كان اليوم هو 26 ديسمبر/كانون الأول 2017؛ العام يلفظ أيامه الأخيرة، وملايين المصريين يستعدون لوداعه، باستثناء خمسة عشر شخصًا، أُخرجوا فجر ذلك اليوم من زنازينهم الموّزعة بين سجني برج العرب بمحافظة الإسكندرية، ووادي النطرون بمحافظة البحيرة، إلى طريق قصير، انتهت حيواتهم بنهايته، التي لم تكن إلاّ غُرفة الإعدام.
هؤلاء الخمسة عشر أدانتهم المحكمة العسكرية بمحافظة الإسماعيلية في القضية رقم 411 جنايات/لسنة 2013، عُرفت إعلاميًّا باسم "خلية رصد الضباط"، ورفضت المحكمة العُليا للطعون العسكرية التماسهم، ثم قررت السلطات المصرية تنفيذ الحُكم بهم دفعة واحدة، فحققت رقمًا قياسيًا لعدد من يتم تنفيذ حكم اﻹعدام بهم في يوم واحد، في تاريخ مصر، دون الالتفات لما تواجهه من انتقادات حقوقية صارت معتادة في اﻷعوام اﻷخيرة.
وتيرة مُخيفة
لم تتوقف السلطات عند ذلك الختام لـ2017، إذ لم يمرّ أسبوع واحد على إعدام هؤلاء الخمسة عشر، حتى استقبلت عام 2018 بتنفيذ أحكام اﻹعدام بحق أربعة مُدانين، في القضية رقم 22 جنايات عسكرية طنطا/ لسنة 2015، والمعروفة إعلاميًّا بقضية "استاد كفر الشيخ"، قبل أن تُلحق بهم ثلاثة آخرين أُعدموا بناءً على إدانتهم في القضية رقم 93/ لسنة 2011 جنايات عسكرية الإسماعيلية.
وبهذا، تكون السلطات المصرية قد أعدمت 22 شخصًا في أقل من ثلاثة أسابيع، في وتيرة "متصاعدة بصورة مُخيفة"، حسبما أكد متخصصون في الحقل القانوني، في تصريحات لـ"المنصّة"، ومنهم الباحثة المتخصصة في ملف الإعدام بوحدة العدالة الجنائية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أميرة محمود، والتي قالت إن العام الماضي شهد تأييد محكمة النقض لأحكام إعدام بحق57 مُتهمًا، موزعين على 11 قضية، فيما أصدرت محاكم الجنايات أحكامًا بحق 260 مُتهمًا آخرين.
اقرأ أيضًا: إعدامات "174 غرب العسكرية".. مدنيون يُطاردهم كابوس "عرب شركس"
وأشارت محمود إلى أن لجوء السلطات لعقوبة الإعدام يتم "في إطار من عدم الإفصاح، بداية بقرار الإحالة، مرورًا بحكم الجنايات أو النقض أو التنفيذ"، وبصورة قالت إنها "تنم عن استهتار بالحق في الحياة، في ظل وجود شُبهة انتهاكات لحقوق الدفاع والمتهم، لا سيما في حالة المحاكمات العسكرية التي تُحاط بتحفظات كثيرة".
ويوافق الباحثة رأيها، المُحامي الحقوقي حليم حنيش، الذي يشير إلى محكمة النقض كضمانة لمراجعة اﻷحكام التي تصدر عن محاكم الجنايات في مسارات التقاضي المدني، مضيفًا "بينما في القضاء العسكري نجد أن الأمر أكثر صعوبة، ﻷن ضمانات المحاكمة العادلة غير متوفرة من الأساس".
يضرب الباحث بمجال العدالة الجنائية نور خليل، عضو مجموعة "ضد الإعدام" الحقوقية المعنية بإلغاء العقوبة، مثالًا على المصاعب التي تحيط بمسار المحاكمات العسكرية بقضية "استاد كفر الشيخ"، التي اُعدم متهموها الأربعة خلال شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، فيقول "إن متهمين في قضية أخرى أقرّوا بأنهم مرتكبو الحادث"، وهو قول دعمه خبر عن أدلة براءة متهمي "استاد كفر الشيخ"، نسبه موقع "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات"، أواخر سبتمبر/ أيلول 2017، إلى محامي المتهمين أسامة بيومي.
وأشار خليل إلى أن المجموعة المتهمة في قضية استاد كفر الشيخ "لا تعرف بعضها، وتعرض كل فرد فيهم للاخفاء القسري، ومُسجل تواجد بعضهم في أماكن مختلفة- بينها السجن- وقت وقوع الجريمة، بجانب تعرضهم للتعذيب في جهاز اﻷمن الوطني خلال مدة اختفائهم قسريًا، ثم إحالتهم للمحاكمة العسكرية رغم أنهم مدنيون"، وتتفق تصريحات خليل مع ما أورده تقرير مُشترك بين المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومجموعة "لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين"، حول مُلابسات هذه القضية تحديدًا، وما شابها من "انتهاكات".
