"لا أخوض تلك المعركة نيابة عن أحد، ولكن لإعادة نشر ثقافة الاحتجاج بين الناس، وعودة الثقة في أنفسهم وإنه مفيش حد ممكن يظلم الناس طوال الوقت والكل ساكت. لابد من ظهور ناس له بالمرصاد. أنا لها مهما كان الثمن، ولو وصل إلى انتهاء حياتي". رسالة وجهها، عبر فيسبوك لزملائه، العامل بشركة مطاحن ومخابز جنوب القاهرة والجيزة ناجي رشاد، توسطت الوقت بين قرارين رسما ملامح المعركة التي يخوضها حاليًا.
أول القرارين كان الذي أُبلغ به رشاد، في مطلع يوم عمل عادي، هو الأحد 3 ديسمبر/ كانون الأول، بصورة "مفاجئة"، ويقضي بنقله من محل عمله الحالي، في فرع الشركة بإمبابة إلى مصر القديمة، وثانيهما هو الذي أعلن عنه في الساعات الأولى ليوم عمل آخر هو الثلاثاء 5 ديسمبر، ببدء إضراب عن الطعام والاعتصام في مقر الشركة ضد تنفيذ قرار النقل، "ولو انتهى الأمر للموت"، كما قال للمنصّة.
هذه ليست أول معارك الرجل، الذي اعتادته ساحات النضال العُمالي، منذ ما لا يقل عن عقدين، سجّل فيهما الانتصار البارز بحصوله والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عام 2010، على حُكم الحد الأدنى للأجور، لكّنها مُختلفة عن بقية معاركه إذ أتت بعد سنوات من آخر مناوشة بينه وبين الشركة قبل ثورة 25 يناير، كما أنها ليست مُتعلقة بشأن عُمالي عام سيواجهه وآخرون، كقانون جديد أو انتخابات نقابية، بل شأن خاص به هو فقط، ناجي رشاد.
"خناقة" أكتوبر
في منتصف الأسبوع الجاري، أعلن أمين مخازن فرع إمبابة بشركة مطاحن ومخابز جنوب القاهرة والجيزة ناجي رشاد عبد السلام تسليم عهدته، ثم التزم بقعة من أرض الشركة اتخذها مقرًا لاعتصام لا يشاركه فيه إلاّ حقيبة مستلزماته الشخصية، مُخلصًا لقراره بالبقاء في هذا المكان، الذي قررت الإدارة إبعاده عنه إلى فرع يُسمّى "تجارية مصر القديمة"، بصورة قال إنها "مُفاجئة" وفسّرها بما رأها أسباب نتجت عن معركة وقعت قبل شهرين بينه وبين الإدارة.
يحكي العامل ذو الأربعة وخمسين عامًا، الذي نقلته اليوم قوّة من قسم الشرطة إلى مستشفى امبابة العام، عما حدث في 30 أكتوبر/ تشرين اﻷول الماضي، ووصفه بـ"بداية الحكاية"، حين انعقدت الجمعية العمومية للشركة، التي يحضرها رشاد سنويًا، بموجب امتلاكه عدد من أسهمها منذ عام 1997، ويشارك فيما تشهده من نقاشات حول الشؤون المالية والإدارية.
قال القيادي العُمالي إنه اعترض في تلك الجمعية على "تعيين شباب بالمحسوبية، وتسكينهم في مبنى إداري تابع لفرع إمبابة، بالمخالفة لاقتراح سابق من العُمال بتأجيره مقابل ما لا يقل عن 2 إلى 3 مليون جنيه في العام، بهدف تعظيم أرباح الشركة".
"كان فيه مخالفات، وأنا طبعًا ماعجبنيش الوضع؛ فاتكلمت وقت الجمعية وبدأت اتناقش واحتجّ عليها؛ فإزاي اتكلم في ده؟"، يقول رشاد عما اعتبره "نيّة مُبيتة" لدى أشخاص في الإدارة لإبعاده عن الفرع الذي عمل فيه منذ أعوام كثيرة مضت، ويدلّل على صدق اعتقاده بقوله "القرار صدر بحقي أنا بس، ﻷني كنت أنا الوحيد اللي من داخل الشركة اتكلم في اﻷمور دي".
