مفيش غير بيبو واحد.. مفيش غير بيبو واحد.
ملعب مختار التتش
ديسمبر/كانون الأول 2001
أول مران بعد الفوز الأفريقى الكبير، المئات يملأون المدرجات، مشاعر السعادة والفرحة تغمر الجميع، الأغاني والهتافات لا تنقطع لحظة. هدير الجمهور صمّ آذان سكان جزيرة الزمالك حيث مقر النادي الأهلي. هل فعلا عادت الكأس الشاردة إلى الجزيرة؟
هتاف واحد يتكرر بلا انقطاع "بيبو.. بيبو.. بيبو".
في تلك الآونة جاء الدور على ابن السويس، خالد بيبو، ليكون فتى التتش المدلل. فمنذ أيام قلائل أحرز ثلاثة أهداف في النهائي الأفريقي، ليستعيد الأهلي كأسًا غالية غابت عن خزائنه لمدة 15 سنة بالتمام والكمال.
شخص واحد داخل ملعب التتش لم يكن سعيدًا، وظل يلوح للجماهير بغضب يأمرهم بالتوقف، وبدا كمن يحدث نفسه وسط هذا الضجيج، هاتفًا بعبارة لا يسمعها أحد.
"مفيش غير بيبو واحد.. مفيش غير بيبو واحد."
ستاد القاهرة
ديسمبر 1987
كل من ذهب إلى استاد القاهرة، في أيامه الخوالي، يعرف معنى العبور المميت عبر النفق إلى المدرجات. كنت طفلًا، يبلغ من العمر بضع سنوات، لما اضطر والدي الأهلاوي العتيد إلى حملي على عنقه، لينقذنى من الموت محشورًا وسط الجماهير الزاحفة عبر النفق.
ارتقيت فوق الجميع حتى مررنا بصعوبة حتى نهاية النفق، ولاح أمامي بساط أخضر وأبراج حديدية عملاقة، مثبت بها كشافات بيضاء مبهرة قوية حولت ليل مدينة نصر إلى نهار.
تطلعت ببصرى في كل الاتجاهات، كان مشهدًا مهيبًا. مئات الألوف يحتشدون على مصاطب الاستاد الأسمنتية القديمة، قبل أن تستبدل لاحقًا بمقاعد بلاستيكية، ضمن استعدادات التقدم لنيل الصفر الشهير.
أسوار المدرج العلوى لاستاد القاهرة اختفت وراء الأعلام الحمراء ولافتات القماش التي حملت عبارات التشجيع وتمنيات الفوز بالكأس الإفريقية، مذيلة بتوقيعات المشجعين القادمين من الأنحاء كافة. ذاكرتي لا تحمل عن هذا اليوم سوى مشهدين.
مشهد الزحف عبر النفق ورؤية الملعب لأول مرة، وطواف الوداع، لما حرص الخطيب على توديع الجماهير وهو يطوف حول الملعب حاملًا علم الأهلي.
الأمور تمضى برتابة، حسب ساعة الأستاد، بقيت ربع ساعة فقط على نهاية المباراة.
الأهلي يتقدم بهدفين على الهلال السوداني، والجمهور بدأ احتفالاته بالكأس.
ثم يظهر الخطيب فجأة على خط التماس استعدادا للنزول، فيسرع طاهر أبو زيد نحوه ويقلده شارة الكابتن. دخل بيبو الملعب وقد تخطى الثلاثين بقليل، يحمل جسدًا فارع الطول أنهكته الإصابات والكسور والعمليات الجراحية.
لعب متأخرًا في دور صانع الألعاب. كان عائدًا للتو –كالعادة- من إصابة خطيرة في عظام الوجه، تعرض لها أثناء مشاركته في مباراة إعتزال رفيق مشواره مصطفى عبده.
ورغم كل ماسبق، قدم الخطيب لمحات مبهرة وأداءً رفيع المستوى.
يميل محبو الأهلى القدامى إلى وصف تلك الدقائق بأنها من أمتع أوقات بيبو في الملاعب.لاسيما أنها كانت أخر مبارايات الموهبة الخارقة والرمز الكروي الأشهر، الذي حباه الله بأنهار من الكاريزما والتواضع وحب الجماهير باختلاف ميولهم.
