مرت الأعوام كسابقتها. هل أقول أشد وطأة؟ لم تعد المبالغات تعني شيئًا، فقد تجمد كل شيء عدا الزمن الذي يتمنى الجميع - إلا أصحاب الحظوة فيه- زواله.
ظل الجنرال يعلو أكثر فأكثر. تضاعف مريدوه ولمعت صورته، وصار ذكره محبوبًا ومرهوبًا معًا. لم تعد السخرية منه مقبولة في الأوساط الشعبية كيفما كان. ومن تحته حكومة قوية لها اليد الطولى في إقرار كل شيء نيابةً عن الشعب.
لم يعد الناس يتذمرون من الزيادات الدورية في أسعار السلع والمواصلات. يقولون "غِلي؟ بجد؟! طب كويس إني عرفت" ثم يكملون طريقهم. تخرج قوات الأمن في حملة أمنية كل فترة يذهب فيها من يذهب. العين الحمراء لا يمكن أن تغمض طويلًا لئلا يظن بها الناس النوم، فيصحون همْ. هُم لا يصحون أبدًا. صار اختفاء الأصدقاء قضاءً وقدرًا، يستجلب دعوات من يعرفونه بألا يتم إيذاؤه.
صار بيع وتخصيص الأراضي والمنتجعات وتأجير الأماكن السياحية والمتاحف للدول الخليجية وبعض الدول والشركات الصديقة في الخارج أمرًا طبيعيًا، يحفز الـ"ميمات" Memes الساخرة من حين لآخر، فيضحك الناس ثم يضعون شواحنهم في هواتفهم وينامون.
زادت الوجوه الإعلامية وتنوعت، وتطورت مناهج أصحابها في إقناع المواطن. هم يعلمون أن لكل فئة خطابها، ولا يخطئون في ذلك أبدًا.
أخذ الأمر شكلًا أكثر احترافية، فارتبطت مؤسسة الرئاسة بشركات عالمية للتنظيم والدعاية والعلاقات العامة. وأصبح من وراء الزعيم جيش من الشباب خريجي الجامعات المحترفين في المجالات المختلفة، يهتمون بكل تفصيلة وتلمع أعينهم أمام فرص الصعود في السلم الوظيفي لهذه الكيانات الكبرى، آملين أن ينالوا من العلاقات والمكانة الاجتماعية ما يحفظ لهم أمانهم في مستقبل سعيد: وظيفة عالية الأجر في شركة عالمية لتنظيم مؤتمرات الزعيم، وعلاقات كافية مع أسماء معلومة وأخرى سرية، تكفي لإخراج كل معارفهم من أي ورطة.
كان الحدث السياسي الأبرز في هذه الفترة هو الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2020. التي كانت المنافسة فيها على أشدها بين نواب الزعيم المخضرمين، ووجوه جديدة تتطلع إلى فرص ذهبية لإظهار مواهبهم في دعم الدولة المصرية.
شن المخضرمون حملات عديدة لتشويه هؤلاء الصاعدين الآملين في أخذ كراسيهم التي حازها القدامى بالجُهد والعرق. فمَن غيرهم دعم الزعيم منذ لحظة ظهوره الأولى وقت أن كان العالم كله يسير ضده؟ من غيرهم تحمل حملات التشويه والسخرية من فلول الثورة المصرية قبل القضاء عليها تمامًا؟ من غيرهم أعلن عن دعمه لمصر والوطن والدولة في أكثر من مناسبة؟ من غيرهم صرف عشرات الآلاف من الجنيهات لحشد الناخبين في دائرته للوقوف صفًا واحدًا وراء مصر؟ ومن غيرهم ملأ الشوارع بلافتات الدعم والتأييد في طول مصر وعرضها -كأنها رواسي أن تميد بكم- فلم تسقط مصر كما اُريد لها؟ والآن يأتي هؤلاء الشباب "الملزق" لكي يمثلوا الشعب بكل بساطة؟
في المقابل، التقط هؤلاء الشباب المثقف الخيط سريعًا، وصاروا يتكتلون مع بعضهم البعض في كل محافظة حتى أفضت هذه التكتلات إلى كيان مُوحَّد، سُمِّي بائتلاف شباب الدولة المصرية. وبدأوا في شن حملات مضادة على المخضرمين القُدامى؛ إذا تعرضوا لأي واحد منهم، حتى خاف البعض من مواجهتهم علنًا، وظهرت تصريحات للمخضرمين يقول فيها واحدهم إنه سعيد بالمنافسة الشريفة، وإن الشعب سيختار من يثق في وطنيته التي لم يُخفيها في أحلك الظروف.
