تحتفل مصر بعدة مناسبات دينية كل عام، وخلال أيام معروفة، كالمولد النبوي ووقفة عرفات ورأس السنة الهجرية (التي تحل اليوم)، يعرض التلفزيون المصري بمختلف قنواته الأرضية والفضائية قائمة محدودة جدًا من الأفلام السينمائية، التي تتناول حدثًا تاريخيًا يتصل بميلاد الدين الإسلامي في شبه الجزيرة العربية قبل نحو 15 قرنًا.
تشمل تلك القائمة المحدودة أفلام "فجر الإسلام" و"هجرة الرسول" و"الشيماء" وفي أحيان قليلة، الفيلم المرضي عنه خلال السنوات الأخيرة "الرسالة" للسوري الراحل مصطفى العقاد، وأخيرًا "رابعة العدوية" الذي أنتجته السينما مرتين، مرة بالاسم نفسه، ومرة باسم "شهيدة الحب الإلهي". ولكن بقي الشريط السينمائي لواحد فقط من الإنتاجين قامت ببطولته نبيلة عبيد، بينما لم يتبق من الشريط الثاني سوى نسخة مسموعة تعرضها الإذاعة المصرية في المناسبات الدينية أيضًا.
لعقود ظلت القنوات التلفزيونية المصرية ومن وراءها العربية تجتر تلك القائمة المحدودة، عاكسة انطباعًا بأنها تشكل كل ما أنتجته السينما العربية من أفلام يمكنها أن تخاطب المشاهدين خلال أيام الإجازات الدينية السنوية. ولكن مع حقيقة أن الإنتاج العربي من اﻷفلام التاريخية عمومًا محدود؛ إلا أن الأفلام التاريخية ذات الصبغة الدينية تشكل قدرًا غير قليل من هذا الإنتاج.
يكفي أن تبحث عن "أفلام دينية مصرية" على محرك البحث جوجل، لتجد في نتائج البحث تقارير تتحدث عن 5 أفلام دينية مصرية يتكرر عرضها في الأعياد والمناسبات الدينية. ولكن على الرغم من ذلك، يضم أرشيف السينما المصرية ضعف هذا العدد -على الأقل- من الأفلام. فبخلاف العناوين الشهيرة للأفلام الدينية مثل "فجر الإسلام" و"الشيماء"، تجد عناوين أخرى لأفلام يتجاهلها التلفزيون المصري لكنها وجدت طريقها ليوتيوب، مثل "خالد بن الوليد" و"ظهور الإسلام" و "بلال مؤذن الرسول" و"من عظماء الإسلام".
بعض هذه الأفلام عُرض مرات نادرة على شاشات التلفزيون، وبعضها لم يعرض على الإطلاق. وربما يعود هذا لأسباب مادية كعدم القدرة على شراء حقوق عروض الأفلام، أو لكسل من المسؤولين عن إعداد الخرائط البرامجية. لكن النتيجة الحتمية لهذا هي نقص جماهيرية هذه الأفلام الخفية، وفقر الخرائط البرامجية في تلك المناسبات الدينية المتكررة.
عدد من هذه الأفلام لم يحقق بالفعل نجاحًا يذكر عند عرضه جماهيريًا. يحكي المؤرخ السينمائي الراحل عبد الله أحمد عبد الله، أن فيلم "خالد بن الوليد" تسبب في خسارة منتجه وبطله ومخرجه حسين صدقي لثروته بعد أن عوّل على نجاح الفيلم. شارك في بطولة الفيلم الراحلتان مديحة يسري ومريم فخر الدين. ولم يحقق أي نجاح يذكر في شباك التذاكر حين عُرض، على الرغم من الدعم الذي تلقاه من الدولة، حتى أن مقدمة الفيلم ضمت شكرًا خاصًا لعدد من الضباط الأحرار، ومسؤولين في الدولة لدعمهم.
وفي كتابها "حسين صدقي الملتزم" الصادر عن مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2014، تقول الكاتبة ناهد صلاح إن صدقي أنتج فيلمًا دينيًا آخر هو "سهم الله"، عن "المكائد التي دبرها يهود المدينة للنبي" لكن الفيلمان اللذان أمل صدقي في أن يكونا "رصيدًا له عند الله"، فشلا جماهيريًا.