وفي أفضل ختام لمشوار أسطوري، صعد كابتن الأهلي إلى المقصورة وتسلم كأس أفريقيا من رئيس البلاد، الكأس التي ستغيب 15 سنة، حتى يستعيدها خالد بيبو وزملاؤه مطلع القرن الجاري.
لكن سيهتف بعدها الإدارى العجوز "مفيش غير بيبو واحد".
ستاد القاهرة
نوفمبر 1977
صاح محمد لطيف معلق الكرة الأشهر "برافو يا خطيب.. برافو يا خطيب.. كل الدنيااااا".
كان الهدف إعجازيًا يُسكر كل عاشق للكرة لا شك، ولكن.. ماذا كان يقصد لطيف؟
مالها كل الدنيا يا كابتن لطيف؟
صمت لطيف ولم يكمل. عبارة مبتورة وغرائبية تحتمل كل التأويلات وتليق بهدف أسطوري.
فُتنت بغموض وعدم اكتمال "كل الدنياااا" لطيف، كافتتاني بهدف الخطيب.
في مناخات سبعينية ملحمية، مفعمة بالصدمات الفجائية والتحولات العظمى والقرارات الصعبة. لم يكن مَرّ أسبوع واحد على هبوط طائرة السادات في مطار بن جوريون. ومازال المصريون يحاولون استيعاب ما حدث. حتى فاجأهم كعب الخطيب، الذي استقبل تمريرة مختار مختار، بعد أن وصلت متأخرة في ظهره، فصحح مسارها بكعبه، وهو يجري، فجعلها أمامه في لحظة متخطيًا مدافع منتخب تونس. أصبح في مواجهة الحارس عتوقة ليودعها بسهولة على يساره، محرزًا هدف الفوز.
حجز بيبو بهدف لا ينسى تذكرة الطائرة المتجهة لبيونس ايرس للمشاركة في مونديال 1978. لكن يرى البعض أن مصطفى يونس، ليبرو المنتخب القومي، ألغى الحجز وحرم الدنيا من مشاهدة بيبو، بعد أن قدم مبارة سيئة، وخسرنا في تونس بأربعة أهداف لهدف.
عدم ظهور بيبو على مسرح الكرة العالمية، ورفض النادي الأهلي أن يحترف في بروسيا مونشنجلادباخ الألماني، وسانت اتيان الفرنسي، يجعل تصنيفنا لموهبة الخطيب محض آراء شخصية، لكنه غالبًا ضمن أفضل 10 أشخاص لعبوا كرة القدم في العالم.
في حدث فريد وغير مسبوق جلس صالح سليم أمام الكاميرات، ليسجل كلمة بمناسبة اعتزال بيبو.
في البداية أثنى صالح على حُسن اختيار الخطيب لتوقيت الاعتزال والتوقف عن ممارسة السحر.
ربما كان المايسترو يوجه حديثه إلى "صالح سليم اللاعب"، الذي تأخر في اختيار توقيت الابتعاد عن الملعب، ولم يأبه لنداءات الجماهير التي طالبته بالتوقف، حتى جاءت هزيمة 67 وأوقفت مصر كلها.
ثم تقمص المايسترو دور المحلل الكروي وعرض أهدافًا للخطيب وبيليه ومارادونا وعلق عليها، وعقد مقارنة بينهم.
صالح لم يذكرها صراحة. لكن كلامه كان يوحي بذلك.
قد ينقسم أهل الدنيا بين بيليه ومارادونا. وأيهما يستحق أن يكون الأول على العالم. لكن يبدو أن صالح سليم قد حسم أمره ونحن معه. المركز الثالث يليق بالخطيب؟
لنا في غموض عبارة لطيف "كل الدنيااااا" خير تأويل.
الخطيب الأفريقي كان أسعد حظًا من الخطيب المونديالي، فقد استيقظ أحد أيام 1983 على خبر فوزه بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا، وهي الجائزة التي كانت تمنحها مجلة "فرانس فوتبول"، لتشهد القاهرة حفلًا ضخمًا لتسليم الكرة الذهبية لبيبو، الذي يعتز كثيرًا بتلك الجائزة حتى انها تصحبه فى أغلب مقابلاته التليفزيونية.
