بدأت كما بدأ أغلب أحبائه أقرأ قصصه في وقت كانت الغلبة فيه لقصص البطولة المطلقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع المعرفة.
وكأنني كنت أحيا في كهف وخرجت للعالم، كأن يداً امتدت لتنقذني وجيلي من الغرق، اخترق أحمد خالد توفيق الزحام والغوغاء وأقام قيامته الثقافية، فأحيا موت ملايين العقول بموهبة واقتدار.
كنا ننتظر إصداراته الجديدة ما بين موسم معرض الكتاب وموسم الصيف، نقبل عليها بلهفة المحكوم عليه بالإعدام إذا أتاه العفو. لم أعرف أحدًا من قراءه لم يتمنى لقاءه، الكل أجمع على حبه شخصًا كما أحبوه كاتباً، ربما لأنهم لمسوا انعكاسات شخصيته على مرايا رواياته، ربما لأن صدقه كان له سوابق وأصداء.
نوّع الرجل من كتاباته، بين سلسلات ومقالات ونصوص وروايات كاملة تغلغلت في عقولنا، ولعب بخلاياها الثقافية- إن جازت تلك التسمية، يصلح ولا يفسد، يعدِّل الأسلاك الموصلة بين أجسادنا الفانية وأرواحنا!
لم أكن من رواد الندوات الثقافية التي يمكنني فيها مقابلة الكتاب الذين أقرأ لهم وأحب بعضهم، إلا أن الله شاء أن أتقابل مع الدكتور أحمد في ندوة توقيع مجموعته القصصية "الهول" بمكتبة ألف بمصر الجديدة. كنت أمر حينها بفترة عصيبة وبشبهة انفصام في الشخصية ومحاولة الهروب من وقائع أليمة كانت تصادمني، لذا طلبت منه أن يوقع لي توقيعاً متمنياً لي أن أبقى على قيد الحياة لفترة أطول، فرد عليَّ "ياه.. للدرجة دي!".
كان إهدائه: "إلى العزيز تامر نجم.. ابق حياً حتى اللقاء القادم.. اتصرف!" وذيله بتوقيع أحمد خالد توفيق.
التقط لي معه أحد الحضور صورة هى الأولى والأخيرة التي جمعتني به، إلا أنها أصبحت أسطورتي الخاصة، فقد وضع الطبيب زراعه على كتفي بحنو أخوي فأخرج صورة لم أكن أحلم بروعتها!.
وكجزء من محاولة تصرفي للبقاء على الحياة، راسلته عبر الإيميل مرتين أو ثلاث لأعرض بعض القصائد الشعرية وأغنيتين ولم أكن أتوقع أن يرد علي لإنشغاله، لكنه خيب توقعاتي ورد مبديًا إعجاب ينم عن تشجيع لي بأن استمر في الكتابة.
مرت بضعة أعوام وخرجت من مصر إلى المكسيك ومن هناك أخذت كتاباتي تتزايد قليلاً وتنوعت مصادر قراءاتي، لم أجد هناك مخلوقأ أطلب رأيه سواه، استمر في تشجيعي نحو الكتابة، وحين أظهرت تشككي من مجاملاته رد علي: "هناك بعض الحالات التي يمكنني فيها الجزم برداءة المحتوى من أول بيت، إلا أن الوضع هنا ليس كذلك، أكمل."
بعدها أكمل هو وزاد الجرة عسلاً وسألني عما أفعل في المكسيك مالم أكن سياسياً أو دبلوماسياً، وحكى طرفة عن الطعام المكسيكي وكيف أنه تذوقه في الولايات المتحدة، كما نصحني بالبدء بتسجيل ملاحظاتي والشروع في كتابة كتاب رحلات عن المكسيك، حيث أن المكسيك من البلاد التي نكاد لا نعرف عنها شيئاً في الوطن العربي، طالما أن إقامتي في المكسيك سوف تمتد لفترة طويلة.
وبدأت في تسجيل ملاحظاتي حول البلد التي أعيش فيها غريبًا، أصبح فعل الكتابة الذي دفعنى له حاجز بيني وبين الاكتئاب، وأعطاني حماسة لاكتشاف بلد إقامتي الجديد.. عندما عرفت خبر موته، أصبح هدفي إتمام الكتاب كما أراد وإهدائه إلى كيانه الباقي فينا وإن رحل جسده عنا.
فليكن موعدنا الجنة إن شاء الله..