بين زحام كاميرات التلفزيون المتنافسة على موقع الصدارة في الممر متوسط الاتساع، تزاحمت وجوه وأجساد شابة تبتسم بسعادة أو تلتقط صور السيلفي أمام الجدار الملون. بين تلك الأجساد المحتشدة، يصعب على الزائر التعرف على أصحاب المشروع الذي احتفت به الصحف والفضائيات بمجرد الإعلان عنه في الحادي والعشرين من فبراير/ شباط الماضي بمحطة مترو الأوبرا، لكن الاقتراب من كاميرات التلفزيون يُظهر وجوههم اللامعة بالسعادة والفخر، بعدما حاز مشروعهم "تيجي نلونها" حفاوة شديدة من مسؤولي الدولة وصحفها وفضائياتها.
بعد أسبوعين تقريبًا من ذلك المشهد، تغير الوضع تمامًا. تراجع ذكر "تيجي نلونها" في الفضائيات والصحف، وتراجع معه اهتمام ركاب المترو. صار أغلبهم يمرون بالجداريات الملونة بلا اكتراث، مماثل تمامًا لعدم اكتراثهم بالمجمع الثقافي الضخم المجاور، المعروف لديهم اختصارًا باسم "الأوبرا" .
تجميل وبهجة
الفكرة التي اعتمد عليها فنانو مبادرة تيجي نلونها، جاءت بسيطة، ترديدًا لصورة قديمة ترى المشاهير "نجومًا" في سماء الفن والإبداع. فقد تحوّل الممر الذي كان يقود ركاب المترو قديمًا إلى داخل دار الأوبرا المصرية إلى "رحلة فضائية" على حد تعبير شباب المبادرة، تنتشر فيها صور لكتاب كبار كنجيب محفوظ وطه حسين، ومشاهير الفن المصري كشادية وأم كلثوم، احتلت وجوههم أشكالاً دائرية تمثل النجوم والكواكب.
"هدفنا كان إننا نجمل أحياء مصر وننشر البهجة". بهذه الكلمات توضح يارا عليّ الدين الهدف من مشروع "تيجي نلونها" الذي تقف وراءه جمعية "مبدعون"، وأحدث أعمالهم هو تجميل ممر محطة مترو الأوبرا. تلتقط "سارة يوسف" خيط الحديث من زميلتها يارا، موضحة أن المشروع دُشِّن عام 2016. وكانت بداية أعمال الفريق؛ تنفيذ جداريات زيّنت حيّ مصر الجديدة وكان نجاحها نواة للتفكير في رسم جداريات بمترو الأنفاق.
تحولات دالة
تراجع اهتمام ركاب المترو وأجهزة الإعلام بـ"المبادرة الشابة" حسبما أسمتها أجهزة الدولة الرسمية، يتسق وسياسات الاحتفالات الفنية التي دأبت أجهزة الدولة على ترويجها منذ كان الفنان فاروق حسني وزيرًا للثقافة.
الحكاية مُكررة: تلتقط إحدى أجهزة الدولة مشروعًا، ثم تُدعى وسائل الإعلام لحضور افتتاح مبهر -غالبًا-، ويلتقط المسؤولون الصور بجوار العمل الفني مطلقين تصريحات مبتهجة تشيد بالشباب النشط صاحب المبادرة الفنية الوطنية، تصدر البيانات وتدور حوارات على الفضائيات حول دعم الروح الشابة المُبادِرة، وتقديم أصحابها باعتبارهم "النموذج" الذي يجب أن يكون عليه الشباب المصري. قبل أن تنتهي اللقطة بنجاح، ويتراجع بعدها الاهتمام والاحتفاء، وتُترَك المشروعات والمبادرات ليد الزمن، أو أيدي مسؤولين جدد سيحتفون بمبادرات أخرى تمحو ما سبقها.
قبل أن تحتل الألوان الزرقاء والبنفسجية وصور النجوم ممر الأوبرا، كانت هناك أعمال فنية شابة أخرى تحتل الممر نفسه. رسوم وكتابات الجرافيتي التي تشهد على التحولات السياسة في مصر في الفترة من 2010 إلى 2014. كتابات تنادي بعودة الرئيس السابق مبارك، وأخرى تسخر منه، كلمات حب وهيام من المراهقين المارين بالممر، أو هتافات الألتراس الذين كانوا يتظاهرون من أجل حضور المباريات أمام النادي الأهلى القريب، وكتابات تسخر من الإخوان المسلمين وكتابات مضادة ترفض "الانقلاب". لكن تركيب الكاميرات التي انتشرت بمحطات مترو الأنفاق منذ نهاية 2013، ضمن لسلطات الأمن ألا تُضاف لحوائط الممر آراء جديدة.
