوقيين".
"التحرّشات" التي ذكرتها مديرة المركز، تمثلت في إجراءات مثل منع زميلتيها عايدة سيف الدولة وسوزان فياض من السفر. لكن هذا لم يكن ما حال دون حضور مُمثلة عن الشريكات اﻷربع للحظة التكريم، إذ أوضحّت عدلي أن ما منعها وزميلتها مُنى حامد من السفر لألمانيا كان "ظروفًا شخصيةً"، ووصفت الطبيب الذي تسَلّم الجائزة نيابة عنهن بقولها "طاهر مش غريب عننا، وهو واحد من الشُرفاء اللي ناضلوا من أجل حياة خالية من التعذيب".
حصد النديم جائزة منسوبة لمؤسسة دولية سبق وأن تعرضت لهجوم من النظام المصري؛ ما قد يفتح الباب لتجدد أحاديث "التخوين والعِمالة"، التي وجهتها للمنظمات المصرية اﻷنظمة المُتعاقبة بعد ثورة 25 يناير، وكانت ذروتها مع استهدافها بقضية ماتزال مستمرة حتى اليوم، عُرِفت إعلاميًا بـ"التمويل الأجنبي"، تضم قائمة المتهمين فيها اسم "النديم" وعشرات المنظمات والحقوقيين الآخرين، بل لأن "العفو الدولية" أطلقت حملة تضامنية- على هامش تكريمها للمركز- تُطالب بإعادة فتحه.
لكن الطبيبة تُقلل من مصداقية وجدّية أحاديث "الخيانة والعِمالة" تلك، بقولها "مفيش حُرّية أو حياة سياسية حقيقية (في مصر)؛ فأنت كنظام سياسي بتحرج نفسك، ﻷنك ماضي على اتفاقيات (حقوقية) دولية وحاططها في سلّة المُهملات، أنت بتتجاوز اللي ماضي عليه وقولت هلتزم بيه، والمجتمع الدولي بيراجع الكلام ده، سواء المنظمات دي (المصرية) اتكلمت أو ماتكلّمتش، فماتجيش تقول الناس دي (الحقوقيين المصريين) بتتعامل مع جهات خارجية، ده أنت فاضح نفسك أول بأول".
وتُقدّم مصر، كعشرات الدول الأخرى، تقريرًا دوريًا إلى مجلس حقوق الإنسان بجنيف، يدور حول أوضاع الحقوق والحريّات فيها، ويخضع للمُراجعة الدورية من المجلس الحقوقي التابع للأمم المُتحدة، وأحيانًا ما تواجه للقاهرة انتقادات من دول ومنظمات حقوقية دولية، سواء في ذلك المحفل الأممي أو حتى بعيدًا عنه، بل وصل اﻷمر في بعض الأحيان إلى اتخاذ دولة كالولايات المتحدة إجراءً عقابيًا ضد مصر، في أغسطس/ آب 2017، تَمَثّل في تعليق مساعدات- منها العسكري- بسبب مخاوف حول حالة حقوق الإنسان في مصر.
تلتقط الدكتورة ماجدة أنفاسها قبل أن تحسم الموقف، بسؤالين "هيتهموكي إنك بتتعاملي مع جهات أجنبية؟ هيتهموكي. هيتهموكي إنك بيجيلك دعم من برّه ولاّ حملات ضد غلقك ولّا ضد المنع من السفر؟ أنت بتعمل خروقات، واحنا بندعم ضحايا هذه الخروقات. يقولوا اللي يقولوه بقى هُمّا حُرّين، ما هُمّا بيدوّروا على أي حاجة، لدرجة إن تراكيب التُهم بتبقى مُضحكة، سواء لينا (المؤسسات) أو للنُشطاء الشباب".
"تحرشّات النظام" التي تحدّثت عنها عدلي، كان على رأسها من وجهة نظرها وداعمي النديم، إغلاق مقرّ المركز بالشمع الأحمر منذ فبراير/ شباط 2017، بعد سنة من محاولة تشميع لم تنجح عام 2016، حين امتنعت طبيبات "النديم" عن ترك المقرّ أو وقف العمل على جلسات العلاج، الذي كان جاريًا لحظة المُداهمة الأمنية "ببساطة، قولنالهم شغلكم اعملوه، بس احنا كمان هنعمل شُغلنا".