ثم بدأ التصويت..
وعلى عكس انتخابات 2015؛ فقد كانت نسبة المشاركة هذه المرة عالية، إذ انتشر أعضاء حملة "ائتلاف شباب الدولة المصرية" في كل المناطق، يُحدِّثون الناس عن البرامج والقوانين التي ستغير حالتهم، ويسألونهم أين كان المخضرمون من خمسة أعوام فاتت، بينما تُكابِدون معاناة مستمرة ومتزايدة، فلا يتذكركم أحد إلا في المناسبات؟
لاحظ المخضرمون اللعبة، وبسرعة شديدة وظفوا شبابًا من كل منطقة بأجور عالية في حملاتهم الانتخابية لكي يقوموا بتنظيم الحملات ونشرها بين الناس، ومواجهة الدعاية "الملزقة" لائتلاف شباب الدولة. فنزل الفريق الآخر بدوره يحدِّث الناس عن أن الفترة السابقة كانت فترة التخلص من أعداء الدولة، وأنهم يحضِّرون العمل الآن لفترة البناء والتعمير. وأن ذلك يستلزم من الناخبين أن يصبروا، وأن يتيحوا لهم الفرصة كاملة، وألا ينسوا جميلهم في حماية الأوطان. ثم غمزوا للناخبين بفرص جديدة للتوظيف في المصالح والهيئات الحكومية المحلية، أو وعدوهم بترشيح أبنائهم في انتخابات المحليات ودعمهم، أو أن يتيحوا لهم فرص تدريب في الشركات العالمية المتعاونة مع مؤسسة الرئاسة، بالإضافة للوعود بالعديد من "الخدمات" لأهل الدائرة، ولم لا ما دام النائب موجودًا من أجل خدمتهم؟
المهم أن النتيجة انتهت للتعادل تقريبًا بين الفريقين في نسبة تمثيل كل منهما في المجلس. وعندما انتبهت "الأجهزة" إلى كارثة قد تحدث إذا اختلف الفريقان؛ عقدت سلسلة من الاجتماعات المكثفة مع قيادات الفريقين للوصول لأرضية مشتركة، وتذويب الكتلتين في كتلة واحدة من أجل مصر، موضحين أن الزعيم تابع بنفسه ما حدث أيام الانتخابات، و"أعرب عن قلقه" من أن يؤثر هذا الاختلاف على الدولة، وأنه لن يسمح بذلك.
فهم الفريقان على الفور أن الزعيم يلوح بورقة حل مجلس النواب، فوافقوا فورًا على التكتل الجديد، واختلفوا على التسمية، ثم توصلوا لأن تكون تسمية وسطًا بين "ائتلاف دعم الدولة" وحزب "كلنا معاك من أجل مصر" و"ائتلاف شباب الدولة المصرية"، فأسموه "ائتلاف دعم الدولة من أجل مصر" ثم أسموه "دعم" تسهيلًا.
لاحظ الجميع أن هذا البرلمان أقوى من سابقه الذي وصفه بعض أعضاء "شباب الدولة" سابقًا ببرلمان الأيدي المرتعشة، مما أفضى إلى توترات طفيفة سرعان ما قمعها مُرتجي مندور رئيس المجلس الجديد، الذي كانت تكفي نظرة واحدة منه لأن يتنازل عضو عن طلب كلمة أو يصرف نظره عن طلب إحاطة لوزير صديق.