قبلها كان للممر غرض آخر، كانت البوابة الواقعة بنهايته مفتوحة، يمر منها ركاب المترو إلى داخل المجمع الثقافي بكثير من الصعوبة والاستجواب، لكنهم يمرون. أما الممر نفسه، فقد حوى معرضًا متغيرًا للفنون البصرية من نحت ورسم وتصوير، يتبع وزارة النقل إداريًا وتشرف عليه فنيًا الإدارة العامة للفنون التشكيلية بدار الأوبرا.
كان الممر جزءًا من وحدات فنية متتالية متجاورة، تتشكل من دار الأوبرا وقاعاتها ومعارضها، والمتاحف الموجودة بأرض مجمع الفنون والثقافة، والمكتبات وقاعات المؤتمرات والندوات بالمجلس الأعلى للثقافة، ومركز الفنون ونقابة التشكيليين، ثم الممر الداخل للمترو الذي كان يحوي معارضًا فنيًا، ثم محطة مترو الأوبرا نفسها، التي صممها المعماري الكبير سامي رافع وفقًا لرؤية خاصة.
«لو الشكل الفني لكل محطة اتكرر أبقى فشلت». بوازع الخوف من الفشل، نفّذ الفنان التشكيلي العالمي سامي رافع، 19 تصميمًا متمايزًا لجداريات محطات مترو الأنفاق بالقاهرة بالخطين الأول والثاني، بينها محطة الأوبرا التي نُفِّذت فيها مؤخرًا جدارية رحلة الفضاء.
حكى سامي رافع لـ"المنصة" عن كواليس 7 سنوات قام خلالها بتصميم وتنفيذ جداريات 19 محطة مترو بين عامي 1996 و 2003 (الخط الثاني). وكان اسم المحطة وشخصية المنطقة التي تقع فيها تلك المحطات هما العنصران الرئيسان اللذان اعتمد عليهما الفنان في تصميماته، بحيث يعبر التصميم عن "شخصية المحطة" والمنطقة المحيطة بها.
ففي حين رأى فريق مُبدعون ترجمة شخصية محطة الأوبرا وارتباطها العام بالفنون في "رحلة سماوية فضائية"؛ رأى فيها رافع تأصيلأ للهوية الفرعونية المصرية، معبرًا عن رؤيته بجدارية لعازفات مصريات مماثلات للعازفات اللائي تشغل صورهن منحوتات وجداريات معابد ومقابر وادي الملوك.
تظهر طريقة رافع ورؤيته الفنية في محطة سانت تريزا التي صممها لتبرز "عناق المسلم والمسيحي" على حد تعبيره، فعبر عن رؤيته تلك بجدارية تحمل صورة قلبين متداخلين. وأكد على الهوية الريفية لمنطقة فيصل بالجيزة، برسوم لفلاحات وفلاحين. وعزز مكانة جامعة القاهرة، بجدارية على جدران محطة المترو التي تحمل اسمها تُصوّر مصباحًا للمعرفة.
لا يخرج منهج سامي رافع عن المنهج المعتاد في تصميم محطات المترو في العالم. فهوية الشوارع والمناطق التي تقع بها محطات المترو، عادة ما تكون عمادًا في تصميمها الداخلي. ويتم اختيار أماكن المحطات نفسها، لا لتعكس الاحتياج السكاني لمواصلات سريعة للمناطق الأكثر ازدحامًا فحسب، بل لتعكس كذلك شخصيات ومحطات مهمة في تاريخ البلد المُنشِئة.
يظهر ذلك في محطات المترو في المدن الأوروبية الكبرى كبرلين وباريس ولندن، وكذلك في العواصم الثقافية والسياسية المهمة كنيويورك وموسكو.
مترو موسكو.. الأفخم في العالم
في عام 1957، اختير التشكيلي الشاب، وقتها، سامي رافع لتمثيل المعهد العالي للفنون الجميلة - كلية الفنون الجميلة حاليًا- في أحد مؤتمرات الشباب العالمية بموسكو.