وإلى جانب فوزه بالعديد من الكؤوس على مستوى الأندية والمنتخب. ظل بيبو يحتكر لقب هداف إفريقيا في بطولات الأندية، نحو ثلاثة عقود بعد اعتزاله.
عين شمس
يونيو 1967
توقف النشاط الكروى في مصر بعد هزيمة 67. النظام حمّل أسباب الهزيمة للكرة ونجومها وتعلق المصريين بها. لم يبالي المصريون العاشقين لكرة القدم. بل انصرفوا إلى الساحات الشعبية حيث مباريات الكرة الشراب التي كانت تستقطب حواة كرة القدم وأمهر لاعبيها.
"دا كان ساكن جنبنا. كنا نعدي تحت بيتهم نشوف فانلات الكورة بتاعته منشورة عالحبل. طبعا كان حريف جدًا واتشهر وقتها لدرجة أن أي حد معدي جنب سور المترو يشاور على بلكونتهم و يقول.. بيبو ساكن هنا".
هكذا تحدثنى أمي عندما تأتي سيرة الخطيب.
في كل مرة تذكر نفس المعلومات بنفس الترتيب دون أن تنقص أو تزيد حرفًا.
على بعد أمتار من قصر جعفر باشا والي - أحد أبرز رؤساء النادى الأهلي (1923- 1930) - في عين شمس بالقاهرة، بدأ الخطيب مداعبة الكرة. وفى سن الرابعة عشر ذاع صيت موهبته بشدة فى مباريات الكرة الشرب ودوري المدراس.
امتدت شهرته للأحياء المجاورة المطرية والحلمية والزيتون، حتى سمع به المسؤولون بنادي النصر في مصر الجديدة، القريب من سكنه. سريعًا سجلوه كلاعب، ومع توالي الحديث عن بزوغ موهبة كروية جبارة، بدأ اسم الأهلي يلوح في الأفق.
قدم محمود أوراقه كطالب ثانوي في مدرسة الموهوبين.
وهناك شاهده فتحي نصير المدرب بالنادى الأهلي. فلم يتردد في سحبه للقلعة الحمراء. دخل محمود الخطيب النادي الأهلي لأول مرة عام 1969. وبدأ رحلة طويلة لم تنتهي فصولها.
الخطيب وحلم لن يكتمل
أول عهدي كمشجع في المدرجات هو آخر عهد الخطيب بالملاعب، خرج الخطيب من الملعب في اللحظة التي تشكل خلالها وعي جيلنا بكرة القدم، أمسى بيبو كحُلم جميل فاتن لم نستطع اللحاق به، لم نره بأعيننا ولم نستمتع بفنونه ومهاراته وأهدافه.
لم نسمع أحمد عفت حين ظل يصرخ "جوول عظيم. جوول عظيم مش معقول. الخطيب بيجيب جول مجاش من سنين طويلة" بعد هدفه الصاروخى المذهل في شباك مستقبل المرسى التونسى.
لم يبق لنا من الخطيب اللاعب إلا تسجيلات شرائط الفيديو ولقطات متناثرة على يوتيوب وحكايات تختلط بالأساطير يرويها المولعون الذين عاصروه وشهدوا لحظات توهجه.
في حي إمبابة خلال أوائل التسعينيات ونهايات سطوة نوادي الفيديو. أتذكر لوحة إعلانية أمام أحد النوادي وقد وضع عليها بوستر شريط فيديو مباراة اعتزال الخطيب، يجاور بوسترات أحدث أفلام اميتاب باتشان وعادل إمام الرائجة وقتها.
نعم لم نلحق زمن بيبو اللاعب لكننا عاصرنا نسخًا مختلفة منه. يذكر جيلنا جيدًا الخطيب في حلة رسمية أنيقة، على رأس جهاز المنتخب القومي، عندما أعاد كامل قيمة تعاقده مع اتحاد الكرة بعد قرار إقالته المفاجىء.
وتعرفنا في بدايات الألفية على فن التحليل الكروي، عندما رأينا الخطيب يحرك قطعًا بلاستيكية داخل مستطيل أخضر مصغر، في برنامج استاد النيل، الذي بدأ بثه في أواخر التسعينيات على قناة النيل للرياضة.