انطفأت لعبة السياسة ومتابعتها سريعًا، وكان أول قرار لمندور؛ منع البث التلفيزيوني لجلسات البرلمان. ثم استمر كل شيء تحت القبة كما كان العهد به دومًا.
على الجانب الآخر كانت الحركات المعارضة تحاول من حين لآخر تصعيد الحس السياسي للناس إلى مستوى السخرية أو الاعتراض كما كان يحدث من قبل بلا جدوى. وحاولوا أكثر من مرة إعلان اتفاقهم على الوحدة من أجل تغيير النظام، لكن كان كل شيء ينتهي عند اختلاف الرفاق على توقيع أحدهم، أو على صياغة بند من بنود وثيقة الوحدة.
استمرت محاولات المقاومة من بقايا أحزاب وحركات، من مثقفين وأدباء، من أساتذة جامعة، ولكن كالعادة؛ كل شيء كان ينتهي إلى لا شيء.
ورغم التوافق ومُضي الأمور كما أراد لها الزعيم من أجل مصر، جاء ديسمبر 2021 برياح غير مرغوب فيها على الجميع. كان ذلك قبل احتفالات رأس السنة التي دُعِي إليها رئيس مجلس النواب وعدد من قيادات المجلس، في سهرة خاصة أقامها عدد من أمراء الخليج في أحد الأوتيلات الفاخرة على نيل القاهرة. فقد بُوغت مندور عندما سأله الأمير محمد بن أحمد عن تحضيرات الدولة والمجلس للانتخابات الرئاسية القادمة. وفي ظهر يوم السبت الأول من يناير 2022، طرح مندور على المجلس موضوع التعديل الدستوري في مادة تحديد مدد الرئاسة "لعدم وجود من يصلح لقيادة البلاد في هذه المرحلة الصعبة من عمر الوطن".
عاد ائتلاف شباب الدولة المصرية للظهور مرة أخرى والإفصاح عن تحفظهم وسعيهم للنقاش. عندها اشتعلت النيران في أعين رئيس المجلس، بينما اندهش نصف المجلس الآخر من هذا الكلام الصادم الذي يُقال داخل مجلس النواب عام 2022. فأصدر مندور قرارًا بفصل أعضاء الائتلاف جميعًا. حينها حرك محامون تابعون للائتلاف عدة دعاوى ضد قرار المجلس ورئيسه في المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية، فقضت الأولى ببطلان قرار مندور، الذي عاد في الجلسة التالية ليجدهم جالسين أمامه، وفي أيديهم توقيعات عزله من رئاسة المجلس.
عُزل مرتجي مندور، واشتعلت معركة جديدة بين المخضرمين والشباب على الخطوة التالية. اختير رئيس المجلس من بين المخضرمين بالطبع، لكن ماذا سنفعل في الموضوع الذي عُزل على إثره رئيس البرلمان السابق؟
على الناحية الأخرى قاد مندور وبعض أصدقائه الإعلاميين معركة شرسة ضد مجلس النواب "الذي اخترقته العناصر الإرهابية حتى تمكنت منه". فأصدر النائب العام قرارًا بفتح التحقيق في الاتهامات بالإرهاب وهدم الدولة والسعي لقلب نظام الحكم الموجهة ضد ائتلاف الشباب. وبدأت نيابة أمن الدولة العليا التحقيق على الفور. وانتهت التحقيقات إلى القطع باختراق المجلس وخيانته للقسم الدستوري.
صباح الجمعة 14 يناير 2022؛ أصدر الزعيم قرارًا جمهوريًا بحل مجلس النواب. ثم أصدر قرارًا بتعديل المادة 140 من الدستور التي كانت تنص على انتخاب رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه. وأنه لا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة. لتصبح المادة في منطوقها الجديد "يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة ست سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ويجوز إعادة انتخابه". نشر القرار بالجريدة الرسمية في 25 يناير 2022. وبدأ العمل به فور النشر.