على مدار أسبوعين، كان مترو موسكو وسيلة رئيسة لانتقالاته. وهناك، انبهر رافع بمدى ضخامة المترو وواقعية اختيار الروس للتصميمات الفنية للمحطات، بحيث يكون لكل محطة شخصيتها المختلفة عن سواها. يقول رافع "كنت أتساءل هي دي محطة مترو ولا قصر؟"
هذه الرحلة كانت أول ما استدعته ذاكرته عندما طُلب إليه تصميم محطات بمترو القاهرة الكبرى.
وقت زيارة رافع كان مترو موسكو مكونًا من 3 خطوط تضم 67 محطة فقط. امتدت الخطوط وتكاثرت بعد ذلك لتضم موسكو وحدها 14 خطًا للمترو تحوي 212 محطة. وكان الامتداد خلال أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ما انعكس على تمدد شبكة المترو وتصميمات محطاته، التي أريد منها أن تُبرِز قوة الاتحاد السوفييتي ومستقبله اللامع.
رغم البدء في تصميم مترو موسكو في أوائل القرن العشرين، بعد عقود من ظهور محطات مترو لندن (1863) وباريس (1898)؛ إلا أن روسيا القيصرية فشلت في تأسيسه واستكماله لعدة أحداث متتالية منها الحرب الروسية اليابانية، ثم الثورة الروسية (1905) والحرب العالمية الأولى، ثم ثورة أكتوبر 1917 التي سقطت معها روسيا القيصرية ليبدأ عهد اتحاد الجمهوريات السوفييتية الإشتراكية عام 1917، والتي تمكنت سلطاتها من إنجاز وافتتاح مترو موسكو للمرة الأولى في 1935. لكن افتتاحه الرسمي والأكبر كان في 1950، وكان جوزيف ستالين هو الراكب الأول.
افتتاح مترو موسكو
عند افتتاح مترو موسكو عام 1935، احتفت به السلطات في جميع أنحاء العاصمة باعتباره نصرًا سوفييتيًا وشيوعيًا، تضافرت جميع قوى الشعب لإنجازه. وفي يوم الافتتاح خرجت جموع الشعب للاحتفال حاملين نماذج مصغرة للقطارات، وقام أعضاء من الحزب الشيوعي بإلقاء كلمات حماسية للاحتفال بذلك النصر.
وكان من ضمن محطات الخط الأول لمترو موسكو محطة مترو "سوكولينكي"، التي سمي الخط الأول باسمها "خط سوكولينكيا"، وصممت على يد المهندسين المعماريين إيفان تارنوف وناديزدا بيكوفا، وفاز تصميمها بالجائزة الكبرى في معرض باريس الدولي في دورته المثيرة للجدل التي عقدت في 1937.
ومن المحطات المميزة كذلك محطة "حديقة الثقافة" التي سميت بهذا الاسم لقربها من حديقة ماكسيم جوركي الثقافية. وصممها المعماريان كورتيكوف وبوبوف، واستوحيا في تصميمهما الأعمدة التي تحرس مداخل المعابد اليونانية القديمة، في تصميم صرحي يبرز عظمة الاتحاد السوفييتي وقوته. كانت المحطة عرضة لهجوم إرهابي عام 2010، أسفر عن وقوع 40 قتيلاً، لكن المحطة نفسها لم تتضرر.
ولعل من أجمل المحطات في مترو موسكو، محطة مترو ماياكوفسكايا، التي سميت باسم الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، الذي انتحر قبل افتتاحها عام 1938 بـ 8 أعوام. وتم تصميم المحطة من وحي قصائده حول مستقبل موسكو، فزُيِّنَت المحطة بسقف فسيفسائي يصور السماء، به قوس قزح وسُحُب في منظر يراه الصاعدين من المحطة قبل وصولهم إلى أرض الشارع.
ولأن ستالين أحب أشعار ماياكوفسكي ووصفه بأعظم الشعراء السوفييت؛ كان هذا سببًا للاحتفاء الخاص بتلك المحطة التي انتقلت إليها مكاتب الوزراء، وألقى ستالين منها خُطَبِه لاتحاد السوفييت.
مترو باريس.. فن ومقاومة
في عام 1898 بدأت شركة مترو باريس بطرح مسابقة لاختيار تصميم الشوارع التي سيدخل بها المترو، وفاز بها المهندس المعماري هنري دوراي.
