لا أعرف وديع، ولكني أعرف صوته، لم يكن كأي صوت في تاريخ الغناء العربي، كان صوتًا استثنائيًا، كاملًا إن جاز التعبير، حتى تم وصفه بالصافي، فتحول وديع بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس إلى وديع الصافي.
ولد وديع فرنسيس في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1921 في قرية نيحا الشوف، كان فلاحًا يعتز بقرويته، متصلًا بجذوره ويؤكد دائمًا على فخره بها. تذكر الدكتورة رتيبة الحفني أن وديع بكى عندما لُقِّب بالصافي لأنه أراد الاحتفاظ باسم عائلته كجزء من اسمه الفني، وعندما سُئِل عن الموضوعات التي يفضل الغناء عنها قال الصافي:"الأشياء اللي نابعة من بيئتنا، البيئة القروية، من عاداتنا من عائلاتنا من أوطاننا، الأغاني اللي بتفسر حياتنا الإنسانية، اللي بتعالج حياتنا الإنسانية".
وديع الذي صار من أقطاب الغناء العربي، مر ببداية فنية متعثرة، على الرغم من أنه فاز بالمركز الأول في اختبارات الإذاعة اللبنانية وهو ابن السابعة عشر. ففي ذلك الوقت كان الغناء المصري هو المسيطر على مشهد الموسيقى العربية، وكانت مصر محطة انطلاق لمعظم عمالقة الطرب اللبنانيين. وكانت السينما هي البوابة الكبيرة التي يعبر منها المطربون والمطربات إلى الجمهور المصري والعربي.
ولكن وديع لم يحقق نجاحًا يُذكر في القاهرة في نهاية الأربعينيات. شارك في بعض الأفلام مثل فيلم زهرة السوق (1947) من إخراج كلا من كمال أبو العلا وحسين فوزي، وقامت ببطولته الفنانة بهيجة حافظ وكمال حسين، لكن في رحلته القصيرة إلى القاهرة استطاع المؤلف نقولا بدران والد الفنانة نور الهدى أن يدبر لقاء بين وديع الصافي والموسيقار محمد عبد الوهاب الذي استمع وأشاد بصوت وديع الشاب وهو يؤدي أغنية "أنشودة الفن"، ولكن هذا لم يكن كافيًا للبقاء في مصر.
بعد تركه لمصر، قرر وديع السفر إلى البرازيل، الدولة التي كان يسافر إليها جده بهدف التجارة، وكان أول مطرب عربي يسافر إلى بلدان أمريكا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية، وهناك غنى وديع للبنانيي المهجر، وحقق نجاحًا أكسبه ثقة جعلته يعود مرة أخرى إلى لبنان للعمل في الإذاعة اللبنانية، ليكون واحدًا من أهم عناصر النهضة الموسيقية التي شهدتها لبنان في حقبتي الخمسينيات والستينيات.
طوال حياته، احتلت العائلة والوطن مساحة كبيرة في نفس وديع الصافي، وربما كان ذلك هو المحرك الرئيسي له في عدم تردده حينما طلب منه الفنان والموسيقار اللبناني حليم الرومي، الذي كان رئيسًا أنذاك للقسم الموسيقى في الإذاعة اللبنانية، التحول من اللون الغنائي المصري إلى الألوان اللبنانية. كان ذلك في بداية الخمسينيات، ليصبح وديع الصافي رائد طليعي في النهضة التي شهدتها الموسيقى والغناء العربي اللبناني.
ومن الأمثلة التي توضح مدى ارتباطه بعائلته، ما حكاه وديع نفسه للإعلامية ليلى رستم، من أنه يحتفظ في كل سيارة له بحذاء لأطفاله، فهو في أسفاره المتكررة كان يطلب من زوجته حذاء لأحدهم ليستطيع أن يشم رائحة عرقهم في الغربة.