اقرأ أيضًا: المشانق ما زالت منصوبة.. تنفيذ 44 حكم إعدام في مصر عام 2016
دائمًا ما تُواجه المحاكمات العسكرية بانتقادات حقوقية، ففي أحدث تقاريرها السنوية، قالت منظمة العفو الدولية إن المحاكم العسكريةالمصرية "أصدرت عددًا من أحكام الإعدام ضد مدنيين، إثر محاكمات اتسمت بالجور الفادح، وشابتها وقائع اختفاء قسري وتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة".
لكن هذا لا يعني خلو مسارات التقاضي المدني من المعوقات بالنسبة للمتهمين والدفاع، إذ تلفت الباحثة أميرة محمود إلى أن القوانين المصرية تتوسع في تطبيق العقوبة، من خلال إتاحة تطبيقها على ما لا يقل عن 100 نوع من الجرائم، كما لفتت إلى تعديلات قانون الإجراءات الجنائية في أبريل/ نيسان 2017، التي كان من بينها ما يتيح اختزال درجات التقاضي بصورة "ليست بالضرورة في صالح محكوم باﻹعدام حياته على المحك".
بين النقيضين
بين النقيضين ومن الإعدام إلى البراءة تحولت بالفعل أحكام قضائية ببعض المتهمين، وذلك ﻷن اﻷحكام أحيانًا ما تصدر "بدون وجود دليل مادي، واستنادًا للتحريات فقط"، على حد قول حنيش.
وذكر المحامي مثالًا على تحوّل مصير متهمين من الإعدام للبراءة، بقضية كان لها دلالاتها، وهي المعروفة إعلاميًا باسم "غُرفة عمليات رابعة"، التي يقول إن 14 من المتهمين فيها صدر بحقهم حُكم أول درجة باﻹعدام، إلا أن محكمة النقض قبلت الطعن في هذه القضية، وأحالتها للمحاكمة من جديد أمام دائرة أخرى، وانتهى الأمر بالمتهمين إلى الحكم عليهم بأحكام كان منها البراءة لعدد كبير منهم.
يؤكد مُفتي الجمهورية شوقي علام أن عقوبة الإعدام في القانون المصري "محاطة بضمانات"، لكن حنيش، بهذا المثال، يُدلل على أن عقوبة الإعدام "يتم تطبيقها، في الوقت الحالي، دون التحقق من أية ضمانات وضعها المشرع، وأحيانًا بغرض التهديد والانتقام السياسي"، وفي تلك النقطة الثانية لفت إلى أن تتبع المرّات التي نُفذت فيها أحكام إعدام "يكشف أن غالبيتها جرى بعد أسبوع أو أقل من وقوع عمليات إرهابية، مثل إعدامات خلية الرصد، واستاد كفر الشيخ، التي كانت بعد أيام قليلة من محاولة اغتيال وزيري الدفاع والداخلية".
من أجل تلك الأسباب، يطالب حنيش بإلغاء عقوبة الإعدام من التشريعات المصرية، في ظل "استحالة التحقق من الشروط التي وضعها المُشرّع لتطبيق عقوبة الإعدام"، ومثله ينادي خليل بإلغاء عقوبة الإعدام، أو على أقل تقدير تعليق العمل بها لفترة مؤقتة، بين 5 إلى 10 سنوات، لحين إجراء حوار مُجتمعي حول جداواها الفعلية في منع وقوع الجرائم.
في الغرب، تجد النقاشات حول جدوى عقوبة الإعدام، متسعًا من المساحات الإعلامية والبحثية والقانونية، وأكد عدد من المشاركين في تلك النقاشات على عدم وجود دليل يؤكد أن الإعدام يحد من الجرائم، كما أبرز عدد من التقارير الإعلامية والأورواق البحثية وغيرها من الإصدارات العلمية.
وفي مصر، ينتظر مناهضو عقوبة الإعدام تنفيذ السلطات لما أعلنته أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة خلال دورة انعقاده السادسة والثلاثين، في سبتمبر/ أيلول 2017، بقبول تعليق العمل بعقوبة الإعدام من حيث المبدأ في حالة فتح حوار مجتمعي حول العقوبة، وفقًا لما ذكرته "المبادرة المصرية" في تقرير لها، وهو ما تؤكد الباحثة بـالمؤسسة أميرة محمود، وجود "فرصة حقيقية" لحدوثه.
ولحين إجراء مصر حوارها المنتظر حول العقوبة التي لاقت عليها انتقادات من الأمم المتحدة، يظل الإعدام عقوبة مطبقة ويُحكم بها ضد المئات في المرّة الواحدة أحيانًا، على حد قول أميرة، وتبقى مسؤولية رفضها في رأي خليل تقع على عاتق المجتمع بأكمله.