يعتقد الإنسان بطهارته، وبأنه كائن ملائكي لا يرتكب الخطايا، يحلق طوال فترة حياته إلى أن يرتفع نحو السماء، حتى تأتي مواقف يختبر الإنسان فيها نفسه، ليكتشف حينها الحقيقة المرة؛ أنه ليس ملاكًا وأن أجنحته ليست سوى أجنحة شمع تذوب فيسقط في بحر الخطايا التي يرتكبها بنفسها عن عمد أو دون تعمّد.
أراد المخرج اليوناني يورجس لانثيموس أن يؤكد ذلك في فيلمه الأخير The Killing of a Sacred Deer "قتل غزالة مقدسة"، مقتبسًا من التراجيديا اليونانية "إيفيجينا في أوليس" ليوريبيديس تصورات عن فطرة الجنس البشري، عندما يضطر الملك أجاممنون ملك الإغريق للتضحية بابنته إفيجينا إرضاءً للإلهة أرتيميس المقدسة وذلك بعدما قتل غزالة ترعى فى الغابة.
وجد لانثيموس ضالته فى تلك القصة التي تتحدث عن الإنسان، رغم أنها ليست المرة الأولى التي يناقش لانثيموس هذا الهاجس، بعد فيلميه Dogtooth الذي يعرض قصة ثلاثة أشقاء مراهقين يعيشون في عزلة تامة فرضها عليهم والداهم اللذان يخافان عليهم من العالم الخارجي، وThe Lobster عن شخص وحيد بلا عائلة يذهب إلى فندق يبحث عن شريك لحياته، وإذا فشل في ذلك خلال 45 يومًا سيتحول إلى حيوان يختاره بنفسه.
ولكن في "قتل غزالة مقدسة" يتعمق لانثيموس أكثر في النفس البشرية، إذ يطرح ثيمة وفلسفة الخطأ وحجم تأثيره على حياته وحياة الأقربين منه.
أظهر لانثيموس كل ذلك من خلال قصة شديدة الرتابة والتقليدية عن جراح قلب ناجح يعيش مع أسرته؛ زوجته طبيبة العيون، وابنة في الرابعة عشر وابن في العاشرة، حياتهم عادية، طفل يتعلم البيانو وشقيقته تتدرب على الغناء، إلى أن يظهر في حياة الأسرة فتى مراهق يحاول الأب أن يُقرّبه من الأسرة.
هذا المراهق هو باري، ابن رجل توفي بينما كان الطبيب يجري له عملية جراحية. لا ينكر الطبيب إحساسه بالذنب، فيتقرب من الشاب المراهق، يغدق عليه بالهدايا، يساعده دائمًا، يدعوه إلى المنزل للقاء أسرته، فيتقرب منهم الفتى المراهق، الذي يكشف لاحقًا نواياه الانتقامية.
يصاب ابن الطبيب بمرض يعجز الأطباء عن تشخيصه، وهنا يخبر الفتى المراهق الطبيب أنه المسؤول عن ذلك ويشرح له دورة هذا المرض، الشلل وفقدان الشهية ونزيف العينين ثم الموت، ويشرح له أن هذا المرض سيصيب أفراد أسرته واحدًا تلو الآخر ويختتم به إلا أن يختار أحد أبنائه ليقتله.
يركز لانثيموس على المواقف الصعبة التي يتعرض لها الإنسان وكيفية مواجهتها وسط روتينية الحياة وكيف يظهر الإنسان الجانب العبثي والفوضوي حينما يتعرض لمشكلة صعبة، وقدمه بشكل كوميديا سوداء، سواء فى المواقف والحورات، حيث يتظاهر الأب بأن كل شيء على ما يرام، ويطلب من زوجته إعداد وجبة يحبها، بينما تحث الأم زوجها على التضحية بأحد الأبناء مع إمكانية إنجاب آخر.
أراد لانثيموس أن يعري الأسرة من كل مثاليتها، فالكل هنا يبحث عن الخلاص لنفسه ولا يريد الموت من أجل الآخرين حتى وإن كانوا أبناءه.
أحداث الفيلم، التي كتب قصته يورجس لانثيموس مع إيفثيميس فيليبو، تسير برتابة مربكة ومحيرة وغير مريحة على الإطلاق، ساعتان من القلق، ترسخه أكثر حركة الكاميرا التي كانت كادرتها جيدة جدًا ومتقنة ومتنوعة ما بين الكادرات البعيدة والقريبة لتوضح ردود الفعل من دون كلمة واحدة، فقد أعطت انطباعًا أنها تراقب حركة الأبطال، تسرد القصة دون أن تكون طرفًا فيها، كأنها عين الموت تشاهد الأبطال.
الفيلم من بدايته يضع المشاهد في حالة توتر بصري ونفسي، بدا واضحًا من مشهد البداية الملحمي لعملية قلب وسط أدوات الجراحة المملوءة بالدماء، مع موسيقى كلاسيكة كانت قليلة في الفيلم ككل، ولكنها تتواجد في أوقات الحدة الدرامية لتخبرك بأن الموت قادم لا محالة.
واجه الفيلم نقدًا شديدًا بسبب النهاية القاسية بالنسبة لكثيرين والمرعبة إلى أقصى حد، لدرجة أنه لاقى صفارات استهجان في مهرجان كان بسبب النهاية المختلفة عن نهاية الأسطورة اليونانية؛ حيث تفدي الإلهة ابنة الملك بغزالة، ولكن في الفيلم استسلم الدكتور للشرط لينجو بنفسه وببقية أسرته، ويؤكد في النهاية على أن الإنسان ليس ملاكًا يضحي من أجل الآخرين إنما الهدف الوحيد لنا هو الاستمرار في الحياة بكل ما فيها من روتينية وعبث.