لكن الأمر اختلف بعد عام واحد فقط من ذلك اليوم، والحديث للطبيبة "في 2017، كان معاهم قوة (عددية) عظيمة، وجايين يوم أجازة المركز بالقوات العظيمة دي"، تتذكر ماجدة ما كان؛ فتُعَقّب "وكأننا هنبقى عاملين متاريس في يوم الأجازة وحاطين قوات تقابلهم! الموضوع كُله في الحقيقة خُزعبلي شوية".
تُهمة فيسبوكية
من "الخزعبلات" التي تراها ماجدة في أمر إغلاق النديم، هو المُسوغّات التي ارتكزت عليها السُلطات "وزارة الصحة وجهت لنا تُهم مُضحكة، يعني فيها إن احنا تجاوزنا شروط ترخيص العيادة الطبية. والكلام اللي اتقال (لنا) شفوي في اﻷول إن أنتم ليكم صفحة على فيسبوك".
تضحك الطبيبة، قبل أن تعود لتفاصيل الأمر الإداري، وتقول "شوفنا ورقة فعلاً، لما راحت دكتورة عايدة ودكتورة سوزان يقابلوا مدير التراخيص الطبية، جاية من مجلس الوزراء مش من وزارة الصحة؛ فالموضوع إلى هذا الحد كان كوميدي يعني، (وكأن) مجلس الوزراء باعت لوزارة الصحة (يقول لها) انتي سايبة الجماعة دول ليه؟ دول عاملين صفحة وبيكتبوا تجاوزات الداخلية، العيادة مش مفروض تعمل كده، اقفلوهم؛ فصدر أمر تشميع المركز".
حيل "الجدعان"
تأهيل ضحايا التعذيب الذي تسبب في تشميع النديم، لم يمتد أثره فقط على العاملين وضحايا التعذيب مُرتادي المركز فحسب، بل على النساء ضحايا العُنف الأُسري والجنسي، مِمّن يقدم لهن النديم الدعم النفسي والقانوني، بل والاجتماعي بتوفير أماكن إقامة لهن، في حال طردهن من المنزل، على حد قول عدلي.
وأمام تلك الأوجه المُتعددة للدعم، كان من الحتمي أن يصيب الارتباك حياة أولئك المُعنفات بمجرد تشميع المركز، حسبما تبيّن من حكي عدلي "طبعًا اتعملت ربكة للستات دول، واللي أغلبهم كمان تعبانين اقتصاديًا، وكتير منهم مايقدروش يتحملوا تكلفة علاجهم. بس كمان الستات دي جدعة".
تبتسم الطبيبة في فخر بحيل السيدات من أجل التعايش مع التشميع، قائلة "يعني فيه ستات كتير قدرت تتصرف، (تكلمنا) بالتليفون، (فنقول لها) طيب استلفي وهاتي والعلاج مثلاً لحد ما نتقابل. يعني كان جُهد شوية على النساء وشوية على الداعمات، هما (السيدات) ساعدونا إن احنا نقدر نستمر مع بعضينا، وكانوا جدعان قوي".
ومثل مرتاديه فعل النديم، قرر منذ اليوم الأول للتشميع ألاّ يتوقف عن تقديم خدماته "كتبنا على صفحاتنا كلنا وعلى صفحة النديم أرقامًا يُمكن الاتصال بيها؛ ابتدت الناس ترجع تطلب المساندة؛ فعملنا ده"، تقول الطبيبة التي اختارت بجانب مجال تخصصها كاستشاري تخدير، أن تدخل مجال الطب النفسي لدعم ضحايا العُنف والتعذيب.
تحكي مُديرة النديم كيف احتالت وعضوات المركز على اﻷمر الواقع المفروض منذ أكثر من عام "عملنا ده بـ100 طريقة، احنا نقدر نتصرف بـ100 طريقة من غير ما نوقّف مُهمتنا الأساسية في دعم ضحايا التعذيب. يعني هيقفلوا؟ مش هنوقّف نشاطنا. هيشمّعوا؟ احنا موجودين كأفراد. هنتصرف، هنروح لكل حدّ في بيته، ماحدش يقدر يمنعني إني أزور حد ولا إن حد يزورني، دي مش محتاجة تصريح من الدولة ولا ترخيص وزارة صحة. بنقاوم، وماحدش من اللي محتاج النديم بيترفض".
كوميديا "سوداء"
ما يزال أعضاء النديم يستكملون دورهم المهني، وفي مسار آخر يسعون لحلّ الشمع الأحمر عن باب المركز، عبر دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري، لم تُحسَم بعد، كما تقول ماجدة عدلي "احنا رفعنا القضية بنطعن في اﻷسباب اللي هُمّا قالوها إن احنا تجاوزنا شروط الترخيص".
