يقف نبيل عبد الباري حائرًا مترقبًا أمام مستشفى الواحات البحرية المركزي حاملًا ملابس وبطانية في انتظار أن تنتهي ابنته أشرقت ذات الخمس سنوات من نقل الدم، ليتحول وجهها تدريجيًا من الشحوب التام إلى اللون الوردي دليلًا على أن "الأزمة عَدِت" وأنها استعادت حالتها الطبيعية.
تتكرر الأزمة شهريًا، وربما أكثر من مرة في الشهر، يشحب لون أشرقت ثم تفقد قدرتها على الحركة تدريجيًا، وقد تدخل في غيبوبة نتيجة ما تعانيه من أنيميا حادة، لتبدأ رحلة البحث عن كيس دم مناسب، أو مستشفى تُحجز فيه.
اكتشف نبيل الذي يعمل أخصائيًا نفسيًا إصابة ابنته الصغيرة في عامها الأول بالأنيميا المنجلية، التي تتسبب في نوبات من تكسير في الدم بسرعة تعوق قدرته على نقل الأكسجين إلى باقي خلايا وأعضاء الجسم، لهذا تحتاج إلى نقل دم جديد يعادل الوضع، ويساعدها على استرداد نشاطها.
على بعد 350 كيلومترًا جنوب القاهرة، زارت المنصة مدينة الواحات البحرية التابعة لمحافظة الجيزة، التي يعاني سكانها من انتشار أمراض الدم بأنواعها المختلفة، كما أثبت إحصاء أجرته مديرية الصحة بالمدينة، العام الماضي، وجود الجين المُسبب للأنيميا المنجلية لدى الآلاف منهم.
ورصدت المنصة وجود العديد من حالات الأنيميا المنجلية تجري عمليات نقل دم بالمستشفى، بالإضافة إلى محاولات مديرية الشؤون الصحية بالجيزة بالتعاون مع المجتمع المدني توفير الأجهزة والمستلزمات للمستشفى الذي يفتقر إلى كثير من المعدات والأطباء واحتياجات المرضى، حسب أهالي المدينة.
دور الوراثة
ينتشر مرض الأنيميا المنجلية في المدن والمحافظات التي يكثر بها زواج الأقارب وذلك وفقًا لوزارة الصحة، ومن بين المدن التي بها نسبة انتشار ملحوظة رصدتها وزارة الصحة، سواء للمرضى أو حاملي المرض، مدينة الواحات البحرية.
الأنيميا المنجلية، وتسمى أيضًا فقر الدم المنجلي، هو مرض وراثي؛ اضطراب ينتمي إلى مجموعة من الاضطرابات تُعرف باسم مرض الخلايا المنجلية، وتؤثر هذه الحالة في شكل خلايا الدم الحمراء التي تحمل الأكسجين إلى كل أجزاء الجسم، حسب وزارة الصحة والسكان.
عادةً ما تكون خلايا الدم الحمراء مستديرة ومرنة، الأمر الذي يسهل حركتها في الأوعية الدموية. لكن في حال الإصابة بفقر خلايا الدم المنجلية تتخذ خلايا الدم الحمراء شكل منجل/هلال، وتصبح صلبة ولزجة أيضًا، ما يبطئ تدفق الدم أو قد يمنعه.
لا يوجد علاج شاف للمصابين بفقر الدم المنجلي. لكن بعض العلاجات تُخفف الألم وتساعد في الوقاية من المضاعفات المصاحبة للمرض.
تَظهر مؤشرات فقر الدم المنجلي وأعراضه عادةً في عمر 6 أشهر تقريبًا، وقد تتغير بمرور الوقت، كما أنها تختلف من شخصٍ لآخر. وأعراضها هي فقر الدم، حيث تتكسر الخلايا المنجلية بسهولة وتموت. تعيش خلايا الدم الحمراء عادةً لمدة 120 يومًا تقريبًا قبل استبدالها، لكن الخلايا المنجلية عادةً ما تموت خلال 10-20 يومًا؛ مما يؤدي إلى نقص خلايا الدم الحمراء/فقر الدم.
ودون وجود عدد كافٍ من خلايا الدم الحمراء، لا يستطيع الجسم الحصول على ما يكفيه من الأكسجين، ما يتسبب في الشعور بالإرهاق.
