أمام بوابة محكمة جنايات الزقازيق، كانت الأم مُرابطة بعد أن استمعت لمرافعة دفاع طمأنتها لبراءة أكيدة ستصدر بحق ابنها أندرو ناصف، الذي كانت تأمل في رؤيته بلا حواجز خلال الثواني التي يُنقل فيها من المحكمة لسيارة الترحيلات.
من داخل القاعة إلى البوابة، قطعت الناشطة الحقوقية هند الديب المسافة في صدمة وذهول، فأسوأ سيناريو كانت تتوقعه هي والآخرون أن يصدر تأجيل للقضية، قبل أن يقع ما هو أكثر سوداوية وتجد الناشطة نفسها مطالبة بأن تخبر الأم المرابطة لدى باب المحكمة أن ابنها أندرو لن يعود للبيت قبل 5 أعوام، وليس 6 شهور على أقصى تقدير كما اعتاد المحامون طمأنتهم.
بينما انهارت الأم والأخت والصديقة بالخارج، في ذلك اليوم الذي انتصف به أكتوبر/ تشرين الأول 2017، كان أربعة محامين ما يزالون داخل القاعة، يجمعون أوراقهم بعد مرافعة "تخطت ساعة ونصف الساعة" كما يقول واحد منهم هو عبد العزيز يوسف المحامي بحرية الفكر والتعبير، محاولين طرد الصدمة والتركيز على نقض "قد يمتد أجله لعامين وربما ثلاثة، بسبب طبيعة التقاضي في المحافظات".
"جو المحاكم والقضايا السياسية مرّت عليا كتير. بس لما يبقى حد قُريّب منك؛ الوضع بيبقى مختلف وأصعب". تقول هند عن شعورها عندما نطق القاضي بحكمه على صديقها أندرو ناصف نُصحي صليب، الذي صار أول مسيحي يُحاكم بموجب قانون الإرهاب، بل ويصدر ضده حكم بالإدانة.
"كعب داير"
قبل خمس شهور من الحكم، كان أندرو ذو الثلاثة وعشرين عامًا يستعد لامتحانات ختام عامه الثالث في كلية التجارة بجامعة الزقازيق، "كان بيذاكر برّه مع زمايله، وبعد ما جه بمفيش رُبع ساعة دخلوا علينا ناس (البيت) وقالوله عايزينك، أنت أندرو؟ عملوا حصار عليه وخدوا منه موبايل وبطاقته وفيزا و600 جنيه"، تحكي والدة أندرو، آمال سعد، عن مداهمة وقعت فجر يوم 17 مايو/ أيار 2017، "فجأة، بدون إذن نيابة أو ذكر أسماء".
قبل القبض عليه بأيام قليلة، كان أندرو ضمن مجموعة شباب يزورون صديقهم جمال عبد الحكيم- المقبوض عليه باتهامات سياسية- في مركز شرطة الزقازيق، وهناك تعرّض أندرو لموقف زرع القلق في صدور أصدقائه حتى لحق بجمال داخل الحبس.
تتذكر هند ذلك اليوم وتقول: "بحكم شكل أندرو غير المألوف لبلد زي الزقازيق- يعني شعر طويل ورابطه بأستك- لفت النظر في القسم. أندرو قالوا لنا (بعض أصدقائه) إنه لما زار جمال مأمور المركز قال له تعالى هنا إنت بتتحنجل ليه؟ إنت 6 أبريل؟ إنت جاي لمين؟ لصاحبكم اللي جوه؟"، كان ذلك وفقًا للصديقة قبل القبض على أندرو بأيام قليلة.
وفقًا لحديث أسرته مع "المنصة"، اقتيد أندرو إلى مقر الأمن الوطني حيث بقي حتى ظهر اليوم ومنه إلى مركز شرطة الزقازيق ثم النيابة العامة.