اللافت أن الفيلم الثاني "سهم الله" أعيد انتاجه على نفقة التلفزيون المصري بنفس السيناريو الذي كتبه حسين صدقي، وتوجد نسخة منه لدى التلفزيون بالفعل، وتشهد بذلك نسخته الموجودة على يوتيوب على القناة الرسمية لمحطة "ماسبيرو زمان". لكن الفيلم رغم ذلك لا يدخل ضمن قائمة الأفلام التي يذيعها التلفزيون في المناسبات الدينية.
وبالعودة لفيلم خالد بن الوليد، نجد أن عرضه تزامن مع عرض فيلم آخر هو "الست نواعم" من بطولة اسماعيل ياسين وتحية كاريوكا، وحصد الفيلم الثاني مال واهتمام المشاهدين.
وعلى الرغم من نقص انتاج تلك النوعية من الأفلام على مدار تاريخ السينما العربية عمومًا، والمصرية خاصة -باعتبارها الدولة ذات الباع الأكبر في صناعة السينما عربيًا-، إلا أن فيلمًا آخر هو "انتصار الإسلام" لقي نفس الفشل عند عرضه سينمائيًا؛ عندما تزامن عرضه مع مجريات حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، رغم أن الفيلم حشد عددًا من كبار النجوم في ذلك الوقت منهم ماجدة ومحسن سرحان وفريد شوقي وهند رستم.
دينية ولكن مُوجَّهة
من ناحية أخرى، هناك عدد من الأفلام التاريخية المتصلة بالسير الإسلامية تم تقديمها خصيصًا لدعم أفكار وتوجهات معينة، ربما لم يعد من المناسب في أعين المسؤولين الحكوميين أن يتم طرحها الآن، ما يؤثر على فُرص الفيلم في العرض التلفزيوني.
منها فيلم "حملة أبرهة على بيت الله الحرام" 1957، من إخراج أحمد الطوخي. ولا تحمل قاعدة بيانات السينما أية معلومات حول جهة الإنتاج. يقول الكاتب والناقد السينمائي محمود قاسم في كتابه "الفيلم التاريخي في السينما المصرية" إن هذا الفيلم "يعزف على نغمة حساسة بالنسبة لسنة إنتاجه 1957، وهي الوحدة العربية".
الأمر الذي قد يطرح تساؤلا مهمًا حول تجاهل التلفزيون المصري لبعض الأفلام التي تغرس توجهات ورسائل سياسية لم تعد تتبناها الدولة المصرية بنفس القوة، خاصة بعد انقضاء العهد الناصري الذي أنتجت خلاله معظم الأفلام التي يمكن وصفها بالأفلام التاريخية، بما فيها الأفلام الدينية.
من بين تلك الأفلام المستبعدة لشبهة حملها لرسائل سياسية غير مرضي عنها، فيلم "القادسية" بطولة سعاد حسني وعزت العلايلي. الفيلم من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية عام 1981، خلال فترة القطيعة بين مصر وباقي العالم العربي عقب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وهي فترة شهدت خروج عشرات المثقفين والفنانين المصريين الرافضين للاتفاقية والمعارضين لنظام السادات نحو العراق تحديدًا. وكانت العراق تحتضن المعارضة المصرية وتطلق الصحف والإذاعات المناهضة للنظام المصري، ما خلق عداوة شديدة بين الدولتين حتى تمت المصالحة العربية التي جرت في النصف الثاني من الثمانينات.
أخرج الفيلم وشارك في تأليفه المخرج الراحل صلاح أبو سيف. ويسرد الفيلم وقائع معركة القادسية التاريخية، وكان الهدف من وراء إنتاج الفيلم هو التمهيد للحرب التي شنها الجيش العراقي ضد إيران عام 1981. ونقل موقع المصري اليوم لايت على لسان الفنان عزت العلايلي أنه تم استغلاله لخدمة المصلحة العراقية ضد إيران في هذا الفيلم.
ولكن بخلاف الهدف من وراء إنتاج الفيلم، فإن الأزهر منع عرضه في مصر بسبب تجسيد الصحابي سعد بن أبي وقاص، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.
وللأزهر باع في منع الأفلام وخصوصًا التاريخية الدينية منها، ويعود تاريخ تدخل الأزهر في صناعة السينما لعام 1926، عندما أفتى بتحريم تصوير الأنبياء والصحابة وخاصة العشرة المبشرين بالجنة والخلفاء الراشدين الأربعة، وذلك مع بدء تصوير فيلم "النبي محمد" وهو إنتاج مصري إيطالي مشترك، وكان مقررًا أن يقوم فيه يوسف وهبي بتجسيد شخصية النبي محمد (ص)، لكن الأزهر سارع بفتواه موقفًا تصوير الفيلم.