ظهر محمود الخطيب لأول مرة في ثوب المحلل الكروي، وتميز جدا في هذا المضمار وتركه سريعًا بعد أن فتح الطريق لعشرات من النجوم المعتزلين بعده.
عشنا أيضًا زمن الخطيب عضو مجلس الإدارة، والمشرف على الكرة بالنادي الأهلي بعد موقعة إنبي، عندما أخرج فريق الكرة من أقسى كبواته، وقاده للحصول على كأس مصر بعد خسارة مذلة لبطولة الدورى العام.
هل ينسى جيلنا هدية الخطيب؟
"أثق في إختيارات محمود الخطيب ولجنة الكرة".
صالح سليم معلقًا على عودة الخطيب من لشبونة، مصطحبًا معه مديرًا فنيًا جديدًا للأهلي.
بعد لقائه بالخطيب، فسخ مانويل جوزيه دا سيلفا تعاقده مع نادي بوافيستا البرتغالي وجاء إلى القاهرة ليدير من الملعب مباراة الأهلي التاريخية مع ريال مدريد احتفالًا بحصول الأهلي على لقب نادي القرن في أفريقيا.
لم يقُد جوزيه الأهلي للفوز على ريال مدريد فحسب، ولكنه دشن عصرًا ذهبيًا لم يتكرر في تاريخ الأهلي. وتحول إلى أيقونة خالدة بالنسبة لجماهير النادي، وتربع على عرش الإدارة الفنية في الشرق الأوسط.
ألمانيا
سبتمبر 1955
لم تكد أشهر قليلة تمر على مولد الخطيب، حتى شهد أقصى الشمال في ألمانيا مولد أسطورة كروية أخرى. كارل هانز رومينيجه. جمعت بين النجمين مجايلة واضحة لمّا شهد عام 1972 أول مشاركة لهما مع الفريق الأول في ناديي الأهلي وبايرن ميونخ.
وفي تزامن عجيب منحت فرانس فوتبول كرتها الذهبية فى مطلع الثمانينيات لرومينيجه كأفضل لاعب أوروبي وللخطيب كأفضل أفريقي.
من قبل ذلك كان يروق لكثير من متابعي الأهلي التطلع عالميًا إلى نموذج بايرن ميونخ. حيث يرونه الأقرب شبهًا لناديهم. من حيث الشعبية والتاريخ والمكانة والطموحات وحتى ألوان الفريق.
عزز هذه المقاربة جلوس فرانز بيكنباور نجم النادي القديم على مقعد رئيس النادي في تسعينيات القرن الماضي. في ذات الفترة التي تولى فيها صالح سليم رئاسة النادي الأهلى.
أين متزامنة الخطيب ورومينيجه؟
عاون رومينيجه بيكنباور فى منصب المدير الرياضي لبايرن ميونخ. وزامل الخطيب صالح سليم كعضو بمجلس إدارة الأهلي ومشرفًا على فريق كرة القدم.
مطاردة مستمرة لمستحيل لن يأتي.
هذا عنوان مناسب لقصة جيلنا مع الخطيب. سنظل نسعى بلا يأس لالتماس رؤيته في تمظهرات عدة، تعوض إخفاقنا في اللحاق بزمنه، ورغبتنا في رؤيته على مقعد جعفر باشا والي مستكملًا تسلسلًا قيميًا لحكام النادي الأهلي تمثل حلقة جديدة ومهمة في سعينا هذا.
ميونخ
نوفمبر 2017
تقاعد بيكنباور، وبات كارل هانز رومينيجه رئيس نادي بايرن ميونخ ومديره التنفيذي.
القاهرة
نوفمبر 2017
أعلن محمود الخطيب في بيان فخيم ترشحه لرئاسة النادي الأهلي. هل يحتفل بيبو بأربعينية كعبه الشهير في عتوقة أم يحتفل بجلوسه على مقعد يكافئ منصب رئيس وزراء مصر؟
وهل من قبيل الصدفة أو الفأل الحسن أن يختار الخطيب وزير رياضة سابق نائبًا له؟
بعد بيان الخطيب كتب أحدهم على تويتر يقول: "الخطيب مينزلش انتخابات، الخطيب يخبط الباب برجله ويدخل".