حياة ناقصة
تمنع الأنيميا المنجلية أشرقت من أن تعيش طفولتها، يقول والدها لـ المنصة "ماتقدرش تلعب لأن الحركة الكتير بتخليها تتألم وبتسرع من تكسير الدم".
كما غيَّر مرضها أسلوب حياة أسرتها بالكامل، "أول ما عرفت، زي أي أب اتصدمت، لأنه مرض مزمن مالوش علاج. عايزة بيئة ملائمة لحمايتها من التعرض لأي عدوى، لو اتصابت بأنفلونزا بتحتاج نقل دم فورًا"، يوضح نبيل.
يحتاج المريض إلى متابعة دورية ونظام علاجي يومي ونظام غذائي خاص لدعم المناعة. تصاحِب المرض نوبات ألم دورية، تُسَمَّى أزمات الألم، تختلف شدَّتها وقد تستمر لبضع ساعات أو أيام. ويمرُّ بعض الأشخاص بأزمات الألم على مدار أعوام، بينما يتعرض البعض الآخر لعشرات الأزمات في العام الواحد. وتتطلب أزمة الألم الشديدة الإقامة في المستشفى.
كما يعاني بعض المراهقين والبالغين المصابين بالمرض من ألم مزمن، قد ينتج عن تلف العظام والمفاصل والقرح وأسباب أخرى.
ذلك يجعل من الالتزام بنشاط يومي كالذهاب للمدرسة أمرًا بالغ الصعوبة، وبالتالي تصنفهم الدولة ضمن "مرضى الدم والنخاع"، وتدعمهم وزارة التضامن الاجتماعي من خلال برنامج الخدمات المتكاملة.
يحكي نبيل من واقع خبرته مع أطفال الأنيميا المنجلية "يصعب عليهم الاختلاط، عشان محدش يصاب بعدوى ويدخل في علاج لمدة شهور. عشان كده معظم الأسر بتخاف على ولادها وما بيخرجوهمش برا البيت".
يشارك نبيل مع بقية أهالي المرضى في جروب واتساب، لتبادل الخبرات ومساعدة بعضهم بعضًا في حالات الطوارئ، خاصة مع نقص الخدمات الطبية داخل المدينة التي يبلغ تعدادها 44232 نسمة وفقًا لمديرة إدارة تنظيم الأسرة أماني الصياد.
يعتاد ولي أمر المريض مراقبته دائمًا؛ ملامح وجهه وحركته، أي تغير يعني أنه يحتاج لنقل دم، يقول نبيل "لما ببص في وش بنتي بعرف أنها هتنقل دم. بيبان على وشها، وبنخاف يحصل تكسير حاد تحتاج لعناية خاصة وده معناه إننا هنضطر نروح 6 أكتوبر والمسافة طويلة". لا يوجد في مدينة الواحات البحرية تخصص أمراض دم أو عيادات خاصة لأمراض الدم، هذه التخصصات تزور المدينة مرة في الشهر.
محاولات كسر الدائرة
زادت أعداد المصابين بالمرض في المدينة خلال السنوات الماضية وهو ما أكدته الدكتورة أماني الصياد مديرة إدارة تنظيم الأسرة بوزارة الصحة بمحافظة الجيزة لـ المنصة، اعتمادًا على إحصائيات مديرية الإدارة الصحية بالمحافظة، وعللت ذلك بقولها "ارتفاع نسب زواج الأقارب في الواحات البحرية تسبب في وجود ضعف جيني للأجيال الجديدة، وبالتالي ظهر هذا المرض الوراثي بشكل ملحوظ في المدينة".
"مجتمع الواحات البحرية مغلق، فوفقًا لمسح أجرته وزارة الصحة هناك 25 ألفًا من أبناء الواحات البحرية مصابون بأمراض الدم، فكل الأسر إما لديها مريض أو حامل للمرض" حسب مديرة إدارة تنظيم الأسرة.
حسب آخر إحصاء أجرته وزارة الصحة بالمدينة، يوجد 14 ألف حامل للمرض، من بين من خضعوا للفحص. كما يوجد 936 مريضًا بالأنيميا المنجلية.
