توجّه المُسن رمزي يوسف*، في صباح أحد أيام أبريل/ نيسان 2017، إلى المخبز للحصول على حصته وزوجته من الأرغفة المُدعّمة، لكنه فوجئ بتوقُّف العمل ببطاقته الذكية. لم يكن هُناك خبز في ذلك اليوم للنازح حديثًا من العريش (شمال سيناء) إلى العمرانية (الجيزة) ضمن مئات المسيحيين الفارّين بحياتهم من رصاص "ولاية سيناء".
اليوم، يحصل رمزي الذي كان مُديرًا عامًا في وزارة التربية والتعليم، على أرغفته اليومية وحصة تموينية شهرية، انتظم صرفها بعد زيارات مُتكررة منه لوزارة ومديرية التموين، باتت في مُجملها واحدة من تجارب جدّت عليه بعد النزوح؛ فخلقت منه شبه قاهري اعتاد زحام وضجيج العُمرانية بعد هدوء سيناء، ويحاول التعايش مع ضيق عيش بعد رخاء.
حال رمزي يوسف، (67 عامًا)، يُشابه أحوال مئات آخرين فرّوا مثله، قبل عام، من شمال سيناء إلى محافظات مُختلفة، ومنهم مَن كشف للمنصّة عن حنينه لتلك البُقعة الحدودية، حيث رحى الحرب ورائحة الموت، وكذلك حيث السَكن والذكرى، ولقُمة عيش سائغة علّمهم عام واحد كم هو صعب الحصول عليها في المُدن المُزدحمة الضيّقة، خاصة على نازحٍ يتقاذف الجميع المسؤولية عنه ككُرةٍ من لَهَب.
خُبزنا كفافُنا
"تصدقي بالله؟ لو العريش رجعت ربع (حالها) الأول أنا هرجع"، لا يقولها رمزي مجازًا، فقد حاول بالفعل العودة إلى مملتكاته ومشاريعه في سيناء، لكن دونما طائل "حاشوني عند كمين بالوظة 5 أو 6 مرات. قولتلهم أروح أموت هناك بكرامتي ولا أعيش مذلول في البلد".
"الذُل" الذي يشعُر به رمزي مبعثه يبدأ من محاولة تدبير لُقمة العيش- حرفيًا- ويستمر بمحاولاته للحصول على سكن تابع للمحافظة، أو إعانة شهرية تساعده مع معاشه الحكومي- 2200 جُنيه- وكذلك ما يلقاه من إساءات في مكاتب حكومية وكنسية..
يفتح الرجل كراسة مُدون بصفحاتها تواريخ وتوقيعات، ومُثبت بها ورقة مُهترئة عليها تواريخ وأختام هي ما تسمح له بالحصول على الخُبز المُدعّم "آدي بطاقة العيش، عاملين لينا طلب أهوه و لازم كل شهر أروح أختمه، يا إما الفُرن مايديناش". يحكي عن "عذاب" استصدر به الورقة المُهمة "رُحت الوزارة واتخانقت ومنها لمديرية تموين الجيزة ومنها للعمرانية، دوخوني شوية، ولفّيت لحد ما لقيت فُرن يصرفلي 10 أرغفة".
على هذا، تبقى "دوخة ولفّ" اﻷرغفة العشرة، أهون من تلك المُتعلقة بالسلع التموينية التي ظلت مقطوعة عن مُنير مُنذ تركه العريش أوائل فبراير/ شباط وحتى نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين أتت محاولاته مع "التموين" ثمارها أخيرًا وصرف سلعًا تموينية هي الأرز والسكر والزيت، بورقة يحوزها البقّال التمويني ويوقّع هو عليها كلما صرف مستحقاته "لما طلبت من مكتب الجيزة بطاقة إلكترونية ، قالولي احمد ربنا إنك بتصرف تموين".
ومع تموين شهري وخبز مُدعّم لا يُغنيه وزوجته من جوع، يلجأ رمزي للسلع الحُرة حينًا ولحيلة أخرى أحيانًا "بنعيش على طقّة (وجبة) واحدة في الأربعة وعشرين ساعة. بيقولوا ماحدش بيبات من غير عشا؟ أنا ومراتي بنبات من غير عشا. الواحد يشدّ الحزام ويعيش وسط الناس، وما يهترش (يهين) نفسه ويقول لحد اديني".
