تراكمت المشاهد لتقول لمتابعها إن الكرة في ملعب الشعب، وإن السنة الممتدة بين منتصفي 2013 و2014 تتكرر من جديد.
كان أبريل/ نيسان 2017 يدنو من نهايته، حين جلس الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام حضور المؤتمر الوطني للشباب يشرح موقفه إذا خسر انتخابات منتظرة في عام 2018.
في تلك الجلسة، تكلم الرئيس في الأمر ردًا على سؤال سبق الانتخابات بأكثر من سنة كامله؛ وأتبع ضحكه بالقَسَم مرات ثلاث على "عدم البقاء لثانية، لو المصريين مش عايزين".
لم يمرّ بعد ذلك اليوم إلا ست شهور فقط، حتى بادر مصريون بإعلان رغبتهم في بقاء الرئيس على كرسي الحكم بحملة دشنها برلمانيون تحت اسم "علشان تبنيها"، جذبت حتى الآن إعلاميين وفنانين ورياضيين، ظهروا في الصور الترويجية للحملة يبتسمون وبأيديهم استمارات الحملة الممهورة بتوقيع كل منهم على حده، ليتذكّر من يراهم أيام تعود لعام 2013.
بين يوم مؤتمر أبريل وانطلاق "علشان تبنيها"، وجدت أحاديث الفترة الرئاسية الثانية لنفسها مجالًا، فالرئيس خلال مؤتمر آخر للشباب انعقد في يوليو/ تموز، واجه سؤالًا عن ترشحه، وقبل يوليو ذلك وبعده تحدث مقربون من النظام عن ترشح الرئيس لفترة ثانية.
كان من بين الذين تحدثوا ﻷكثر من مرّة عن الفترة الرئاسية الثانية، رئيس مجلس إدارة مؤسسة "أخبار اليوم" ياسر رزق، الذي التقى الرئيس مرّات عديدة كان إحداها في مايو/ أيار الماضي، خلال حوار للسيسي مع رؤساء تحرير الصحف القومية، خرج منه "رزق" ليعلن في تصريحات تليفزيونية أن الرئيس "غالبًا ما سيرشح نفسه في الانتخابات المُقبلة استجابةً لإرادة الشعب".
لكن الكاتب الصحفي عاد في أغسطس/ آب ليتحدث عن الأمر نفسه باعتباره "توقعًا شخصيًا" منه وليس قرارًا من الرئيس، الذي "سينجح من الجولة الأولى إذا ترشح للانتخابات"، على حد قوله. وتزامن ذلك الحديث مع دعوة نائب برلماني إلى تعديل الدستور، لجعل فترة الرئاسة ست سنوات وإعطاء رئيس الدولة صلاحيات أكثر.
على مدار سبع شهور تراكمت المشاهد، لتوضّح ملامح صورة الفترة الثانية المنتظرة والمتوقعة تقريبًا، رئيس لم يعلن بعد قراره الترشح، لكنه يقف أمام حملة توقيعات تطالبه بالاستمرار على كرسيه، وتصريحات عن نجاحه المضمون، بل ودعاوى ﻷن تصبح السنوات الرئاسية اثنتي عشر بدلًا من ثماني.
اجتمعت المشاهد لتقول لمتابعها إن الكرة في ملعب الشعب، إن من يريد استمرار الرئيس هو الشعب، وإن السنة الممتدة بين منتصفي 2013 و2014 تتكرر من جديد.
كمّل جميلك
في 26 مارس/ آذار 2014، خرج المشير عبد الفتاح السيسي مُعلنًا أنه "يمتثل لنداء جماهير واسعة من الشعب المصري طلبت منه التقدم لنيل هذا الشرف" الذي هو رئاسة بلد صار رجُلَهُ الأول منذ 30 يونيو 2013.
قبل خطاب مارس بحوالي 6 شهور، انطلقت بالفعل حملة تحت شعار "كمّل جميلك" بين المواطنين، لجمع توقيعاتهم على استمارات تطالب "الفريق السيسي" بالترشح، وحظيت بدعم مُقرّبين من نظام 30 يونيو، دون أن يكون معلومًا ممول لفعالياتها ومطبوعاتها أو مُخطط لتحركاتها التي كانت في مختلف المحافظات.
إلى تلك الحملة يعود الفضل في ذيوع فكرة أن المشير خاض انتخابات الرئاسة مدفوعًا بإلحاح الجماهير ونزولًا على رغبتهم بأن يتولى مسؤولية البلاد التي لا يصلح لها بعد عام الإخوان إلاّ رجل "بخلفية عسكرية"، كما أكد حتى مَن كانوا حلفاء للإخوان، وعضد تلك الفكرة حصاده نسبة 96.91% من أصوات الناخبين.