لكن تلك التحركات لم يعلمها في ذلك اليوم ابن عمته سامح ماهر، الذي استيقظ في الساعات الأولى لصباح الأربعاء 17 أكتوبر على استغاثات زوجة خاله وابنتها؛ لتبدأ رحلة "اللف كعب داير" بين عدة جهات "لفّينا، ما احنا مش عارفين هو راح فين"، يقول سامح.
ويرسم ابن العمة خط سير تفصيلي بحثًا عن أندرو: "سألنا في قسم أول الزقازيق وقسم تاني الزقازيق ومركز الزقازيق، مالقيناهوش. وسألنا في أمن الدولة قالولنا مفيش حد بالاسم ده".
علمت الأسرة فيما بعد بوجود ابنها في مركز الزقازيق، لكنهم- والحديث لابن عمته سامح- حين توجهوا إلى هناك كان أندرو أحيل لنيابة الزقازيق العامة، التي توجهوا لها ورأوه لثوانٍ أثناء خروجه من مكتب وكيل النيابة.
و"تكدير" الاحتياطي
"شخص خدوم وبشوش، ولد صغير ومستقبله لسه بيبتدي، وفجأة بيضيع 5 سنين من عمره". تقول هند عن أندرو الذي لم تره في الفترة ما بين منتصف مايو ويوم الحكم إلا لدقائق الزيارة المعدودة في مركز الزقازيق، قبل أن ينقل منه إلى سجن الزقازيق العمومي وتُقصر زيارته على أقارب الدرجة الأولى فقط.
وبين المحبسين لم ينطق الشاب بالشكوى صراحة وإن نمّ عنها حاله "في الزيارة مارضيش يقول لي على حاجة (شكوى) علشان خايف إني أزعل، كان بيقول لي يا ماما عادي مفيش حاجة، دي شوية أسئلة وخلاص"، تقول الوالدة.
لكنها تعود لتذكر ما زاد قلقها على ابنها: "كان بيسأل ويقول همّا خدوا من عندي حاجة؟ أقوله لأ. يقولي طيب بيعملوا فيا كده ليه؟ أقول له يا ابني بيعملوا فيك إيه؟ لكن مش عايز يقول. بس أكيد مش هيقول كده من فراغ".
يؤكد سامح كلام اﻷم "كان (أندرو) بيقول لي المعاملة عادية والطبيعي بتاع المساجين، لكن كان شكله مختلف خاسس (أنحف) وهمدان وأنا عارف إن أندرو مالوش في المشاكل".
وجّه أندرو لسامح الأسئلة نفسها، وأسرّ له ببعض "التكديرات" التي كان يتعرّض لها، يقول ابن العمّة: "قال لي بيعاملوني معاملة غريبة ومكدّريني. ساعات بننام واقفين ﻷن الاوضة فيها عدد كبير، وممكن يفتشوا الحجز أكتر من مرة في اليوم بطريقة غريبة وبيفتشوا ذاتي".
دفعت كل تلك المشاهد شقيقة أندرو الكُبرى والوحيدة، سوسنّة، إلى مخاطبة جهات رسمية كالنائب العام والمجلس القومي لحقوق الإنسان، لإطلاق سراح شقيقها أو على الأقل تحسين ظروف احتجازه، ولكن بلا ردّ منهما.
"حصل تعنت كتير جدًا ضده بسبب كونه مسيحي، مقصود بقى أو غير مقصود، لكنه حصل بطبيعة الأمر"، يقول المحامي عبد العزيز يوسف، موضحًا أن موكله قضى غالبية فترة الحبس الاحتياطي مع "سُجناء جنائيين" وليس سياسيين، وهو ما كانت تُبرره إدارة السجن بأنه "خوفًا عليه من مضايقات قد يقترفها السُجناء الإسلاميون بحقه، بسبب الديانة".