ويمكن لحامل المرض نقله لأطفاله، تقول أماني الصياد "يمكن للشخص السليم أن يتزوج شخصًا حاملًا للمرض. ولكن لا يفضل زواج شخصين حاملَين للمرض لأن ذلك سينتج عنه أطفال مرضى بالأنيميا المنجلية بشكل مؤكد".
كما حدث مع هند، التي أصيبت بالمرض على الرغم من عدم وجود صلة قرابة بين والديها. بعد اكتشاف إصابة الطفلة في عامها الأول بالمرض، أجرى الوالدان التحاليل اللازمة ليكتشفا أنهما حاملان لجين المرض.
وترجع أماني صابر، خالة الطفلة، التي تعمل مشرفة صحية بالواحات البحرية لـ المنصة السبب في الإصابة إلى "عدم الاهتمام بتحاليل ما قبل الزواج التي تكشف عن أن المقبلين علي الزواج حاملو للمرض من عدمه".
تتابع الطفلة التي تبلغ السادسة من عمرها شهريًا في القاهرة لعمل إشاعات وتحاليل لعدم وجود إمكانيات في مستشفيات الواحات البحرية، "أختي عايشة طول الوقت في خوف على بنتها بسبب صغف المناعة الشديد. والخوف إن لو حصلها حاجة مضطرة تقطع مسافة كبيرة عشان تنقذها" تقول أماني.
هذا الخوف هو ما دفع أفراد عائلة أماني إلى الالتزام بإجراء التحاليل قبل الزواج، "لازم نتأكد إن الاتنين مش حاملين للمرض، مش حمل إصابات جديدة، كفاية إن أختي مش قادرة تحمل تاني عشان ما تجيبش طفل مريض تاني".
ساهم الفحص الشامل لطلاب المدارس في اكتشاف الأطفال المصابين بالمرض
سعيد حامد من سكان الواحات البحرية فقدَ أخته وأخاه بسبب الأنيميا المنجلية في واحدة من نوبات انخفاض مستوى كرات الدم الحمراء لديهما، وفوجئ بإصابة أخته الثالثة بالأنيميا وهي في السادسة والعشرين من عمرها، وتضطر سنويًا إلى تأجيل امتحاناتها في كلية الأداب بجامعة حلوان، بسبب المرض ووجودها بشكل شبه دائم في المستشفى.
معاناة سعيد دفعته إلى إجراء تحاليل دقيقة قبل زواجه للتأكد من أنه هو وزوجته غير حاملين لجين الأنيميا المنجلية، وحاليًا يعمل على توعية كل أفراد عائلته وقريته بأهمية الفحوصات.
كما حرصت وزارة الصحة على وضع خطة للتوعية والوقاية داخل الواحات، بواسطة الرائدات الريفيات للتعريف بالمرض وكيفية التعامل مع حامله والمصاب به، حسب أماني الصياد.
تتضمن التحاليل الخاصة بالزواج تحليلًا للكشف عن المرض بسعر رمزي، حسب زينب مصطفى مديرة الإدارة الصحية لكن "بيجوا يعملوا التحاليل قبل الزواج بوقت قصير أسبوع أو أسبوعين، الأفضل إجراؤها قبل الزواج بفترة، وبعد ذلك يكون القرار للأشخاص أنفسهم".
ضعف الإمكانيات
يغطي التأمين الصحي تكاليف علاج المرضى، لكن حسب إحصائية مديرية الصحة لا يستفيد منه سوى 116 مريضًا فقط فيما يعالج 820 آخرون خارج التأمين. ورغم اعتراف مسؤولة وزارة الصحة بالنقص الشديد في الخدمات الصحية في السابق، و"لكن حاليًا بدأت الوزارة في توفير عدد من الأطباء سواء داخل المستشفى المركزي أو الوحدات الصحية"، حسب قولها.
زارت المنصة مستشفى الواحات البحرية المركزي الواقع في مدينة الباويطي، ورصدت وجود عدد من الأجهزة الطبية به، لكن لم يكن من بينها ما يختص بتحليل الدم. كما يعاني المستشفى من نقص شديد في عدد الأطباء في التخصصات المختلفة والحيوية، في مقابل وجود عدد جيد من فريق التمريض والمرشدين الصحيين.
