أعشق القراءة منذ صغري، وجدت فيها زادًا لإشباع رغبتي في اكتشاف الحياة، وكانت فرصة لتجاوز حدود قريتي الريفية، الواقعة فى أقصى حدود مركز جرجا محافظة سوهاج، قرية صغيرة مغلقة على نفسها تفتقر لأدنى أساسيات الحياة.
فمع غروب الشمس كل يوم تنتهي الحياة بها ويسدل الليل أستاره ويملأها الصمت، حالها كحال أغلب قرى الصعيد المحرومة من أبسط الأساسيات، فما بالك بوجود الكتب أو المكتبات بها، إذا أردت أن اشتري شيئًا بعيدًا عن الأكل والشرب فعليّ الذهاب إلى المركز وليس شرطًا أن أجدها.
خلال مرحلة التعليم الأساسي كانت مكتبة المدرسة هي ملاذي الأول والأخير في مسألة القراءة، أدين لها بكل ما قرأته من كتب وقصص فى المرحلة الابتدائية، وعندما انتقلت للمرحلة الإعدادية بدأت رحلتي مع سلسلة "روايات مصرية للجيب".
مازلت أذكر أول رواية قرأتها وكانت من سلسلة رجل المستحيل، وبدأ معها مرحلة بحثي عن ذلك النوع من الروايات حتى اكتشف رجل المستحيل وسفاري وما وراء الطبيعة وملف المستقبل، كانت تلك الروايات هي نافذتي التي أرى من خلالها العالم بعيدًا عن حدود قريتي المغلقة.
كنت أشعر بالقلق عندما أقرأ عددًا له جزء ثاني، ففى الأغلب لن أجد الجزء الثاني منها فى المكتبة، لأنه لا يوجد مكان يمكن أن أشتري منه تلك الروايات فى حدود إقامتي، ولا أملك رفاهية شرائها من القاهرة، فلن يقبل أن يشتريها لي أحد لأن القراءة فى نظرهم مضيعة لوقت يمكن استثماره فى المذاكرة.
كان المدرسون فى المدرسة وأمين المكتبة ينظرون لي باستغراب، متعجبين من مدى اهتمامي بتلك السلاسل، فقد كنت الوحيدة تقريبًا التي تذهب لإستعارتها من المكتبة، وما أن أبدأ فى رواية حتى انتهي منها سريعًا وأذهب لاستعير الأخرى، وذات يومٍ قال لي مدرس اللغة العربية حينما رآني أمسك بإحدى القصص: "أنت لست صغيرة لتقرئي روايات الأطفال هذه"، كنت وقتها فى الصف الثاني الإعدادي وفى أعراف الصعيد تنتهي مرحلة الطفولة بانتهاء المرحلة الابتدائية، لكني لم أهتم لكلامه وواصلت القراءة.
شعرت بالفخر في داخلي عندما أخذنا درس ذبابة "تسي تسي" فى المدرسة كوني أعرف كثيرًا عن تلك الذبابة من قبل أن أدرسها وكان الفضل فى ذلك لأحمد خالد توفيق وعلاء عبد العظيم بطل سفاري وراوية "تسي تسي".
انتهت علاقتي بـ"روايات الجيب" بانتهاء المرحلة الاعدادية، وانهيت كل ما في مكتبة المدرسة من أعداد لها، لم تكن في مكتبة المدرسة الثانوية أي روايات من هذا النوع، لذلك انتظرت حتى ذهبت للجامعة وبدأت البحث عن باقي أجزاء السلسلة، وإذا وجدت واحدة منها مع إحدى صديقاتي فكأنني وجدت كنزًا ثمينًا لا يمكن التفريط فيه.
كنت أسكن فى المدينة الجامعية وهذا يعني مزيد من الاختلاط، مزيد من الكتب والروايات، وذات يوم رأيت زميلة لي فى المدينة معها رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق فاستعرتها، كنت فتاة حالمة فصفعت يوتوبيا كل مثاليتي وأحلامي، أفزعتني حالة الديستوبيا وتمنيت عدم نهايتها القاسية، لقد صاحبت جابر بطل الرواية وألمني مصيره، وفقدت الأمل فى المستقبل حتى قامت ثورة يناير وقلت فى نفسي أن الرواية ليست إلا خيال ولا يمكن أن تحدث كل تلك الآلام في واقعنا حتى توالت الأيام وفاقت ديستوبيا الرواية واقعنا.
لطالما تمنيت أن أحظى بمقابلة الدكتور أحمد خالد توفيق، لكنه رحل دون أن أخبره أنني فهمت أخيرًا لماذا حطم أسطورة انتصار الخير على الشر فى نهاية يوتوبيا، فهمت أن النوايا الطيبة والأحلام المثالية لن تفضى بالضرورة بأصحابها إلى نهاية سعيدة، وأن الشر هو المنتصر فى النهاية دائما لأنه الأقوى مهما تخيلنا غير ذلك، وأن نهاية جابر ما هي إلا مجاز لنهاية أحلامنا فى حياة مختلفة، وأن الطيبين المثاليين هم من يرحلون ويتركون هذا العالم سريعًا، ليرتع فيه الأشرار كيفما شاؤوا.