رسالة سرّية من واشنطن للقاهرة، في أغسطس/ آب الماضي، تحذر من سفينة مُبحرة باتجاه قناة السويس، تحمل علم كمبوديا لكنها رغم ذلك تحمل طاقمًا من كوريا الشمالية، البلد الذي أبحرت منه مُحمّلة بمقذوفات مُضادة للدبابات.
هكذا أورد تحقيق نشرته، أمس الأول الأحد، صحيفة "واشنطن بوست"، قال إن السلطات المصرية اعترضت السفينة بناءً على ذلك التحذير الأمريكي، ولكنه ذكر أيضًا أن مصر كانت "الوجهة النهائية" لشحنة الأسلحة التي "يشتريها رجال أعمال مصريين".
ومنذ نشره، أثار التحقيق ردود فعل امتدت للأوساط الرسمية، إذ علّق أمس الاثنين المُتحدث باسم وزارة الخارجية أحمد أبو زيد على الأمر، في بيان نشره على فيسبوك، بتأكيد ما ورد في التحقيق من تفاصيل اعتراض السفينة و"تدمير الشحنة"، لكنه نفى تمامًا ما ورد فيه حول أنها كانت موجهة إلى مصر، لدرجة وصفه الأمر بأنه "يبدو من خيال كاتب المقال".
أحاديث القطيعة
أكد المتحدث باسم "الخارجية"، في بيانه، أن السفينة وحمولتها تعد "مخالفة لقرارات مجلس الأمن الخاصة بالعقوبات على كوريا الشمالية"، وأشار إلى إشادة رئيس لجنة العقوبات الخاصة بكوريا الشمالية في مجلس الأمن بالجهود المصرية في هذا الصدد، وأنه "اعتبرها نموذجًا يحتذى به في الالتزام بتنفيذ قرارات المجلس الأمن ذات الصلة".
حديث "أبو زيد" عن الجهود المصرية في الالتزام بالقرارات والعقوبات الدولية حيال كوريا الشمالية، يتسقّ مع خبر تناقلته وسائل إعلام مختلفة، في 12 سبتمبر/ أيلول الماضي، تزامنًا مع زيارة أجراها وزير الدفاع المصري صدقي صُبحي لكوريا الجنوبية، ورد فيه أن الوزير أعلن "قطع العلاقات العسكرية مع كوريا الشمالية".
كان مصدر الخبر هو وكالة "يونهاب" الكورية الجنوبية الرسمية، لكن لم يصدر عن وزارة الدفاع المصرية بعد نشره أي تعقيب بتأكيد أو نفي، بل إن الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري لم تنشر عن زيارة كوريا الجنوبية سوى فيديو واحد وبيانين، أولهما كان عن بدئها والثاني عن عودة الوزير.
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FEgyArmySpox%2Fvideos%2F1142523315878649%2F&show_text=0&width=560وأما وسائل الإعلام المحلية التي نقلت الخبر عن "يونهاب"؛ فحذفته من مواقعها الإلكترونية وطبعاتها الثانية، حسبما بيّنت نتائج البحث عنها، وهو ما أشارت إليه مواقع إخبارية أجنبية مثل "صوت أمريكا".
وتأتي أحاديث القطيعة والالتزام بالعقوبات الدولية ضد كوريا بعد أسابيع قليلة من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية تعطيل صرف مساعدات لمصر تُقدر بثلاثمائة مليون دولار، قررت الولايات المتحدة تعطيل صرفها لمصر بسبب "سجّلها في مجال حقوق الإنسان" وهو السبب الرسمي المُعلن و"علاقات مصر مع كوريا الشمالية" وهو ما تناقلته صحف أمريكية مهمة في بحثها وراء الستار.