شارك ناجي رشاد، بجانب قضية رفع الحد الأدنى للأجور، في معارك أخرى جماعية، كالتي سبقتها بثلاث سنوات ضد قانون الاستثمار الجديد، أو التي اندلعت بعد الثورة حين أقام دعوى قضائية ضد قيادات بالدولة كان منهما رئيسي الوزراء والمجلس العسكرى، للمطالبة بإلغاء القرار السلبي بالامتناع عن إجراء انتخابات النقابات العمالية دورة 2011-2016 وإصدار القرار المنظم لمواعيدها وإجراءاتها، فضلاً عما أثاره من قضايا عبر مدونته "عُمّال مطاحن مصر".
وعلى الصعيد الشخصي، كانت آخر مشكلة تعرّض لها رشاد قبل ثورة 25 يناير، حين جرت محاولات لوقفه عن العمل تمهيدًا لإصدار قرار بفصله، لكنه تغلّب عليها بمساعدة من المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
باسترجاعه ذكريات تلك المعارك وما قبلها، قال الرجل في وصف وضعه الحالي "عايزين يبعدوني عن العمال، علشان طول الوقت بحاول انشر ثقافة الحقوق العمالية بينهم؛ فهُمّ (الإدارة) مش عاجبهم كده يعني"، لكنه يؤكد تلقيّه دعمًا من جانب آخر "عدد رهيب من العمال معايا، ومنهم اللي طلب بعمل وقفة (احتجاجية) لكن رفضت، ﻷن ده تمنه ضرر للمواطن، لو اتأخرت حصص الدقيق على المخابز".
خياران أو موت
على الرغم من دعم الزملاء، إلا أن رشاد يواجه في معركته الحالية ضغوطًا، حسبما حكى للمنصّة وكتب في حسابه على فيسبوك ، من جهات وأشخاص مثل "مسؤول باللجنة النقابية التابعة للاتحاد العام للعمال" قال إنه حاول يقنعه بتنفيذ القرار، على وعد بإعادته لفرع إمبابة مرّة أخرى بعد فترة قصيرة.
لكن رشاد رفض المحاولات التي قال إن منها ما كان من الشرطة أيضًا "مأمور قسم إمبابة حاول إقناعي بوقف الإضراب عن الطعام، لكن زوجتي وأولادي قدّموا بلاغ للنيابة العامة لإثبات الحالة، والنيابة حوّلته لقسم إمبابة لتحرير محضر، والمأمور حاول التأثير على زوجتي وأولادي، وقال لهم إنه هيتوجه بقوة للشركة لنقلي إلى المستشفى، لكن هم تمسكوا بطلبهم تحرير المحضر".
بالفعل في عصر الخميس، نُقل "رشاد"، الذي يعاني من مشكلات بضغط الدم والقلب بجانب مرض السُكري، إلى المستشفى وما يزال متمسكًا بموقفه.
كان العامل المُضرب في وقت سابق أوكّل زوجته وأبنائه بتقديم بلاغ، يتهم فيه رئيس الشركة بـ"الشروع في قتله"، ويُفسر ذلك بقوله "أنا مريض سكر وقلب وضغط، معاد (صرف) العلاج بتاعي يوم 1 من كل شهر من مقر الشركة، ولغاية اللحظة اللي احنا فيها ماتصرفليش العلاج؛ فاتهمته إنه بيحرّض على قتلي، وبيدي تعليمات شفهية وغير مكتوبة لرئيس القطاع الطبي بعدم صرف العلاج لي".
يخوض رشاد معركة الاعتصام والإضراب عن الطعام، ضد القرار الذي يرفض تنفيذه لأسباب عددّها بقوله "النقل ده هيجهدني صحيًا وماليًا، وهروح أقعد وسط اتنين عمال. ده كده سجن في مكان لا زرع فيه ولا ماء ولا روح، ولا عمال. أهم حاجة العُمال، هُمّ الزرع والماء بالنسبة لي".
وأمام تلك القناعة، أعلن ناجي رشاد قراره النهائي باستمرار إضرابه سواء في مقر اعتصامه بالشركة، أو من داخل المستشفى، حيث أعلن رفضه لأي محاولة لحقنه بمحاليل تغذية، وذلك تمسكًا بمطالبه التي حددها في كلمات معدودات "إما إلغاء القرار وصدور آخر ببقائي في إمبابة، أو نقلي للمقر الرئيسي في فيصل. أو النهاية، الموت".