بورقتيّ تموين يبقى رمزي أفضل حالاً من (م. ن)، وهو مسيحي آخر نزح إلى حي شعبي بالقاهرة، وبعد محاولات فاشلة توقف عن التردد على الوزارة أو مُديرية التموين لتفعيل البطاقة التي أتى بها من العريش "ماتفَعّلتش لحد دلوقتي، مابصرفش تموين ولا عيش، بشتريهم من جيبي، وردود التموين عليّا دايمًا تعالى الأسبوع اللي جاي وهنشوف الموضوع ده، ومفيش حاجة بتتم"، يقول رب الأسرة العائل لزوجته وطفلين.
"الموضوع ده تم إنهائه من زمان، ولو فيه حالة معينة تتقدم لينا"، يؤكد المتحدث باسم وزارة التموين والتجارة الداخلية ممدوح رمضان للمنصّة، ويضيف "كل الكشوف اللي جتلنا من المديريات الموجودين فيها تم إنهائها واتخاذ قرار بشأنهم في حينه دون انتظار منهم، وتم إصدار بطاقات إلكترونية ليهم في الأماكن الموجودين فيها".
يتفق النازح (م. ن)- جزئيًا- مع المُتحدث باسم الوزارة، ويقول " بعض الأسر حصلوا على بطاقة تموينية واتصرف لهم سلع بالفعل"، مُعلّقًا "عملوا لناس وناس، ماعرفش ليه؟ مع إن معاهم قاعدة البيانات بتاعتنا؛ فالمفروض اللي يتعمل يكون للكل مرة واحدة يعني".
وردًا على سؤال المنصّة حول مصير من لم تُصدر لهم بطاقات حتى الآن، يقول ممدوح رمضان "إذا كان هناك حد تخلّف أو لو فيه حالات متبقية؛ إحنا مستعدين نحلّها"، وعن سوء معاملة موظفي الإدارات التموينية للنازحين ردّ المتحدث باسم الوزارة بانفعال "لا تحاسبيني على أحد بعيد عني، من ذهب إلى مديرية تموين وتعاملت معه بطريقة مجحفة أو موظف في أي مكان، يقدملنا شكوى".
على الرغم من تأكيد المتحدث الرسمي باسم "التموين" على إنجاز البطاقات الإلكترونية للنازحين، إلاّ أن شكاوى عدم وجودها أو عدم انتظام صرف السلع سبق وأن شكا منها نازحون حطّوا رحالهم في القليوبية، أي لم تقتصر على رمزي أو (م. ن) الذي قال للمنصّة "مطلبي الوحيد دلوقتي إني ارجع العريش، إحنا هنا فاض بينا".
فرصة عمل
فاض كيل (م. ن) ورمزي وأقرانهما النازحين ﻷن الأمر أبعد من بطاقة تموين، كما هو جُغرافيًا أبعد من القاهرة والجيزة، حسبما بيّنت جوانا شنودة التي انتهت بها رحلة النزوح إلى الإسماعيلية "الوضع صعب والناس بدأت تتعب وتزهق"، وما التعب إلاّ من شُحّ فُرص العمل حسبما حكت السيدة عمّا تعرّضت له وزوجها.
"جوزي كان عنده في العريش محل موبايلات وعربية ملاّكي كان بيشتغل بيها مشاوير مخصوص، ولما جينا هنا طلبنا من المحافظ ومدير الأمن رُخصة تاكسي، لكن المحافظة قالت ﻷ ماعندناش استعداد نرخّص".
جوانا أم لثلاثة أطفال، اثنين منهم انتظما في الصفوف الدراسية لمدرسة خاصة، بمُجاهدة من الوالدين "دفعت للولد الكبير 1400 جنيه والصغير 1100 جنيه، ده بالنسبة لنا مبلغ وصحيح مفيش دخل (ثابت ومضمون) وعلينا أقساط قروض، لكن ما رضيتش ادخّلهم مدارس حكومية، هُما مش ذنبهم حاجة".
تكفّلت الكنيسة بجزء من مصروفات تعليم الطفلين، كما ساعدت زوجها بتوفير فرصة عمل مؤقتة له كسائق لبعض الطالبات بأجر شهري حوالي 1600 جنيه. وفقًا للزوجة "وساعات حد يُطلبه يوصله مشوار، وده كل فين وفين".
وعدت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي النازحين إلى الإسماعيلية، خلال زيارتها لهم في الأيام الأولى لنزوحهم، بالعودة السريعة إلى سيناء، ومرّ عام دون عودة إلى البقعة التي تشهد الآن عملية عسكرية موَسّعة هي "سيناء 2018"، ما يعني أن العودة قد لا تكون في القريب العاجل كما ترجو جوانا "أتمنى أرجع العريش أعيش حياة قصيرة أحسن من الحياة اللي أنا عايشاها هنا، في العريش كانت مستورة، إنما هنا مش عارفة اعيش".
