أن تضع مكتوبًا عن فؤاد حدّاد فأنت في محل اختبار ومغامرة، حتى لو كان المكتوب تأويلًا لأحد مكتوباته، فمهما اجتهدت في معرفة الكاتب والمكتوب، ليس في وسعك سوى خدش الحقيقة ومشارفة تخوم الغموض، وقبل كل ذلك، عليك الاعتراف بأن النص هو من حرضك على تأويله؛ وها أنت تستجيب.
"موّال الموّالين" هي قصيدة في ديوان "ميت بوتيك"، ومن اسم الديوان نستطيع معرفة وجهته، قرضه حدّاد بعد موجة الانفتاح الرأسمالي بمصر في سبعينات القرن الماضي، ختم مقدمة الديوان غير المكتملة بقوله "وأنا ماشي وابني في إيدي، والا أنا اللي في إيدي، شفت يافطة بازار كذا، بدأت ديوان ميت بوتيك".
في "موّال الموّالين" يلعب حدّاد بعدد لانهائي من الأوراق، يتعمد التشتيت ووضع الألغاز داخل القصيدة، حتى على صعيد اللغة، تنقل بين اللهجات، الدارجة والفصحي والفرانكو أراب، رغم أن الحدث جلل، والقصيدة جادة وملحمية.
تبدأ القصيدة بنقطة شديدة التحديد والوضوح، يتعمد "حدّاد" وضع زمان ومكان معلومين لقصيدته، وبطريقة الموّال.
إذن الزمان، هو وقت الندى في باكر الصباح، المكان هو أرشيف التاريخ، وهنا حدّاد يختار مكانًا لقصيدته، يحتوي بداخله كل الأماكن، أما الحدث فهو إعادة القراءة، وعلى غير عادة اللغة في الديوان؛ يبدأ حدّاد متن قصيدته من عند نصوص القرآن، ويقتبس بشكل مباشر وفج من سورة الصافات، أو بالأحرى يُمَصّرُها، ويختار شخصية النبي يونس أو يونان هوية للراوي، وينسخ قوافي الآيات.
ثم ينتقي من ذاكرة يونس ما يَصلُح لإعادة تخليق الناجي من الحوت إذ من كل حادثة قديمة بتتولد حاسّة، وأول المشاهد القديمة كان لقائه السابق مع الست "شكشوكة" ويصفها بـ "إخصائية دار الحكمة والأمثال" عندما لقّنته كلمات النجاة، وضربت له الأمثال، وهنا تتكثف اللهجة الدراجة على لسان شكشوكة.
ثم تدعوك شكشوكة بضمير المُخاطب للاقتداء بشخصية جديدة في القصيدة وهي "المزيّن نعيم كاللو" العامل في وزارة الصحة، وبعد أن تستطرد شكشوكة بشكل تفصيلي في وصف شخصية كاللو المتمردة والطموحة؛ يختلق حدّاد مشهدًا دراميًا جديدًا تمامًا.
في ساعة الفجر أيضا، يدخل صالون كاللو أحد العابرين ويطلب منه الحلاقة، ويتصف كاللو بالثرثرة على غرار أغلب حلاّقي مصر، لكنها ثرثرة حدّادية في هذه المرة، يأخذنا كاللو إلى دولته التي أسماها "هِبلستان" ويحكي عن حُكامها وعن شكشوكة، وهو أحد المقاطع الشهيرة لفؤاد حدّاد.
يختار حدّاد الفرانكو أراب لغة للتمرد، ولغة للحديث عن الحُكام الأبالسّة كما يراهم، ويُسرد ألاعيبهم، وتستمر متتابعة ألاعيب الأبالسة حتى "إبليس عاش"، يحذف حدّاد من القافية صوت الحرف الأخير، وهي سمة تجمع العامية المصرية باللغة الفرنسية، لم يتبق عند حدّاد من أثار الأبالسة سوى خطبة قالها أخرُهم، يختار حدّاد أن تكون قصيدة بالعربية الفصحى، ويقول مقطعها الأخير:
يستعرض حدّاد بالعربية الفصحى، ويختار أن يقول بها الحكمة، حتى لو دَفَعنا بأن صِلات القرابة نسبية؛ فإن الظلم والعدل يظلان غير نسبيين. ثم يعود بنا إلى العابر في صالون كاللو، الذي سحرته خطبة " إبليس عاش".
ينساب حدّاد بين الشخصيات والأماكن واللهجات، يضع اللغز أمام ناظريك، يتعمد بمهارة المزج بين حديث كاللو والعابر، لم تعد تستطيع تمييز من كان يحكي عن الأبالسة، أو بالأحرى من كان يحكي القصيدة كلها، كان هناك يونس في البداية ثم شكشوكة ثم كاللو ثم العابر! والأن حان وقت فك شفرة "سيم القصيدة".
تعود شكشوكة لصدارة الحكي، وتحكي عن أحلامها في المستقبل البعيد التي تتوقع أن يُناصرها، ويغني لها على طريقة الزفة الشعبية، صاغ حدّاد وزن الأغنية على موسيقى الزفة، لكن الكلمات كانت له.
ثم يصنع حدّاد من شكشوكة كل الشخوص، ويقول إنها ليست شخصًا بعينه، إنما هي فكرة البكاء جراء الهم و"الهمبكة"، والسخرية من السلاطين والواقع، انها موروث شعبي يتمرد على طريقته ضد السلطة، ينحاز للمحكوم ويحبه، ويعلن رفضه للرأسمالية وللانفتاح.
يضع حدّاد موّالًا نموذجيًا على طريقة السيم، والسيم هو أحد مهارات الكلام المُرَكَّبة، ويحضَر بكثافة في الأثر الشعبي، ويرسم خطوطًا متناغمة تتنقل بين القصص القرآني والأمثال وشعر الحكمة والمواويل الشعبية، حُرٌ في مفرداته، في اقتباس القوافي وفي اكتشاف طرق جديدة للتورية الشعرية.
يختار"حدّاد" المُهمشين أبطالًا لقصيدته، يمزج بينهم ويصنع منهم الأحجية، ويعيد تفكيكهم وتركيبهم، يعبر بهم الأزمنة والأمكنة، يكافح الشياطين وينجو من الموت. وجميعهم من أصل واحد، في النهاية الكُل متكلمين من بطن شكشوكة، وبما إنه لا ريب في ذلك، فلا ريب في القول بأن الكُل متكلمين من بطن فؤاد حدّاد.