ولكن بالنسبة للتصميمات الداخلية للمحطة فقد كان طرازها بسيطًا ووظيفيًا، يعتمد فقط على حوائط مبلطة ببلاط أبيض، ولوحات من حجر المينا كُتب عليها أسماء المحطات لضمان جودة الإضاءة الداخلية، نظرًا للمواصفات الخاصة لحجر المينا في عكس الضوء الأبيض.
لاحقًا، ومع التغيرات التي طرأت على مترو باريس لم تختلف التصميمات كثيرًا، فمثلا تم استخدام نفس التصميم البسيط المتكرر في كل المحطات تقريبًا، وإن تم وضع أسماء المحطات داخل البلاط بألوان مغايرة. ويظهر هذا في الخطين 12 و13.
120 عامًا تمر هذه السنة على افتتاح مترو باريس، كانت خلالها محطاته وممراته شاهدة على تحولات كبيرة في تاريخ أوروبا والعالم. وأهمها الاحتلال الألماني المتكرر لفرنسا خلال الحربين العالميتين.
واكتسب مترو باريس أهمية خاصة خلال الحرب العالمية الثانية حيث كانت تصدر منه مجلات ومنشورات المقاومة، وقُتل في ممراته ومحطاته جنود ألمان ومتعاونين مع الاحتلال، وكان ضابطًا ألمانيًا هو أول قتيل يسقط برصاص المقاومة الفرنسية في إحدى محطات المترو في 21 أغسطس/ آب 1941، فرد الاحتلال الألماني بقتل 150 مدنيًا فرنسيًا انتقامًا لمقتل الضابط الألماني. واستمرت ممرات مترو باريس وأنفاقه محطة انطلاق لعمليات المقاومة الفرنسية داخل العاصمة، التي كان الاحتلال النازي يوليها أهمية عسكرية واستراتيجية خاصة، باعتبارها مقدمة الجبهة الغربية.
بنهاية الحرب وإعادة إعمار باريس، حلّت الستينات، وبدأت الألوان في الظهور في محطات المترو مع أسلوب التجديد المعروف باسم موتون – دوفيرنيه، بإدخال اللون البرتقالي إلى الحوائط البيضاء. تلقَّت هذه التصميمات تعليقات سلبية، حيث اعتُبِر اللون البرتقالي لونًا عدائيًا، كما أنه لا يعكس الضوء الأبيض -الذي تعتمد عليه محطات مترو باريس منذ نشأتها- بشكل جيد.
مع تزايد الانتقادات، بدأ عصر أندرو- موتو في تصميمات المترو، حيث استخدمت خلطة من ألوان البرتقالي، الأصفر، الأزرق، الأحمر والأخضر مع البلاط الأبيض الكلاسيكي.
جدير بالذكر هنا أن هذا الطراز وُضِع في الفترة بين 1974 و 1986، وهي نفس الفترة التي بدأ فيها تخطيط وإنشاء مترو أنفاق القاهرة بالتعاقد مع خبراء فرنسيين وبيت الخبرة الفرنسي "سوفريتو". ولذلك ربما نجد تشابهًا واضحًا في نوعية البلاط والألوان المستخدمة في محطات القاهرة.
لم تختلف التصميمات المتتابعة في مترو باريس كثيرًا، حيث ركزت التصميمات في الأعوام التالية على جانبي المعمار والإضاءة، أكثر من الجانب الجمالي لشكل المحطات وتصميمها الداخلي. ولكن تميَّز مترو باريس بوجود أكثر من 36 محطة بتصميمات مستقلة ومختلفة، تهتم بالتركيز على الهوية الثقافية للمناطق المحيطة بكل محطة.
مثلاً، جاءت محطة كونكورد في باريس، لتعبر عن التنوع الثقافي للمنطقة التي تقع فيها، والتي تضم ساحة الكونكورد القريبة من متحف اللوفر، ومسلة الأقصر، وحي مونبرناس الذي شهد ميلاد العديد من الحركات الفنية المهمة أو احتضانها وأبرزها السوريالية. وفي خطوة تسعى لمزيد من التوضيح لحقوق الإنسان، تزينت المحطة مؤخرًا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أما محطة "الفنون والحرف" في باريس، فينقل تصميمها معاني اسمها المرتبط بمتحف الفنون والحرف الواقع على مقربة منها، وأعيد تصميمها على هيئة غواصة عام 1994 على يد الفنان البلجيكي "فرانسيس شوتان"، على نمط "ستيم بانك". وتعتمد فكرة التصميم على رواية "20 ألف فرسخ تحت الماء" للكاتب الفرنسي "جول فيرن"، الذي يُنظر إليه باعتباره مؤسس أدب الخيال العلمي.
