تشن اﻷجهزة الرسمية للدولة إضافة إلى إعلامها الرسمي والخاص، حملة غير مسبوقة في حجمها ضد المثليين ومتحولي الجنس في مصر، على خلفية رفع بعض الشباب الحضور في حفل موسيقي لعلم قوس قزح "الرينبو"، أما هذه المقاربة فتحاول التدليل على أن هذه الحرب التي يخوضها المجتمع للتخلص من المثلية ستنتهي بالضرورة إلى الفشل.
هذه الحملة ليست إلا ذروة جديدة في حرب، هي واحدة من حروب عدة مستمرة ضد المختلفين عن السائد في المجتمع المصري، ولكنها بالتأكيد أكثر هذه الحروب ضراوة وأكثرها ضحايا أيضا، في الوقت الحاضر.
لكن هذه الحملة ستنتهي بالضرورة إلى الفشل في تحقيق هذا الهدف، ليس بسبب ضغوط سياسية أو تدخلات دولية، كما يؤكد كثير من إعلاميي وكتاب السلطة في إطار حملتهم المسعورة ضد المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق اﻹنسان؛ ولكنها كما سأوضح تاليا، ستفشل بفعل تفاعل عوامل داخلية للمجتمع المصري ذاته.
ليس ثمَّة تفسير علمي يقيني حتى اﻵن لنشأة ميول البشر الجنسية. هل هي محددة بيولوجيا أم أنها ظواهر نفسية منشأة بالخبرة والتجربة الاجتماعية؟ أم أنها خليط بين اﻷمرين؟ ما هو يقيني أن تاريخ البشر منذ فجر ظهورهم على هذه اﻷرض شاهد على أن الممارسات الجنسية المثلية كانت منذ البداية جزءًا من الحياة اليومية، ومعرفتنا الحالية بسلوك الحيوانات الأقرب إلينا في شجرة التطور تؤكد أن شيوع الممارسات المثلية بين البشر هو امتداد لشيوعها بين هذه الحيوانات.
في المحصلة؛ الأكيد أن الممارسات الجنسية المثلية هي (طبيعية) بقدر ما يمكن ﻷي شيء أن يكون كذلك، على وجه التحديد هذه الممارسات طبيعية تماما بقدر ما يمكن القول بأن الممارسات الجنسية الغيرية (بين الذكور واﻹناث) طبيعية.
ما يختلف بين عصر وآخر وبين ثقافة وأخرى هو صور التعبير عن الميول الجنسية، وكيف يفهمها الأفراد والمجتمع. وقد كان الولع بالغلمان والتشبب بهم شعرا أحد صور التعبير عن ميول وممارسات جنسية مثلية شائعة في مجتمعنا العربي اﻹسلامي، طوال العصور الوسطى وحتى نهاية القرن الثامن عشر على اﻷقل.
في المقابل فإن التعبير عن الميول الجنسية في المجتمع الحديث يتبلور، كأمور أخرى غيره، في صورة هوية ينشئها المجتمع، من خلال ممارساته ومؤسساته المختلفة. وبخلاف ما قد يعتقده كثيرون فإن مجتمعنا هو مجتمع حديث، وليس مجتمعا تقليديا يُفرض عليه التحديث من خارجه. فمنذ شرع مجتمعنا في إنشاء مؤسسات الدولة الحديثة، وأولها الجيش الحديث والبيروقراطية المدنية ثم مؤسسة القضاء، في بدايات القرن التاسع عشر، وتبنى نمط اﻹنتاج الرأسمالي، بدأ بنفسه، وبقليل فقط من المساعدة الخارجية، في التشكل كمجتمع حديث، مدخلا في تفاعلاته الاجتماعية الدين والتقاليد واﻷعراف الموروثة، إنما بمفاهيم وممارسات حديثة ومختلفة تماما عما كان عليه الحال في عصور ما قبل الحداثة.
إن الطريقة التي يعمل بها مجتمع حديث ودولته تفكك البنى الاجتماعية التقليدية، القبلية والعشائرية والطائفية، التي غلفت حياة أفراد المجتمع في هويات جماعية. وفي المقابل تنشئ ممارسات المجتمع الحديث هويات فردية. فالمجتمع الحديث يرى نفسه مكونا من أفراد مستقلين، وتتطلع دولته إلى أن تستفيد بأكبر قدر من هؤلاء اﻷفراد، وفي سبيل ذلك تتدخل بأكبر قدر ممكن في حياتهم اليومية وتضع كافة سلوكياتهم موضع الرقابة والفحص، وهي بذلك تدفعهم دفعا إلى مساءلة أنفسهم عمن يكونون، من خلال أدق تفاصيل نوازعهم ورغباتهم بما في ذلك الميول الجنسية.
