بإذن خاص للمنصة
إضراب عام ومظاهرات في إيطاليا تضامنًا مع غزة، 22 سبتمبر 2025

يَوْمَ توقفت إيطاليا من أجل فلسطين

منشور الاثنين 29 أيلول/سبتمبر 2025

صباح 22 سبتمبر/ أيلول الماضي بدأتُ طريقي نحو وسط المدينة في نابولي للمشاركة في المظاهرات المصاحبة للإضراب العام من أجل فلسطين. كنت في سيارة مع رفيقة كولمبية وإيطاليين من إحدى القرى على أطراف نابولي، قرروا جميعًا المشاركة في الإضراب احتجاجًا على استمرار المجازر الإسرائيلية بقطاع غزة في صمت، حسب تعبيرهم. مع الاقتراب من الشارع الرئيسي شاهدت الشللَ التامَ وهو يمسك بالمدينة الصاخبة.

السيارات لا تتحرك، الشوارع جراج كبير، اختفاء شبه كامل للأتوبيسات ووسائل النقل العام. وصلت بعد نحو ساعة إلى ميدان مانشيني أمام محطة القطار الرئيسية. كان عشرات المتظاهرين يتوجهون إلى المحطة لإيقاف القطارات القليلة المتبقية، فمعظم القطارات توقفت بالفعل تضامنًا مع غزة.

تضامن عابر للأجيال

طوال السنوات الماضية، شاركتُ في مظاهرات عدة بإيطاليا لأغراض مختلفة أو إحياء ذكرى لحظات مهمة ومفصلية في تاريخ إيطاليا، لكني لم أر هذا الحشد من البشر وهذه الروح في أوروبا بشكل عام من قبل.

الإضراب الذي شهدته إيطاليا في 22 سبتمبر/ أيلول واحدٌ من أكبر الإضرابات العامة منذ عقود. شارك فيه عشراتُ الألوف من الإيطاليين في مختلف المدن، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

بدأتْ دعواتُ الإضراب قبل أسابيع. أصدرت أحزابٌ ونقاباتٌ بياناتٍ تندّدُ باستمرار التعاون التجاري والاستراتيجي بين روما وحكومة الاحتلال، مطالبةً بوقف التعامل معها كليًا، داعيةً العمال في القطاعين العام والخاص للامتناع عن العمل.

كل الأجيال تضامنت مع غزة، سبتمبر 2025

مرَّ أمامي مجموعةٌ من طلاب المدارس الثانوية بملابس سوداء يحملون لافتةً ضد الإبادة ويهتفون من أجل فلسطين، تبعتهم مجموعة من اتحاد طلبة جامعة نابولي، بالتحديد من جامعة لورينتالي أقدم جامعة إيطالية اهتمت بعلوم الشرق، ومجموعة عمل من أجل فلسطين مكونة من طلبة دكتوراه وباحثين وأساتذة جامعيين.

لكني تجمدتُ أمام تجمعٍ لأطفال لا يتعدون العشر سنوات، يحملون لافتة عريضة من أجل أطفال غزة، ظلوا يرفعونها طوال المظاهرة التي استمرت أكثر من أربع ساعات تحت درجة حرارة 34 مئوية كادت تصيب المشاركين بضربة شمس. 

تحدثتُ مع الأكاديمية والكاتبة باولا كاريدي، صاحبة مبادرة "آخر يوم لغزة"، التي حشدت آلاف المشاركين في فعاليات دورية للضغط على الاتحاد الأوروبي لوقف دعمه لإسرائيل.

ترى كاريدي أن هذا الإضراب "سيُسجَّل في تاريخ إيطاليا الحديث. إضراب عام من أجل غزة شمل 80 ساحة في مدن مختلفة. والأهم أنه لم يُنظم من قِبل النقابات التقليدية والكبرى، بل جاء من القاعدة؛ من النقابات المستقلة ومئات الجمعيات والشبكات التضامنية. كان لأول مرة إضرابًا عامًا من أجل قضية يُعتقد أنها خارجية، لكنها في الحقيقة قضية وجودية وإنسانية وأخلاقية. لهذا وحده استطاع الإضراب توحيد الجميع".

عنف الشرطة

في العاصمة روما، احتشد أكثر من 22 ألف شخص أمام المحطة المركزية. وقف عمال المطافي وسط الساحة وخاطب أحدهم المتظاهرين معربًا عن تضامنه مع غزة "نحن سفراء النوايا الحسنة ويجب علينا ضمان السلامة والسلام لجميع الأطفال لأننا نحمل المساعدة في دمائنا".