في سبيل الحصول على رُخصة تاكسي، فإن جوانا وزوجها على استعداد لتقديم أي ضمانات "يحظر (المحافظ) بيع العربية لو شاكك إننا هنبيعها أو نبيع النِمَر (أرقام السيارة اﻷجرة)"، فالتاكسي بالنسبة لهما خير وأبقى من وظائف مؤقتة كالتي جرّبها الزوج "اشتغل (صبي نقّاش) قعد 10 أيام وبعد كده قعدّوه، كان بياخد 100 جنيه في اليوم وقَلّت لـ80 وبعدين 70 جنيه، مُقابل شغل من 7 الصبح لـ7 بالليل".
أزمة الوظائف يعاني منها نازح آخر هو عادل بيباوي، الذي يعيش بمفرده في الإسماعيلية، بينما زوجته تعيش مع ابنتيه في القاهرة حيث تعمل في محكمة بالتجمع الخامس انتقلت إليها من سيناء، وحيث تدرس الفتاتان التي أثّر ضيق ذات يد والدهما على دراسة إحداهما "بنتي الكبيرة كانت بتدرس كورس مشورة (من تعاليم الكتاب المُقَدّس) بـ4 آلاف جنيه، اضطريت أقعدها منه".
يحكي بيباوي أنه كان في سيناء "صاحب أملاك ومشروعات"، وحين تأتي سيرة الحاضر يقول "دلوقتي بيتي اتخرب وعليّا مديونيات"، أضيف لها على حد قوله 40 ألف جنيه في عام واحد فقط هو ذلك المُنقضي، بسبب الاقتراض من أجل مصاريف المعيشة، وذلك بخلاف مديونية بنكية تتولى زوجته مهام سدادها، ومن أجلها تُضطر للعمل بمهنتين أخريين بجانب وظيفتها.
أما هو، بيباوي، فتَمَكّن من الحصول على عمل في فبراير الماضي "بشتغل في مطبعة بيومية (أجر) 50 جنيه". وبنبرة غضب وحسرة من اضطراره وحاجته يقول "بقيت مرمطون بعد ما كُنت بَشَغّل 20 ولاّ 30 (عامل) تحت إيدي".
يذكر أن الإسماعيلية المحافظة الوحيدة تقريبًا التي أعلنت الحكومة، قبل عام، تشكيل لجنة من القوى العاملة لبحث توفير فرص عمل للنازحين إليها، باعتبارها كانت المركز الرئيسي لاستقبال الوافدين من شمال سيناء.
.. وزمن ولّى
ينظر نازحو العريش إلى ما كانوا عليه وما صاروا إليه، ليجدوا بعد رغد العيش في سيناء إرهاب فرّق سُبُلهم، وحسب وجهاتهم الجغرافية اختلف تعامل المسؤولين معهم- حكوميين أو كنسيين- بصورة أثّرت حتى على احتياجاتهم ومشكلاتهم ومطالبهم.
على سبيل المثال، يتمنى نازحو الإسماعيلية فُرصة عمل ثابتة بعد أن تقاسمت الكنيسة والمحافظة مسؤولية تسكيّنهم، أما نازحي القاهرة والجيزة فلطالما خاطبوا المحافظتين للحصول على وحدة سكنية، وفقًا لرمزي و(م. ن) الذين يقولوان إن الرد عليهما وآخرين هو أن "الشقق مُخصصة للحالات الحَرٍجَة"، وهو ما يعلّق عليه اﻷخير بقوله "واحنا مش حالات حرجة؟ يعني سايبين بيوتنا وأملاكنا ومتهجّرين ولاجئين في بلدنا ومش حالات حرجة؟"
يحصل المُهندس (م.ن)، الذي ما يزال على قوة العمل بسيناء، على إعانة كنسية 600 جنيه وأخرى من مديرية التضامن الاجتماعي بقيمة 300 جنيه، لولاهما لالتهم إيجار سكنه البالغة قيمته 1500 جنيه ثلاثة أرباع راتبه.
أما رمزي فلا إعانات كنسية له، وحتى الحكومية التي صرفتها له محافظة الجيزة انقطعت بعد مرّتين فقط .وقيل له وبقيّة الأسر اتي نزحت للمحافظة نفسها إن السبب هو عدم وجود ميزانية لهم؛ ما اضُطر رمزي لتدبير الحال اعتمادًا على معاشه التقاعدي "ده أنا ماكنتش بتلَفّت على المعاش ده، النهارده بقيت بستنى أول الشهر، ويادوب بيكفّيني 9 أيام. وإيه؟ ببقى ماسك إيدي"، ينطقها بمرارة مُتذكرًا ما كان "في العريش كُنّا في عزّ عمرنا ما هنشوفه تاني".