للمفارقة، كانت الفترة "الأفضل والأكثر راحة لأندرو" هي التي قضاها مع السياسيين، وفقًا لـ"يوسف" الذي يقول إن "أحد الجنائيين رفع عليه سلاح، وكان متعاطي مخدرات، وقال له أشهر إسلامك"، وذلك قبل أن يودع أندرو في الحبس الانفرادي بسجن الزقازيق العمومي.
قضية "فاضية"
بناء على تهمة "الترويج بالقول والكتابة وإعداد منشورات والترويج من خلال فيسبوك لأفكار تحوي تحريضًا على العنف والإرهاب وارتكاب جرائم إرهابية وتغيير الدستور بالقوة" حُكم ضد أندرو- الذي لم يُسبق وأن ألقي القبض عليه- بـ5 سنوات سجن.
صدر الحُكم رغم تطمينات- خابت- من المحامين للبراءة، استندوا فيها إلى أوراق القضية التي يقول عنها يوسف: "الدليل ضد أندرو مجموعة ورق قالوا إنها منشورات كان بيروجها أو بيعدها للترويج ولقوها في بيته، ومجموعات بوستات مطبوعة من على فيسبوك".
ويفنّد المحامي تلك الأدلة قائلًا: "ماتاخدش حاجة من البيت إطلاقًا، وفي حالة اتاخد من عنده حاجة فهي كانت كلمات زي (جوعتونا) أو (إبريلي)، والتقسيم الموجود في قانون العقوبات فيما يخص المنشورات والحيازة والترويج أو التقسيم الموجود في قانون الإرهاب مش متوفر حتى في الورق اللي حطّوه (الجهات الأمنية) ليه".
ويتطرق يوسف للمنشورات المطبوعة من فيسبوك أيضًا: "أما الكلام على فيسبوك، فالدستور بيكفل حرية التعبير، وحتى لو ثبت نسب الحساب لأندرو؛ فالكلام ليس فيه جريمة"، لكنه يلفت إلى أن جهات التحقيق لم تتخذ المسار المتبع بتكليف إدارة التوثيق والمعلومات بوزارة الداخلية لتتبع الحساب والتعرف على من يُديره، ما جعل أوراق القضية "خالية من أي تقرير فني يُثبت هذا الأمر".
يُتبع المحامي قوله بتأكيد مأساة أندرو "حقيقي القضية مفيش فيها حاجة، وحرفيًا قضية فاضية تمامًا".
تقول هند ويؤكد سامح وعبد العزيز أن أندرو منذ 30 يونيو لم تدب قدماه في الشارع بنيّة ممارسة العمل السياسي، وأنه منذ أعوام كثيرة قطع علاقته بحركة 6 أبريل" التي تجمّد نشاطها من الأساس في محافظة الشرقية.
ويبقى الجميع- الأسرة والأصدقاء- على حيرتهم في سبب إيداع الشاب السجن، باستثناء مُحاميه الذي يذكر تزامن القبض عليه مع حملة أمنية في الوقت نفسه تقريبًا بمختلف المحافظات، ضد شباب التيار المدني من معارضي"اتفاقية تيران وصنافير"، والقبض على أشخاص آخرين من محافظته مثل جمال عبد الحكيم ومحمد الشرقاوي وإسلام مرعي.
في السجن حيث امتحن أندرو مواد الفرقة الثالثة، لم يُصبه بصورة رسمية عيار طائش اسمه "تهمة الانتماء للإخوان"، ولكن لتكتمل بمأساة أندرو الملهاة السياسية، نابه من ضجيج الاتهام نصيب "في كل زيارة، العساكر كانوا بيسألونا إزاي أندرو سياسي وإخواني؟" يقول ابن العمة والأم عمن تظاهر في 30 يونيو ضد الإخوان، ولا يُشبههم إلا بلحية كان حين يُطلقها؛ تثير شهية الأصدقاء لممازحته بوصف "الإخواني المسيحي" كما تتذكر هند، من تنتظر والعائلة عودة أندرو.