وعندما هتفت الجماهير له ولزملائه بأنهم لا يعرفون الخوف، رد قائلًا "هنا أخطأتم، لأننا نخاف، يجب أن نخاف، لأن الخوف هو الذي يعيدنا إلى الأرض على أرجلنا، نحن لسنا عظماء، نحن عمال مثل الجميع… لذلك يجب أن نتظاهر من أجل أبنائنا، من أجل الطلاب، يجب أن نحتج ضد هذه الدولة التي لا تزال تغرقنا بالإنفاق على التسلح، بدلًا من إنفاق الأموال على الأبحاث، وعلى مركبات الإنقاذ، وعلى الرعاية الصحية، لأن هذا هو ما يجب علينا فعله".

شاهدت هذا الفيديو وانتابتني مشاعر مثل التي سبق وشعرت بها عندما رأيت عمال ميناء جنوة في مظاهرة سابقة من أجل فلسطين؛ عمال بوصلتهم سليمة وعابرة للبحار يدركون مدى أهميتهم بالنسبة للدولة والنظام الرأسمالي العالمي ويخاطرون بكل شيء من أجل الوقوف بجانب فلسطين.

مشهدٌ غير مسبوق انتهى بتدخل أمني لفض الحشود

في بولونيا كذلك خرجت مسيرات ضخمة أدت لانسحاب الشرطة مؤقتًا، وتطورت الأحداث إلى حد إغلاق الطريق الرئيسي الرابط بين المدينة وضواحيها مما أدى إلى شلل كامل بشمال إيطاليا، في مشهد غير مسبوق منذ سنوات انتهى بتدخل أمني لفض الحشود.

تعرض المتظاهرون للعنف من قوات الشرطة في مشاهد أعادتني أربعة عشر عامًا إلى الوراء؛ إلى مظاهرة سابقة شارك فيها آلاف البشر في مواجهة قوات الشرطة، بينما تفتح عليهم العربات المصفحة المياه وتستخدم الغاز لفضهم.

في ظل عمليات الكر والفر، وقف البعض أمام المياه كأنها تروي تعطشه ليكون له دور في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة أمام الاحتلال والصمت العالمي.

قدرة بلا قوة

عجزت عن وصف ما رأيته بعيني. لم أجد أبلغ من وصف كاريدي حين قالت إنه كان "يوم الذين بلا قوة". مئات الآلاف في الشوارع. بدأوا همسًا، ثم علت أصواتهم، ثم تشكلوا أجسادًا في الساحات، وأعلنوا بوضوح أن ما "يجري في غزة هو إبادة". شعارهم كان واضحًا "بلا قوة لا تعني بلا قدرة".

مظاهرات حاشدة صاحبت الإضراب العام في إيطاليا سبتمبر 2025.

أحدث الإضراب صدى قويًّا في الأوساط السياسية انقسمت المواقف تجاهه؛ ماتيو سالفيني، نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب الرابطة المعروف بدعمه المطلق لنتنياهو، اعتبر ما جرى عملًا إجراميًا وعنيفًا لا علاقة له بحق الإضراب، مؤكدًا أنه "لن يكون هناك أي تسامح مع من يمارس العنف". وفي تعليق آخر وصف المشاهد بأنها "مرعبة".

وقال "ما شهدناه ليس إضرابًا بل عنف، اشتباكات وهجمات ضد الشرطة، محطات محاصَرة، حجارة على السكك، وآلاف العمال عالقون"، وختم ساخرًا "هكذا يبدو اليسار المؤيد لفلسطين الذي يصف نفسه بالسلمي". كما أعلن عن مقترح في البرلمان لتحميل منظمي الاحتجاجات مسؤولية دفع تعويضات عن أي أضرار.

أما إيلي شلاين، الأمينة العامة للحزب الديمقراطي، فأكدت أن ما جرى كان يومًا غير مسبوق من التضامن مع غزة، و"الحكومة الإيطالية تواصل عرقلة العقوبات على إسرائيل وترفض الاعتراف بدولة فلسطين. لكن بينما تصمت ميلوني، فإن إيطاليا الحقيقية لا تصمت".

وأضافت "الأعمال العنيفة التي قام بها بضع مئات في ميلانو يجب ألا تحجب صوت مئات الآلاف الذين تظاهروا سلميًا في مختلف المدن من أجل فلسطين. إيطاليا لا تريد أن تكون شريكة في الجريمة"، ثم ختمت "ندين العنف دائمًا، لكننا ما زلنا ننتظر من جورجيا ميلوني أن تدين جرائم نتنياهو في غزة كما في الضفة".

تمنيتُ لو استطعتُ أن أكون في كل ميدان وكل ساحة امتلأت بالمتضامين من فلسطين. شعرت بأني جزءٌ من كل يتشارك الأهداف والأفكار ويقرر رفع صوته من أجل الحق في الحياة والحرية والاستقلال. وجدتني أتنفس بعدما كدت أختنق من الصمت والخوف وانعدام الضمير لدى الساسة والمثقفين والمشاهير والأغنياء والأكاديميين، وجدت نفسي في الشارع وسط الشعوب وبين الطبقة العاملة ننتفض من أجلهم ومن أجلنا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.