"القاهرة أضواءها وملاهيها حلوة، إنما عيشتها مرار"، يُلخص رمزي علاقته بالقاهرة الكُبرى، المكان الذي شهد تحوّله من مُعلّم كيمياء وصاحب مشروعات عديدة إلى باحث عن وظيفة تمُدّه بما يكفي إيجار السكن المتواضع، 800 جنيه، وما استجد عليه من غلاء معيشة. لكّن زحام سوق عمل العاصمة لا يستوعب مُسنّ مثله كما بيّنت حكاياته..
"روحت اشتغل"، يصمت رمزي قليلاً قبل أن يُكمل "أقولك وماتضحكيش عليا؟ من شهر فات روحت اشتغل فرد أمن في فندق، قالولي أنت راجل كبير ما تنفعش. قبلها روحت اشتغل في ورشة قطع غيار، واحد قال لي اللي أنت عايزه تاخده، وماحدّش يقولك قوم من مكانك، قولتله أنا مش جاي استعطى. يعني حتى في طلبي للشغل بلاقي إحراج وجرح لكرامتي عُمري ما حسيت بيه قبل دلوقت".
تخلّلت محاولات البحث عن وظيفة، محاولات أخرى من رمزي ومندوبين عن 23 أسرة نازحة تسكن العُمرانية للجوء إلى مُطرانية الجيزة، لكن الجواب الدائم من سكرتارية الأنبا ثيؤدوسيوس هو "الأنبا مش فاضي، مش عايز يقابل حدّ"، وكلما لجأ هذا الوفد لمكتب الإغاثة في الكاتدرائية يكون الردّ "مفيش، أنت مالكش (إعانة)" وفقًا لرمزي الذي يؤكد أن بعض الأسر حصلت على معونات من الكاتدرائية، دون معايير واضحة توّزع على أساسها المعونات.
تمدّ مُطرانية الإسماعيلية النازحين بمواد تموينية شهرية وملابس للعيد و"عيديات"، وهذه الأخيرة يحصل عليها نازحون للقاهرة، وفقًا لـ(م. ن) الذي قال إن الكاتدرئية بعد اجتماع عقدته معه وغيره من النازحين؛ أمدّتهم بإعانات اختلفت بين "المادية لمَن قدموا للكاتدرائية عقود إيجار، وأثاث للبعض"، لكن مُطرانية الجيزة تأبى استقبال النازحين من الأساس، حسبما أكّد رمزي وآخرون للمنصّة.
من أجل الوقوف على أسباب هذا التفاوت في التعامل مع النازحين بين كنيسة وأخرى، ومعرفة ما إذا كان هُناك معايير أو خُطة وضعتها الكنيسة القبطية بالتعاون مع مؤسسات الدولة من أجل استيعاب و دمج النازحين في مجتمعاتهم الجديدة، تواصلت المنصّة مع الأنبا بولس حليم المُتحدّث الرسمي باسم الكنيسة الأرثوذكسية، لكنه رفض التعليق وأحال الأمر للأنبا بيمن، أسقف نقاده وقوص، والمُكَلَّف بمتابعة ملف النازحين.
تواصلت المنصّة مع الأنبا بيمن، هاتفيًا وبالرسائل للتعليق على أوضاع نازحي العريش، لكنه وبرسالة عبر "واتساب"، رفض التعليق بدعوى أن "الوقت غير مُناسب على الإطلاق لمناقشة هذا الأمر"، مُفضلاً إرجاء الحديث فيه "حتى تنتهي عملية سيناء 2018، بالنصر".
ولحين انتهاء العملية سيناء 2018 بالنصر، ستظل جوانا على قلقها من البطالة التي ستطول زوجها بمجرد انتهاء الدراسة، وسيبقى (م. ن) على أمله في أن تُفَعّل بطاقته التموينية وعلى خوفه من انقطاع الإعانتين الكنسية أو الحكومية- على بساطتهما- بينما يحلم بمثل هذه الإعانة العجوز رمزي الذي قد يعاود محاولات البحث عن فُرص عمل تُغنيه عن طرق أبواب المسؤولين. لكن الأكيد أن جميعهم سيظلون على حلمهم بالتخلص من قسوة التغريبة، والعودة إلى ديار مهجورة في العريش.
* اسم مُستعار حرصًا على سلامة المصدر