فتح هذا المشروع الذي لم ير النور بابا لتدخل مؤسسة الأزهر في الأعمال الفنية التاريخية والدينية في مصر، ولم تعرف مصر فيلمًا دينيا إلا بعد حوالي 21 عامًا من فشل مشروع فيلم "النبي محمد"، ففي عام 1947 قدمت السينما المصرية أول فيلم تاريخي ديني وهو فيلم "ابن عنتر" للمخرج أحمد سالم. وشارك فيه الشيخ أبو العينين شعيشع وأحمد سالم والفنانة مديحة يسري وإسماعيل يس، وهو فيلم آخر في قائمة الأفلام التي لا يتم عرضها على شاشة التلفزيون المصري على الرغم من أهميته، كما أنه لا توجد منه نسخ متاحة على الإنترنت، ما يوحي بأن الفيلم ربما يكون مفقودًا.
ويعتبر فيلم الرسالة واحدًا من أهم الأفلام التي مُنعت في مصر وبعض البلدان العربية كالسعودية والكويت، وأثار الفيلم جدلا واسعًا على اعتباره إهانة للدين الإسلامي، وعلى الرغم من موافقة الأزهر على نص الفيلم قبل تصويره إلا أنه عاد ليعترض على عرضه بمصر وتم منعه بالفعل استنادًا لرأي الأزهر.
الفيلم من إخراج السوري مصطفى العقاد، وقام ببطولة النسخة العربية منه الراحل عبد الله غيث، والفنانة السورية منى واصف، وحمدي غيث وسناء جميل. بينما قام ببطولة النسخة الإنجليزية أنتوني كوين. ولم يعرض التلفزيون المصري الفيلم الذي يُعد الأضخم في فئة الأفلام الدينية الإسلامية إلا بعد 22 عامًا من تاريخ إنتاجه، حيث تم عرضه لأول مرة على شاشة مصرية أثناء الاحتفال برأس السنة الهجرية في عام 2007.
كان السبب المعلن لمنع الفيلم هو "تجسيد الفيلم لعم النبي حمزة بن عبد المطلب" رغم أن الأزهر أجاز السيناريو على اعتبار أن حمزة ليس من العشرة المبشرين بالجنة المُفتى بمنع تجسيدهم. لكن أوساط السينمائيين رددت سببً آخر كان معروفًا وإن لم يُعلن، وهو أن الفيلم لقى دعمًا ماليًا من العقيد معمر القذافي الذي تمتع بعداوة لافتة مع كثير من نظرائه من الحكام العرب في ذلك الوقت.
أفلام مجهولة.. وأزهر متحفز
أنتجت السينما المصرية حوالي 14 فيلمًا سينمائيًا دينيا، بالمعنى المتعارف عليه للفيلم الديني الذي يستمد وقائعه من حياة شخصيات لها أثرها في التاريخ الإسلامي، مع صبغة درامية جذابة مثل أفلام "الشيماء" و"السيد أحمد البدوي" الذي يعرض قصة حياة القطب الصوفي الشهير "السيد أحمد البدوي". الفيلم أخرجه بهاء الدين شرف، وشارك في تأليفه الشاعر المصري بيرم التونسي، وقام ببطولته كل من عباس فارس، وتحية كاريوكا، وكوكا، وهو من إنتاج عام 1955.
كما تدور بعض الأفلام الدينية في إطار تاريخي، مستندة إلى وقائع تاريخية كخلفية لأحداث الفيلم مثل فيلم "هجرة الرسول"، حيث يستند الفيلم على واقعة تاريخية حقيقية وهي حادث هجرة الرسول، بينما قصة الحب بين فارس وحبيبة في الفيلم متخيلة ولا أساس لها.
تلعب مؤسسة الأزهر الدور الأبرز في ساحة الأفلام الدينية، خاصة عند الحديث عن المنع، لكن تظل هناك أفلام كثيرة يتجاهلها التلفزيون المصري، وافق عليها الأزهر وسمح بعرضها على الجمهور، ويستمر التلفزيون ومن وراءه الفضائيات العربية في الاعتماد بشكل أساسي على أربعة أو خمسة أفلام فقط لعرضها في المناسبات الدينية، دون سبب واضح، الأمر الذي يستدعي التساؤل حول وضع أصول تلك الأفلام، وإن كان المجهول منها قد فُقد للأبد رغم ما يمثلة من تراث سينمائي ووثيقة تاريخية على صناعة كانت يومًا من أهم مصادر الدخل القومي لمصر.