في ظل مجتمع حديث ليست السلوكيات والممارسات مجرد أفعال للبشر، وإنما هي تعبير عمن هم في أعمق دواخلهم، وينعكس ذلك في صورة هوية، هي منشأة اجتماعيا، ولكن ذلك لا يعني أنها ليست حقيقية بقدر ما يمكن ﻷي شيء أن يكون كذلك.
في المحصلة يفرض المجتمع الحديث على أفراده أن تتشكل ذواتهم في هيئة هويات مختلفة. وهو يفرض عليهم بالتالي الحاجة إلى التعريف عن أنفسهم من خلال هذه الهويات. في الحقيقة هذه ضرورة يفرضها نمط التفاعل اليومي بين اﻷفراد، ثمة حاجة مستمرة للتعرف على هوية اﻵخر حتى يمكن تحديد شروط التعامل معه.
هذه الحاجة ليست جديدة، فهي مستمرة منذ فجر تاريخ البشرية، ما تغير هو بالطبع تصنيفات اﻵخر، التي كانت قديما عشائرية، قبلية، جهوية، طائفية، إلخ. واليوم لا يزال لبعض هذه التصنيفات قدر من القيمة تزداد أو تقل حسب الظروف، ولكن أضيف إليها -وأصبح له قيمة أكبر- التصنيفات الطبقية، والمهنية، وغيرها مما أنتجته الممارسات الاجتماعية في مجتمع حديث.
لكن هذه الممارسات لم تُضِف مزيدا من التصنيفات وتعيد ترتيب أهمية القديمة أو تلغي بعضها فحسب، وإنما غيرت في الطريقة التي تفسر بها تصنيفات اﻵخر وشروط التعامل معه، واﻷهم من ذلك العمق النفسي الفردي لرؤية اﻵخر.
قبل أي شيء آخر، ثمة ذلك البعد الفردي للهوية، حتى تلك الهويات الجماعية المتوارثة عن عصور سابقة لم تبق على حالها القديم، بل أصبحت اليوم أكثر ذاتية، بمعنى أنه أصبح على المرء أن يبحث في ذاته، في دخيلة نفسه، عن معنى هويته، وعن انعكاسها في مشاعره قبل سلوكه.
حقيقة أن الهوية أصبحت سؤالا للذات، وعمقا للنفس، يجعل من القبول الشخصي الكامل لها شرطا للاتزان النفسي للشخص. في المقابل يرى كل منا اﻵخر من خلال هويته، وكأنه يرى دخيلة نفسه، ففي ظنه أن الأخيرة انعكاس للأولى. وبهذا المعنى فإن التقبل الاجتماعي للفرد مرتبط بتقبل هويته، ففيها تتلخص (حقيقته)، ومن ثم ينبني عليها ما يمكن توقعه منه، خيرًا كان أم شرًا.
على جانب آخر، تستلزم احتياجات الدولة الحديثة ومجتمعها الضغط باستمرار نحو (تطبيع) اﻷفراد. والمقصود أن العديد من الاحتياجات اليومية للمجتمع الحديث تقوم على افتراض أن ثمة مجموعة من الخصائص للفرد (الطبيعي). هذا الفرد الطبيعي هو الصالح ﻷن يكون عضوا نافعا بالمجتمع، فهو قادر على العمل واﻹنتاج، وهو مطيع لسلطات الدولة ملتزم بقوانينها، وهو مؤتمن على مصالح وسلامة بقية أفراد المجتمع ولا يتوقع منه اﻹضرار بهم، وهو أيضا مستعد للقيام بدوره في الحفاظ على استمرارية المجتمع بإنشاء أسرة وإنجاب أطفال وتربيتهم.
هذه فقط بعض الخصائص التي تنسب في العادة للفرد الطبيعي، ولكن دائما ثمة مزيد حسب ظروف تطور المفهوم في كل مجتمع. ففي مجتمعنا يضاف إلى تلك الخصائص كون الفرد الطبيعي هو ذلك الشخص المؤمن، المسلم السني عادة، أو المسيحي القبطي (على مضض). وأخيرا، الفرد الطبيعي أيضا هو الغيري في ميوله الجنسية.
مفهوم الفرد الطبيعي، أو المواطن الصالح، لا يمكن إلا أن يؤخذ في كليته مستبعدا خارجه كل ما يختلف عنه في أي من خصائصه. ويتوقع دائما أن يكون ذلك المخالف ﻷي من هذه الخصائص خارج عن بقيتها بالضرورة. ومن ثم ففي المعتاد يتوقع دائما أن يكون ثمة قانون ما يعاقب الشخص لكونه (غير طبيعي)، وحتى في غياب مثل هذا القانون ينتظر من السلطة أن تفعل شيئا ما بخصوصه. ويمكن أن نرى ذلك في تصورات الناس فيما يخص الشيعة مثلا، أو البهائيين، وتصوراتهم فيما يخص المثليين أيضا.