وتصف الطبيبة خصومها بـ"الارتباك الشديد"، كما بدا لها من سير جلسات القضية "لا قدموا أصل القرار (اﻹغلاق)، ولا احنا عمرنا شوفنا الأصل على فكرة. والمحكمة طلبت كذا مرّة أصل القرار، مفيش. والمذكرات اللي قدّموها مرّة يقولوا قرار تشميع، ومرة تانية في ورق تاني يقولوا ده قرار سحب ترخيص. ففي الحقيقة، الموقف كله على بعضه كوميديا سوداء".
تُدرك الطبيبة أن "النديم" دُفع لهذه "الكوميديا السوداء" ﻷنه اشتبك مع "مجال العُنف المؤسسي والتعذيب في أماكن الاحتجاز والإخفاء القسري"، العمل الذي بدأه منذ عام 1993.
وتُدرك عدلي، أيضًا، وعورة الأمر "لما بتشتغلي في الملفّات الحرجة دي؛ شئتي أم أبيتي، انتي في مواجهة سياسة دولة بتنتهك كرامة الإنسان والحقوق الأساسية؛ فأنتي طول الوقت بتتوجه ليكي نيران النظام السياسي، اللي هو مُعادي للحريات الخاصة والعامة. احنا مُدركين ده".
وعلى تلك الوعورة، رفضت ماجدة والطبيبات الثلاث الأخريات ترك المجال "لكن كمان إحنا مانقدرش نتخلى عن مُهمة مقاومة التعذيب ودعم ضحاياه، ده شيء إنساني. وبنقول سنتوقف عن الدعم عندما تُصبح البلد دي مفيهاش بني آدم بيتضرب بالقلم في قسم شُرطة".
إيمانًا بذلك الهدف، لم يكن غريبًا أن يتحدث المركز من جديد عن الأوضاع الإنسانية للمحتجزين في أقسام الشُرطة والسجون، إذ خصّ بالذكر منهم 23 شخصًا كانوا محور تقريره الصادر في 10 أبريل/ نيسان، عن حالات الوفاة في أماكن الاحتجاز خلال الرُبع اﻷول من 2018، وفقًا لحصاد إعلامي أجراه المركز.
تقول عدلي عن هذا التقرير "كان صادم قوي عدد ضحايا اﻹهمال الطبي في السجون- اللي هو إهمال مُتعمد مش أي حاجة- الناس بيترفض إن يدخلها أدوية أو تتنقل مستشفيات لغسيل كلوي أو قسطرة في القلب، بيترفض. فكأنه قتل بطيء، والناس اللي ماتت تحت التعذيب أو اتقتلت بشكل عشوائي".
لم يمرّ التقرير مرور الكرام، فوفقًا لعدلي "كان أول رد فعل علينا، بلاغ من المحامي سمير صبري للنائب العام ضد الدكتورة عايدة سيف الدولة ده بيبقى رد الفعل في الحقيقة، وبنقولهم احنا مستمرين، برضو مستمرين".
اتهم صبري في بلاغه المركز الحقوقي بأن إصدارته "غير صحيحة، وأن الغرض منها مهاجمة قوات الشرطة والجيش، وزعزعة استقرار البلاد وهدم الاقتصاد المصري، بقصد الاستقواء بالخارج، والتشكيك في مؤسسات الدولة وهدم الدولة المصرية".
لكن ألا تخشى سيدات "النديم" السجن؟ أسأل ماجدة عدلي، فتُجيب دون لحظة تردد "لا لا خالص، ماحدش يحب إنه يتسجن ولا يتعرض لذات الإهانة اللي بنسمعها من الناجين من التعذيب، لكن في نفس الوقت احنا مؤمنين بقضية، وعارفين منذ اخترنا هذه القضية في بلد غير ديمقراطي إن وارد في أي لحظة يبقى فيه ضرايب باهظة التمن، وارتضينا هذا الاختيار".
وفي الأخير، تتمنى عدلي ألاّ تسوء اﻷوضاع عما آلت إليه، لكن في حال أن وقع الأسوأ، فالسيدة لن تجزع كما أكد ختام حديثها "نتمنى إن مايبقاش النهاية السجن. إنما لو جه؛ خلاص مرحب، مش هنخاف منه. إحنا مش أحسن من أي حد. ويمكن تعليق دكتورة سوزان على الجايزة كان إنها المفروض تتقدم للناجين من التعذيب، ﻷنهم شافوا أكتر من اللي احنا شُفناه، واتعرضوا لمخاطر وآلام أكتر من اللي احنا شُفناها".