علاقات "تاريخية"
وعلى الرغم من حديث وزارة الخارجية المصرية الحالي عن "الالتزام" بالموقف الدولي ضد كوريا الشمالية، إلا أن العلاقات بين البلدين "تاريخية" على حد وصف وزارة الخارجية المصرية نفسها عبر موقعها الرسمي، والذي يُبيّن امتداد العلاقات لوقت حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
كما يُعدد الموقع أوجه التعاون الثقافي والاقتصادي بين البلدين، وكذلك التعاون السياسي من خلال تأكيد "دعم مصر الدائم للموقف الكوري الشمالي في المحافل الدولية، بخصوص الموضوعات وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بأوضاع حقوق الإنسان بها"، عبر التصويت ضد هذه القرارات لصالح كوريا.
وتعاون "عسكري"
يقول تحقيق "واشنطن بوست" إن شحنة الأسلحة كانت موجهة إلى مصر، تحديدًا لرجال أعمال من خلال شركة شحن بحري مصرية، وتقول "الخارجية" إن الحديث عن الأسلحة أو التعاون العسكري ذلك غير صحيح.
ولكن التعاون العسكري بين بيونجيانج والقاهرة، موجود بالفعل منذ وقت مبكر، ومنه ما كان خلال حرب أكتوبر عام 1973، حين أرسلت كوريا الشمالية عدد من طياريها المقاتلين إلى مصر لمعاونة وتدريب نظرائهم المصريين قبل الحرب، حسبما ذكر موقع الهيئة العامة للاستعلامات.
ومقابل الصنيع الكوري؛ أمر الرئيس الراحل أنور السادات ببيع صواريخ "سكود- ب" الروسية إلى بيونجيانج، وذلك على مدار الفترة بين 1976- 1981، لتردّ كوريا بتزويد مصر بخبراء لمعاونتها في محاولاتها إنتاج صواريخ سكود- ب محليًا، وذلك مقابل العُملة الصعبة، حسبما يذكر موقع The diplomat.
والتعاون لا يتوقف عند تلك العقود البعيدة، ففي التسعينيات اشترى النظام المصري صواريخ سكود- سي من كوريا الشمالية، وهو ما شجّع النظام الكوري على المشاركة في أعمال تطوير برنامج صواريخ سكود- سي المصري، خلال أواخر التسعينيات وبداية الألفية الحالية، والتي شهدت زيارات أجراها الرئيس الأسبق حسني مبارك لبيونجيانج.
وامتد التعاون العسكري المصري الكوري حتى أعوام قليلة مضت، ففي عام 2015 كشفت لجنة تابعة للأمم المتحدة في تقرير لها أن شركات كورية شمالية "تستخدم ميناء بورسعيد المصري في الشحن وتهريب الأسلحة" وذلك حتى عام 2011 الذي شهد توقّف التعاون.
وذكر التقرير الأممي أن كوريا كان لها مندوبين في مصر، تعاونهم شركة مصرية تحمل اسم Sunlight Agency يرأسها رجل أعمال يدعى رجب الشناوي. هذه الشركة ألغي ترخيص عملها عام 2014 لعدم تسديد ديونها حسبما ورد في تقرير الأمم المتحدة المشار إليه، وبالبحث عن اسم صاحبها تبين أنه رجل أعمال صاحب نشاط سياسي، وسبق إلقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة العسكرية في أعمال "شغب وبلطجة" عام 2011، قبل أن يخرج بعفو رئاسي شمل العشرات من المحكوم عليهم في قضايا عسكرية عام 2012.
ميول سياسية للمعسكر الشرقي وقت حكم عبد الناصر، وتعاون في وقت الحرب المصرية- الإسرائيلية 1973، ثم صفقات بيع أسلحة وتبادل خبرات امتدت على مدار عهدي السادات ومبارك، ودعوة لحضور حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، مؤشرات لا تدل إلا على ما جمع مصر وكوريا الشمالية منذ أكثر من نصف قرن، من علاقات وطيدة و"تاريخية" صارت الآن في مهب رياح ضغوط دولية، وربما أقوى من الطرفين.