تُنشئ السلطة ذلك الفرد الطبيعي من خلال آليات ضبط الأفراد، ، وهي تقوم بذلك من خلال مؤسسات المجتمع المختلفة، من اﻷسرة إلى المدرسة وصولا إلى الجيش ومرورا بالسجن. ولكنها بذلك تنشئ أيضا على حدود هذا الفرد الطبيعي، نقيضه. تنشئ الهويات (غير الطبيعية). وتنشئ أفرادًا مستبعدين من اعتبار المجتمع بسبب اختلافهم عن الخصائص التي سادت في هذا المجتمع كونها تمثل ما هو "طبيعي".
ولكن ﻷن هؤلاء مدفوعين بحاجتهم النفسية إلى نيل اعتبار المجتمع لهم، وهم في نفس الوقت لا يمكنهم تغيير هوياتهم (التي تعبر عن حقيقتهم)، فلا سبيل أمامهم إلا السعي المستمر لنيل الاعتبار الاجتماعي لهم. وثمة بديلين لتحقيق ذلك، فإما أن يتوسع مفهوم (الطبيعي) لدى المجتمع ليشمل الهويات المنشأة على هامشه، وإما أن تسقط صفة الهوية عن مجموع السلوكيات المكونة لها بحيث تعتبر هذه السلوكيات طارئة على فرد هو باﻷساس طبيعي.
وبعض الهويات تصلح أكثر من غيرها ﻷحد البديلين دون اﻵخر. فهوية المجرم الخارج عن القانون، والتي يربط المجتمع فيها بين الخروج عن قوانينه وبين ذات الخارج عن القانون وحقيقته، أقرب ﻷن يتم إسقاطها ليبقى فقط مجموع الأفعال التي ينبغي عقاب الفرد على ارتكابها، دون أن يحتبس طيلة عمره في هوية المجرم التي تمدد أفعاله لتكون انعكاسا لطبيعة أصيلة فيها لا يمكن تغييرها.
في المقابل ثمة هويات عصية على اﻹسقاط، فهي تتشكل فعليا من خلال عدد كبير من الممارسات الاجتماعية الأكثر حميمية واتصالا بتعريف الفرد لذاته. ولا يمكن ﻷن يصبح باﻹمكان تصور إسقاط هذه الهويات إلا بنزع هذه القيمة عن الممارسات المشكلة لها. وإذا ما حدث ذلك فهو سيعني إسقاط الهويات المقابلة لها. بهذا المعنى لا يمكن إسقاط هوية المرأة إلا بإسقاط هوية الرجل، ولا يمكن أيضا إسقاط الهويات المبنية على الميول الجنسية بدون إسقاط الهوية الغيرية.
إن حرب المجتمع ضد هويات بعينها سواء سعيا للتخلص منها أو إلى تهميشها، محكوم عليها بأن تنتهي إلى هزيمته، بمعنى فشله في تحقيق أي من الهدفين إلى اﻷبد، تحديدا ﻷن آليات استمرار المجتمع هي ذاتها ما ينتج هذه الهويات، وهي ما ينتج اضطرار أصحابها إلى السعي إلى إرغام المجتمع على منحهم الاعتبار الممنوح للفرد الطبيعي فيه، ومن ثم فإن وصول المجتمع إلى النقطة التي لا يصبح بعدها مستعدا للاستمرار في هذه الحرب هو أمر محتوم. فلا يمكن ﻷي مجتمع أن يتعايش إلى ما لا نهاية مع التوتر الناشئ عن حرب مستعرة داخله ضد بعض مكوناته التي يستحيل عليه إقصاؤها كليا.
بالنسبة للمثليين في المجتمع المصري، قد تكون هذه النقطة بعيدة نسبيا، وربما هي أقرب مما يتصور معظمنا. واﻷكيد أننا لن نصل إليها دفعة واحدة بأي حال. وبالتالي فأمامنا وقت قد يطول أو يقصر ستستمر فيه هذه الحرب ضد المثلية، تزداد حرارتها أو تخفت من وقت ﻵخر. وسيسقط ضحايا كُثر جراءها. هذه حقيقة مؤلمة لا مناص من أن نتعايش ونتعامل معها. في هذه الحرب لا حجة ﻷي منا في ألا يحدد موقعه ودوره، فهي حرب تقمع وتضطهد بشرًا لمجرد أنهم يعلنون عن ذواتهم كما علمهم المجتمع نفسه أن يكونوها وأن يعيشوها.