بالطبع لم تنس فرنسا ثورتها، وزينت محطة مترو "الباستيل" برسومات تصور أحداث الثورة الفرنسية وهدم السجن الشهير.
مترو نابولي بيد مصرية
إيطاليا هي الدولة التي يُنظر إليها باعتبارها متحفًا مفتوحًا للفنون. ما يجعل من تصميم محطات المترو فيها تحديًا كبيرًا أمام أي مصمم معماري، يرغب في وضع بصمة مميزة لا تكتفي بتقليد مدارس الفنون التي شهدتها روما على مدار تاريخها الطويل الممتد لأكثر من 3500 عام.
المصمم الأمريكي ذو الأصل المصري "كريم رشيد" قَبِل هذا التحدي عندما صمم محطة مترو جامعة نابولي، وقدم فيها، على حد قوله، تصميمًا يجسِّد المعرفة في العصر الحديث والثورة التكنولوجية. وذلك لأن معظم زوار المحطة من رواد الجامعة، وهم من مختلف الثقافات حول العالم.
يؤكد كريم أنه حرص على نقل التحول الثقافي الهائل الحادث في عصرنا، واعتمدت أفكاره في التصميم على الربط بين الحاضر حيث جامعة التكنولوجيا، والتاريخ العريق للمدينة. ولذلك وضع رسومًا ذات صبغة تاريخية على السلالم، لتجسد هذا الانتقال من الماضي إلى الحاضر.
مترو القاهرة.. "حاجة حلوة عشان نتبسط"
بالعودة للقاهرة، نجد أن التحول في جداريات وتصاميم محطات المترو يعكس تحولاً في نظرة المسؤولين الرسميين نحو وظيفة التصميم المعماري والفني لتلك المحطات. ففي حين عكست التصميمات الأولى واختيار الفنانين القائمين عليها وعيًا بأهمية أن تعكس المحطات هويات المناطق التي تقع فيها؛ تعكس تصريحات المسؤولين حاليًا تصورًا آخر لا يخرج عن "تقديم حاجة حلوة".
على عكس تشبُّع تاريخ مترو موسكو بالنزاع العسكري الذي وقع فيه الاتحاد السوفيتي، والثقل الأدبي والثقافي للاتحاد الذي تشهد به جدران واسماء المحطات، وبعيدًا عن التحولات الوظيفية لتصاميم مترو باريس، عرف مُصممو جداريات مترو الأنفاق المصري اختلافًا في تعامل المسؤولين مع مُبادراتهم وتصاميمهم عبر السنين.
خلال السنوات العشر الأخيرة، بدأت تصميمات محطات مترو القاهرة في التغيُّر التدريجي، لتحقيق "مزيد من التأمين"، فارتفعت الأسوار في محطات سراي القبة وحمامات القبة وكوبري القبة ومنشية الصدر - محطات متتالية- لتحجب الشارع عن أعين ركاب المترو، سعيًا لتأمين "منشآت حيوية"، منها القصر الجمهوري بسراي القبة، وكنيسة صغيرة مجاورة لمحطة مترو منشية الصدر التي تقع بالقرب منها جامعة عين شمس، تلك المحطة الأخيرة تغير معمارها بالكامل، لتشبه محطات مترو أخرى وتفقد شكلها الأول تمامًا.
ورغم أن التغيير في محطة مترو الأوبرا لم يغير شكلها بالكامل كما جرى مع محطات مثل منشية الصدر وعين شمس مثلاً، إلا أنه يبقى تغييرًا ذا دلالة، إذ يعكس رؤية المسؤولين للغرض الذي يتم وفقًا له تغيير تصاميم ورسوم محطات المترو في الخطين الأول والثاني.
تقول زينب محمد، رئيس جمعية مبدعون التي قامت بمبادرة "تيجي نلونها"، إن التعامُل الرسمى مع مبادرة فريقها الشبابي "خلت تماما من الروح الروتينية المعهودة"، ومن المتوقع أن تحل جداريات فريقها محل الجداريات القديمة التي وضعها سامي رافع وغيره من الفنانين في 23 محطة مترو أخرى، بحسب اتفاق جمعية مبدعون مع إدارة المترو.