كذلك كانت علاقة وديع الصافي بالدين، فهو أشبه بالمريد السالك في طريقة، بالرغم من كونه مسيحي ماروني. تبدو هذه العلاقة واضحة في سلسلة لا تفارق رقبته معلق بها صورة للسيدة مريم العذراء وصليب قديم، بالإضافة إلى عدد من صور القديسين. وأثناء الأزمة السياسية التي شهدتها لبنان عام 1958 بين المسلمين والمسيحيين المارونيين، اضطر وديع الصافي إلى الهجرة إلى أمريكا الجنوبية، وهي الهجرة الثانية له بعد محاولته للاستقرار في مصر في أواخر الأربعينيات.
وفي بنما تضرع وديع إلى تمثال للسيد المسيح ليعطيه القدرة للعودة إلى لبنان، ونذر له إنه إذا عاد سيقلع عن التدخين ويتوقف عن أكل "الطبيخ"، الحكاية التي رواها الإعلامي اللبناني نيشان في برنامج المايسترو أثناء محاورته لوديع الصافي الذي استغرب من معرفة نيشان لهذه الحكاية.
وتتجلى هذه العلاقة الصوفية في مقطع فيديو نادر يظهر فيه الفنان وديع الصافي أثناء مرضه الأخير قبل وفاته وهو يرنم للسيدة مريم العذراء على فراشه.
بعيدًا عن العائلة والوطن والدين، تبدو أفكار وديع الصافي منفتحة مقارنة بأفكار غيره من أبناء جيله، فهو يشجع كل جديد، ويرى التجديد شيئًا ضروريًا خاصة عندما يتعلق الأمر بالموسيقى والغناء، ففي اللقاء نفسه مع الإعلامية ليلى رستم لم يعترض حينما سألته رستم عن رأيه في أن تتجه المرأة إلى التلحين، وقال إنه: "شيء جديد، ضروري، وكويس إن المرأة تلحن كمان"، بينما اعترضت الفنانة نجاح سلام في نفس الحلقة عندما وُجِّه لها السؤال وقالت "ما تلحنش".
لكن من ناحية أخرى، وعلى الرغم من انفتاحه على الأفكار الجديدة، كان وديع متحيزًا للموسيقى الشرقية ومتعصبًا لها. ففي فترة الستينيات، ومع انتشار أغاني الفرقة الإنجليزية البيتلز بين الشباب العربي، هاجم وديع الصافي موسيقى الروك وتحديدًا موسيقى فرقة البيتلز ووصفها إنها مجرد "تقليعة" وليست فنًا واعتبرها ضد المجتمع الإنساني وهاجمها بشدة لأنها "لا تريح الأعصاب"، وقام بتلحين أغنية "بلا هلي بلا جلي" للسخرية من موسيقى الروك وفرقة البيتلز في فيلم "موال"، من انتاج عام 1966 وشاركته في البطولة الفنانة صباح، الأغنية من كلمات الشاعر اللبناني ميشال طعمة.
بالرغم من عدم تقبله لموسيقى الروك الغربية، لم يمانع وديع الصافي في عام 1998 في الدخول إلى تجربة موسيقية جديدة امتزجت فيها موسيقى الفلامنكو الغجرية بالموسيقى الشرقية، وشارك في مجموعة من الحفلات الموسيقية بصحبة الموسيقي والمطرب الإسباني خوسيه فرنانديز. يقول الفنان والمنتج اللبناني ميشال الفتريادس في فيلم وثائقي عن حياة الفنان وديع الصافي إنه لم يتوقع موافقة وديع الصافي على خوض المشروع عندما عرضه عليه.
كان وديع الابن الثاني لبشارة يوسف الذي كان يعمل رقيبًا في البوليس اللبناني، وكان يطمح أن يكون وديع ضابطًا مثله في البوليس وكان يعارض بشدة تعلق ابنه بالغناء لدرجة أنه أخرجه من المدرسة التي كان ينشد في جوقتها ليبتعد عن الموسيقى والغناء.
كانت حياته كلها تدور حول العائلتين الكبيرة والصغيرة، كان يرى أن التفاؤل ضرورة، والحياة نفسها ضرورة، "حتى نشوف وجه الله". ظل وديع متفائلًا رغم الإخفاقات الأولى التي بدأت بفشله في مصر، ولكنه لم يتخل عن حلمه، وانتظر عشر سنوات قبل أن يبدأ رحلة نجاحه ويثبت أقدامه في المشهد الموسيقي العربي.