جورج هاجي.. الحرّيف الذي هزم دراكولا
كنت طفلًا لا يتجاوز العاشرة، كنت أفضل مادة الدراسات الاجتماعية (التاريخ، الجغرافيا) في المدرسة الابتدائية، كنت أعرف رمزًا مميزًا لكل بلد في العالم، تمثال الحرية للولايات المتحدة الأمريكية، برج إيفيل لفرنسا، ساعة بج بن بإنجلترا.
في تلك السن، بدأت بمتابعة مبارايات كرة القدم، بدأت الرحلة بكأس العالم 1994 الذي كنت أشاهده بصحبة أبي الذي كان يشرح لي تاريخ كل فرقة من الفرق المتنافسة، أتذكر دهشتي عندما رأيت منتخب رومانيا لأول مرة في حياتي. كانت رومانيا دولة مجهولة بالنسبة لي، ولم أعرف عنها سوى رمز واحد، وهو الكونت دراكولا.
ما أثار دهشتي ساعتها هو أن المنتخب الروماني يضم أناسًا عاديين، إذ كنت أظن أن الرومانيين جميعًا ينحدرون من نسل دراكولا، شعب من مصاصي الدماء الذين لا يستطيعون الظهور في ضوء النهار.
تحطمت الصورة، وخرجت رومانيا من إطار الخرافات والقصص الخيالية، وعرفت أن دراكولا ما هو إلا شخصية متخيلة لا تمت للواقع بصلة، لكن ما الذي جاء بهم إلى كأس العالم لمنافسة البرازيل وإيطاليا والأرجنتين؟ كان سؤالًا أجاب عليه أبي بكلمتين فقط "جورج هاجي".
سريعًا ما تحولت رومانيا في ذهني من بلد دراكولا إلى بلد هاجي، حتى بعدما عرفت وقرأت عن الثورة الرومانية في نهاية الثمانينيات وعن الديكتاتور نيكولاي تشاوتشيسكو، ظلت رومانيا البلد التي أتى منها جورج هاجي الذي لم يكن عاديًا على الإطلاق، كان بمثابة "كابتن ماجد" بالنسبة لطفل في السنوات الأولى من التسعينيات، كان متوهجًا، يستطيع التلاعب بفريق كامل، ويسجل من أي مكان وفي أي وقت.
لوسيفارول
في أحضان جبال الكاربات في رومانيا، كان هاجي يلعب الكرة لساعات طويلة، أول كرة حصل عليها صنعها له جده من شعر الخيل. كان من عائلة معدمة وأقل شأنًا من باقي عائلات قريته. وهو طفل لم يكن يعرف الكثير عن الطبقات الاجتماعية، ولكنه كان يعرف جيدًا كيف يلعب بالكرة، كانت قدراته وإمكاناته تجعل من باقي الأطفال يبدون وكأنهم حمقى، فكانوا يتنمرون عليه ولا يسمحون له باللعب معهم.
كان يلعب طوال اليوم بالكرة، وكان والده يعنفه لذلك، كان يريده أن يذهب إلى المدرسة ويهتم بدراسته، في ذلك الوقت كانت الحكومة الرومانية تبحث عن المواهب لتشكيل فريق وطني قوي في المستقبل، فأُنشئت مدرسة لوسيفارول للمواهب في العاصمة بوخارست، وتم استدعاء هاجي للانضمام لها. لم يسمح والده في البداية بسفره وإهمال دراسته، لكن زيارة خاصة من مسؤول حكومي إلى بلدته كونستانتا أقنعت الوالد بضرورة سفر ابنه وانضمامه للمدرسة.
في عام 1980 لعب هاجي، ابن الخامسة عشر، أولى مباراياته مع منتخب الشباب الروماني في فرنسا، وبدأت الأندية في أوروبا تحاول الحصول على خدمات اللاعب الشاب، حتى أن جياني أجنيلي، رئيس نادي يوفنتوس وشركة فيات الإيطالية آنذاك، عرض بناء مصنع للسيارات في رومانيا مقابل انضمام هاجي لصفوف ناديه، لكن لم يكن يُسمح للاعبين الرومانيين بمغادرة البلاد قبل 1990، بالإضافة إلى أن القانون الروماني لا يسمح بسفر الأطفال دون الثامنة عشر عامًا.