الدكتورة راندا عبد العزيز مديرة مستشفى الواحات البحرية المركزي، قالت لـ المنصة "لدى المستشفى ملفات لـ92 مريضًا بالأنيميا المنجلية يتابعون شهريًا ويحصلون على أكياس الدم دوريًا"، مؤكدة زيادة أعداد مصابي الأنيميا المنجلية المترددين على المستشفى، "ده غير أعداد حاملي المرض الكبيرة داخل المدينة".
تعي مديرة المستشفى الوحيد بالمدينة ما يعانيه المرضى في محاولة الحصول على الدم، تقول "الدم ذو الفصيلة السالبة موجود ولكن بنسب أقل من الفصيلة الموجبة. ولذلك معاناتهم أكبر خاصة لو بيحتاجوا نقل دم أكتر من مرة في الشهر". وينقل المستشفى من 50 إلى 70 كيس دم شهريًا، حسب الدكتورة راندا.
يحتاج الطفل إلى كيس دم يحتوي على كرات دم حمراء فقط، وفي مدينة الواحات يزوَّد بنك الدم بالأكياس من الخارج، ما يتطلب الانتظار أحيانًا لساعات حتى توفير الدم، "حتى التبرع بالدم مش بيكون مُجدي، عشان عملية الفصل دي مش بتتم هنا برضه" يشتكي نبيل، الذي يشارك أبناء مدينته طلبهم توفير مكان لفصل الدم في الواحات البحرية، مشيرًا إلى أنهم تقدموا بالطلب لكن لا إجابة.
وهو ما أكدته مديرة المستشفى "بنك الدم الموجود بمستشفى الواحات البحرية المركزي هو الوحيد بالمدينة هو تخزيني وليس بنكًا تجميعيًا، وفي حالة عدم وجود كيس دم مناسب يُنقل المريض بسيارة إسعاف إلى أقرب مستشفى وهو في مدينة 6 أكتوبر".
كما أن نقص الأجهزة التي توفر التحاليل يعد مشكلة تواجه الأهالي، تقول زينب مصطفى مدير الإدارة الصحية بمدينة الواحات البحرية، لـ المنصة "التحاليل بتعتمد على أجهزة الفصل الكهربي التي تحدد الإصابة بالأنيميا المنجلية، وهي غير متوفرة، وبالتالي الأهالي بيضطروا يسافروا عشان يعملوها".
دعم مجتمعي
ساهمت مؤسسات المجتمع المدني في توفير الأجهزة بالمستشفى، من خلال بروتوكول تعاون مع مديرية الصحة بالجيزة، منها مؤسسة قضايا المرأة التي شاركت من خلال مشروع الصحة الإنجابية في مد المستشفى بأجهزة قياس الحديد في الدم، الذي يعد واحدًا من الأجهزة المهمة التي تساهم في التشخيص والمتابعة وتحديد نسب الحديد ونسبة الأنيميا في الدم وحالات تكسير الدم، كما يساعد في متابعة الحالات المصابة.
البروتوكول تم توقيعه في شهر سبتمبر/أيلول 2022، حسب ماجدة سليمان مديرة برنامج الحقوق الصحية والإنجابية بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، ويهدف بشكل أساسي إلى تعزيز الحقوق الصحية والإنجابية، وتطوير الخدمات بالوحدات الصحية والعيادات المتنقلة والمستشفيات بمنطقتي الواحات البحرية وبولاق الدكرور وتقديم تدريبات متخصصة لمقدمي الخدمات الصحية، وكذلك رفع الوعي بالحقوق الصحية والإنجابية للأسر.
كما ساهم الفحص الشامل لطلاب المدارس في اكتشاف الأطفال المصابين بالمرض، حسب نعمة جلال مرشدة صحة مدرسية، لـ المنصة "منذ خمس سنوات وخلال عملي في الصحة المدرسية بدأنا اكتشاف المرض بين الأطفال، وبعض الأسر لديهم عِلم بإصابة أطفالهم".
لكن الجهود التي تبذلها وزارة الصحة بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني في محاولة التوعية وتوفير العلاجات للمرضى، لا تحسن جودة حياة أشرقت التي تحرمها الأنيميا المنجلية من أن تعيش طفولتها، وكما يقول نبيل "الأهالي هنا مسلِّمين أمرهم لربنا".