تقول زينب إن التواصل تم مع ناظر محطة الأوبرا مباشرة، وأنه تحمس للفكرة ونقلها إلى المهندس سامي عبد التواب رئيس الإدارة المركزية للتشغيل والبحوث الذي وافق على المشروع فورًا. وبالسؤال عن كيفية اختيار تصميم الممر، قالت زينب إن التصميم نُفِّذ بواسطة أعضاء الفريق، وعُرض المشروع النهائي على إدارة المترو التي وافقت عليه، وعرضت التكفل بجميع مصاريف الخامات والأدوات التي استخدمها الفريق.
أحمد عبد الهادي المتحدث باسم الشركة المصرية لإدارة وتشغيل وصيانة مترو الأنفاق، أكد لـ"المنصة" ما صرحت به زينب وقال إن الهدف من المبادرة هو تشجيع الشباب، وتنفيذ محطات المترو بمظهر حضاري وجمالي، مضيفًا أن المشروع بدأ بمحطة مترو الأوبرا لأهميتها الفنية، ومن المنتظر أن يمتد تنفيذه إلى 23 محطة مترو أخرى قريبًا. ودعا عبد الهادي جميع الشباب إلى تقديم أفكارهم إلى هيئة المترو لتنفيذها بعد مناقشتها.
وبالعودة لتاريخ تصميم المحطات في نسختها الأولى، يحكي الفنان سامي رافع لـ"المنصة" أنه اختياره لتصميم محطات بالخط الثاني للمترو جاء بمبادرة من المهندس فاروق الجوهري، المشرف على التصميم المعماري للمحطات وقتها، بعد اطلاعه على عمل رافع في تصميم النصب التذكاري للجندي المجهول. وكان اختيار رافع بهدف "وضع تصميم متجدد" للمحطات.
لم تكن هناك مسابقة إذن بين المصممين لاختيار تصميمات المحطات، وهو نفس ما يجري الآن مع شباب مبادرة "تيجي نلونها" حيث لم تطرح شركة المترو مسابقة لتجديد جداريات المحطات. ولا توجد لجنة فنية للاطلاع على تلك التصميمات وتقييمها فنيًا قبل تنفيذها، مع الفارق في أن المصمم الذي اختير في المرة الأولى هو فنان معروف، اختير وقتها لتاريخه ومنجزه الفني.
في زحام الممر يتلفت بعض رواد المحطة لرؤية الجدارية ثم يمضون في طريقهم، بين هؤلاء "محمود" العامل بمطعم على نيل العجوزة. يرفض محمود تصميم الجدارية، مؤكدًا أن التصميمات القديمة أفضل في ألوانها، ولكن التصميم الحالي ألوانه "غامقة وكئيبة شوية"، لكنها "جيدة كفكرة" في الممر الحالي، الذي كان ممرًا أبيض خال من الصور والألوان.
يخالفه الرأي يوسف محمود الطالب بكلية التجارة وزميله محمود عبد الغني، اللذان يريان أن شكل الممر صار أفضل، ويتمنيا أن تحمل باقي محطات المترو نفس التصميمات. ويفسر زميلهم "محمود عاطف" إعجابهم بالتصميم الجديد بأنه "حاجة حلوة بنتصور جنبها وننبسط".
وردًا على الانتقادات التي واجهتها المحطة، بسبب التصميم والألوان المستخدمة، يقول الفنان "صالح العنبري" المشرف العام على الإخراج الفني للجدارية، إن "هذه الصور ظلمت المشروع لأنها تجاهلت الإضاءة تمامًا".
مصمم المحطة الفنان سامي رافع، لا يرفض الأعمال الشابة التي تبتعد تمامًا عن مفهوم التصميم الذي وضعه لمحطة الأوبرا، والذي انطلق فيه من مفهوم تواصل العطاء الفني والثقافي لمصر منذ مصر القديمة (الفرعونية) وحتى اليوم. ويرحب رافع بالمبادرة الشابة لكونها تعبر عن "اتجاه فني آخر غير الذي قام بتنفيذه"، مُعلقًا: "التجديد مطلوب دائمًا وهو سنة الحياة".