في الثمانينيات، استطاع هاجي أن يتوج مع ناديي سبورتول ستودنتيسك، وستيوا بوخاريست بالدوري الروماني الممتاز ثلاثة مرات، كما حصد لقب هداف الدوري الروماني في موسم 85 - 86، وهداف كأس الأندية الأوروبية في موسم 87 - 88. وتنتهي الثمانينيات بصعود رومانيا لكأس العالم وثورة الشعب الروماني ضد الديكتاتور نيكولاي تشاوتشيسكو.
كأس العالم
بعد أدائه المتميز مع منتخب رومانيا رغم تعثره في نهائيات كأس العالم 1990، خرج هاجي من رومانيا إلى إسبانيا محترفًا في صفوف ريال مدريد مقابل 4.3 مليون دولار، كان الريال في ذلك الوقت سيد إسبانيا، لم يخسر اللقب لخمسة مواسم متتالية، لكن يبدو أن التوفيق لم يكن يصاحب هاجي، ففي أول موسم له خسر الريال اللقب لصالح برشلونة، وفي موسمه الثاني، ظل الريال متصدرًا للدوري من أكتوبر/تشرين الأول، قبل أن يخسر مباراته الأخيرة ضد فريق تينيريفي التي سجل فيها هاجي الهدف الأول وصنع الثاني، قبل أن ينهار الريال ويخسر بثلاثة أهداف مقابل هدفين، ليذهب اللقب إلى برشلونة بفارق نقطة وحيدة. عرف هاجي في تلك اللحظة أن مصيره ليس مع النادي الملكي، وقرر الانتقال لناد أخر.
كل ذلك كان عاديًا بمقاييس كرة القدم، لكن ليس عاديًا أن تكون لاعبًا في ريال مدريد وفي عز مجدك الكروي وتقرر الانتقال إلى فريق صاعد حديثًا إلى دوري الدرجة الأولى في إيطاليا، والأغرب أن تقرر المضي قدمًا مع الفريق الذي فشل في الاحتفاظ بتواجده في الدرجة الأولى وهبط للدرجة الثانية. كان ذلك قرار غير عادي. استمر هاجي مع فريق "بريشيا" الإيطالي حتى صعد مرة أخرى لدوري الدرجة الأولى.
في كأس العالم عام 1994 كتب هاجي لنفسه بداية جديدة، فرض نفسه مرة أخرى على عالم كرة القدم، استطاع قيادة منتخب رومانيا لتصدر المجموعة الأولى التي كانت تضم الولايات المتحدة وكولومبيا في عز مجدها، بل سقطت الأرجنتين أمام سحره في دور الـ 16، استطاع هاجي هزيمة الأرجنتين التي استخفت كثيرًا بالمنتخب الروماني الذي كان هاجي بالنسبة لهم بمثابة مارادونا، الحاضر الغائب في هذا المونديال.
انتهت البطولة بالنسبة لرومانيا في الدور ربع النهائي أمام السويد بضربات الجزاء، لكن تألق هاجي ضمن له مقعدًا في تشكيلة فريق نجوم البطولة، ليعودة مرة أخرى إلى إسبانيا ويلعب لموسمين في برشلونة تحت قيادة الأسطورة يوهان كرويف.
لم يتأقلم هاجي مع طريقة لعب كرويف التي تتطلب المزيد من الجهد، كما يبدو أن التوفيق لا يصاحبه في إسبانيا، ففي الموسمين اللذين لعب فيهما هاجي مع برشلونة خسر الفريق لقب الليجا لصالح الريال وأتليتكو.
بعد كاتالونيا، انتقل هاجي إلى تركيا، ليقضي آخر خمسة مواسم له كلاعب كرة في صفوف جالاتا سراي، ويبدو أن هاجي وجد نفسه في صفوف الفريق التركي، وكان بمثابة قلب الفريق الذي هزم أرسنال الإنجليزي في نهائي كأس الاتحاد الأوروبي موسم 1999 - 2000، واقتناص السوبر الأوروبي من ريال مدريد.
كان هاجي عبقريًا داخل المستطيل الأخضر، يتمتع بكل شيء، المهارة والسرعة، والقدرة على قيادة فريق كامل، إمكاناته جعلته واحدًا من أيقونات كرة القدم في العالم، لكن الأهم من ذلك كله أنه جعلنا نعرف أن رومانيا ليست بلاد دراكولا، ولكن بلاد جورج هاجي.