قبل مائة عام، وفي مقاله "تابو العذرية" تحدث عالم النفس النمساوي سجموند فرويد عن أن عذرية المرأة كشرط مسبق للزواج هي شكل من أشكال الإخضاع لعالم الرجل.
بحوار قليل، وكثير من المجازات، والكادرات الضيقة المعتمة، وبدون موسيقى تصويرية، صور المخرج المصري محمد حماد في فيلمه الروائي الطويل الأول "أخضر يابس" حياة إيمان (هبة علي)، وهي شابة تقارب على الأربعين، عزباء، تعمل بمحل حلوى بالقاهرة.
نفّذ حماد الفيلم بتمويل ذاتي بالاستعانة بزوجته خلود سعد، وبوجوه بِكر غير معروفة سينمائيًا، وبوالده ووالدته، وأصدقائه، أما بطلة الفيلم نفسها فهي تعمل مساعدة مخرج بالأساس، وتقف أمام كاميرا السينما لأول مرة.
عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولة في دورته التاسعة والستين، ضمن مسابقة صناع سينما الحاضر، وهو أول فيلم مصري يدخل هذه المسابقة، ولاقى نجاحًا نقديًا بعد عرضه في 45 مهرجانًا عالميًا. وفاز حماد بجائزة المهر الطويل (أفضل مخرج) في مهرجان دبي في العام الماضي، ومن المنتظر أن يبدأ عرضه بسينما زاوية في 25 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
يبدو الحس النسوي جليًا عند حماد منذ فيلميه القصيرين "سنترال" و"أحمر باهت"، ويستمر هذا الحس في فيلمه "أخضر يابس". نساء حماد مرهقة ومكبوتة وحزينة؛ يتحكم مجتمعهن حتى في ألوان ملابسهم الداخلية، يعشن حبيسات أجسادهن في بيوت ضيقة، يمارسن لعبة الاختباء والتعرّي على التوازي.
في فيلم "سنترال" كانت البطلة عاملة سنترال تتنصت على مكالمات الزبائن، لأنها تتلذذ بتعريتهم ولو لدقائق مدة المكالمة. وفي "أحمر باهت" تضع بطلة الفيلم ماء الكلور على قطعة ملابس لتتوارى خلف اللون الأحمر الباهت لأن العرف لا يحبذ للبنت ارتداء لون أحمر صريح.
"إيمان" بطلة فيلم "أخضر يابس" تعيش مع أختها الصغرى نهى (أسماء فوزي) المقبلة على الزواج، وسلحفاة كبيرة، كرمز مباشر لحياتها البطيئة. تمثل إيمان العائل بعد وفاة أخيهما، وأبويهما من قبله. تبحث الأختان عن وجه أبوي كاريكاتوري ليستقبل عريس نهى المنتظر، تجوب بين أعمامها لتتسول وجه أحدهم ولو كان هيكلًا في النزع الأخير، يكون ديكورًا لحفظ ماء الوجه الاجتماعي، مثلما تضع الستائر على الحائط المتداعي. يتنصل كل عم من المسؤولية ويقذف بها إلى الآخر.
بالتوازي تحتفظ إيمان بسر لا تشاركه مع أحد سوى مع انعكاس وجهها في شبابيك القطارات التي تستقلها وتبدو كأنها لا تعرف وجهتها، ونباتات الصبار التي تسقيها يوميًا. هذا السر كان إعلان ساعتها البيولوجية انتهاء فترة خصوبتها، بعد دخولها عتبة ما يُعرف بسن اليأس المبكر؛ الترجمة المزعجة لحالة انقطاع الطمث.
إيمان حياتها فارغة ومكررة، ماتفعله اليوم ستفعله غدًا، نعرف بشكل مقتضب أن هناك بقايا علاقة حب تربطها بابن عمها، ويبدو أن وجهها المتجهم على الدوام قد ودّع العلاقات العاطفية منذ زمن بعيد. لا نعرف لماذا قررت إيمان أن تحيا وحيدة، حتى باغتها جسدها بالنضوب المبكر. أو ربما ببساطة هي لا تحتاج لوجود رجل في حياتها. استعاض جسدها النحيل عن هدهدة الجنس بهدهدة القطارات، ستعرف إيمان لاحقًا أن نضوب الدماء سيتبعه حتمًا تغييرات مزاجية وليالي أرق طويلة.
يرتكز الفيلم على علاقة الأنثي بالألم الدموي السيزيفي الذي يسيل منها شهريًا، مقابل الألم اللحظى، ألم فض بكارتها. الدورة الشهرية للأنثى أعقد من كونها ناتج بويضة غير مخصبة، إنها دليل فيزيائي على مرور الوقت، و تأثير التغيرات الزمنية على الجسد، بدونها تشعر كأنها تعيش في يوم واحد طويل. لحظة انقطاع الدماء، ولحظة التخلص من البكارة كلاهما مفصليتين في حياة الأنثى، وكلاهما بالطبع لحظة تحرر من عبء نفسي وجسدي.
سنراقب فزعها من رؤية الدماء، وفزعها من انقطاعها، واستجداءها لجسدها ليصب نقطة دماء أخرى، ونظراتها الفارغة، وحياتها المتيبسة التي انقطع عنها كل شيء.
في الفيلم الوثائقي الدرامي "أم غايب" للمخرجة نادين صليب، كانت "حنان" المرأة القروية العقيم تناجي ربها قائلة: "لماذا خلقتني إن كنت لن أنجب؟" هكذا ببساطة ترتبط الخصوبة عند نساء مجتمع إيمان وأم غايب بجدوى الوجود من الأساس.
لكن إيمان تختلف كثيرًا عن أم غايب، وإن تقارب مجتمعيهما، فرغم استسلام إيمان لحياتها إلا أنها أقدمت على فعل عنيف، وهو التخلص من بكارتها، لكي تحقق نظرية فرويد الذي لا تعرفه في الغالب بأن العذرية غير ذات قيمة، وشكل من أشكال تسيّد الرجل. لكن الفعل على ثوريته هو فعل سري وصلت به رمزيًا لنقطة التحرر من الثقل النفسي والمجتمعي والتاريخي للغشاء الرقيق.
في مجتمعات أكثر نسوية تقدم النساء على مافعلته إيمان كفعل وليس رد فعل. لربما أرادت إيمان الشعور بسلطة على جسدها الذي باغتها بالذبول المبكر بدون سابق إنذار. وانتقمت أيضًا من السلطة الأبوية التي اضطرت لشحاذتها وتخلصت من الارتكان إلى الحائط الذكري المتآكل.