لكن بالعودة لما قبل إعلان الترشح وإطلاق "جمّل جميلك"، ظهر تسريب صوتي منسوب للفريق السيسي- قيل إنه كان خلال حوار أجراه مع الكاتب الصحفي ياسر رزق وقت كان رئيسًا لتحرير صحيفة "المصري اليوم"- ينم عن رغبته في الترشح، حين طلب من محاوره "قيادة حملة مع المثقفين لوضع مادة في الدستور لتحصينه في منصبه كوزير للدفاع، وتسمح له بالعودة للمنصب إذا لم يدخل الرئاسة".
بعيدًا عن التسجيل المُسَرّب ومدى صحته، كان الترشح للرئاسة محور سؤال في حوار "رزق" مع الفريق السيسي. وصف المحاور سؤاله بأنه "ليس منه بُد" وكأنه أمرُ غير مُحبب للضيف، وصاغه بكلمات تؤكد هذا المعنى: "دائما تردد أنك تحت أمر الشعب وإرادته.. ماذا لو طلبت منك جماهير الشعب أن ترشح نفسك وتخوض انتخابات الرئاسة.. كيف سيكون موقفك؟".
وكانت تلك الصيغة تلخيصًا لما جرت عليه الأمور فيما بعد ليصير المشير رئيسًا.
الجيش والشعب
"اليوم أقف أمامكم للمرة الأخيرة بزييّ العسكري بعد أن قررت إنهاء خدمتي كقائد عام للقوات المُسلّحة وزيرًا للدفاع والإنتاج الحربي".. كانت تلك الكلمات أول ما نطق به المشير في خطاب إعلانه الترشح للرئاسة عام 2014.
في رحلته تلك من الثكنات إلى قصر الرئاسة وحتى الآن، يتكئ السيسي على ثنائية تتألف من الجيش والشعب، فإعلان الترشح لم يأت إلا بالزي العسكري وبعد إذن رسمي من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بناءً على ضغط "شعبي" من حملة "كمل جميلك" التي أكدت أنه سيترشح "بمزاجه أو غصبًا عنه"، وهو ما صيغ في خطاب ترشح المشير بعبارة "امتثالًا لنداء جماهير واسعة من الشعب المصري".
إذن، كان الترشح مباركة من الجيش وضغطًا من الشعب، العنصرين الأقوى على اﻹطلاق منذ 25 يناير 2011، والذين كان لهما دورًا مهما في يونيو 2013، حين انعقدت على "الفريق" الآمال لإنقاذ الوطن من الإخوان، وبفضلهما صار ممكنًا أن يكون في مصر مرشحًا رئاسيًا بلا حزب سياسي، فالخلفية عسكرية والتأييد شعبي.
وحتى الآن ما يزال الرئيس على ولائه لذلك المسار، فالجيش حاضرًا في أحاديثه والشعب هو كلمة السر التي يستدعيها في لحظات مختلفة، بدأت بطلب تفويض منه للدفاع عن مصر؛ فأصبح التحرك العسكري موازيًا للشعبي بصورة مكنّت مصر من دحض توصيف 30 يونيو بـ"الانقلاب"، واستمرت بطلب دعمه في مشروعات قومية كقناة السويس الجديدة، واقتراح تبرع موظفيه بـ"فكّة الرواتب" أو بالتبرع بمكالمات هاتفية تحولت إلى حملة بمسمّى "صبّح على مصر بجنيه".
الدعم الجماهيري للنظام ليس غريبًا على مصر وحكامها ربما منذ الحقبة الناصرية، حين احتشدت الجموع تمسكًا بعبد الناصر بعد هزيمة 1967، وترددت الأقاويل حينها حول دور "الاتحاد الاشتراكي" في هذا التجييش ليبقى الرئيس رئيسًا. كما أن تجربة "تجرّد" الإخوانية ليست بعيدة عن الذاكرة ومثلها حركة "مش كفاية" الداعمة للرئيس الأسبق حسني مبارك.
لكن هناك فرق، فتلك التحركات والحركات الناصرية والمباركية والإخوانية، كانت ردًا ودفاعًا عن رئيس يواجه غضبًا شعبيًا يطالبه صراحة بالرحيل، سواء كان نظام ناصر بعد النكسة أو مبارك بتعديلاته الدستورية 2005 أمام "كفاية" أو مرسي أمام "تمرّد"، بينما تبقى "علشان تبنيها" وشقيقتها الكُبرى "كمّل جميلك" دروعًا دفاعية بشرية أمام اللا شيء، وبساطًا "شعبيًا" أحمر يفترش طريقًا شبه خال من المنافسين؛ فصار ممهدًا ولا يؤدي إلا إلى "الاتحادية".