هنا حي "بلين فرت" بمدينة بور لويس بجزيرة موريشيوس في المحيط الهندي، في منتصف يناير/كانون الثاني، ترفرف الأعلام الخضراء بقوةٍ منذرةً باقتراب الإعصار الاستوائي "بلال". ورغم احتجاب السماء خلف السحب الملبّدة، يمارس السكان حياتهم بشكل طبيعي، يتحركون ويتناقشون فيما بينهم، ويحرصون على إظهار تضامنهم مع أهالي غزة، وهو ما أصبح اعتياديًا ضمن نشاطاتهم اليومية المعتادة.
تحتل الحرب الإسرائيلية على القطاع المحاصر، عقب أحداث السابع من أكتوبر، حيزًا كبيرًا من نقاشات سكان الحي، وترفرف أعلام فلسطين على المنازل والدكاكين لإعلان التضامن مع ضحايا الحرب، كما تنظم منظمة "سوملب" (أي التضامن الموريشي مع الشعب الفلسطيني) مظاهرات في شوارع العاصمة بور لويس.
"ما يحدث يؤلم القلب"، يقول بشير محمد علي لـ المنصة، معتبرًا التضامن مع فلسطين "مسألة إنسانية قبل أي شيء".
يمثل المسلمون نحو 17% من سكان الجزيرة، يقيمون في تجمعات من بينها حي "بلين فرت"؛ في ميدانها الرئيسي يجلس مودارباكوس محمد وغلام علي ورحمت بيرالي وكازي عبد الله يتبادلون الحديث عما يحدث في غزة، ويعبّرون عن غضبهم من تجاهل الدول الكبرى للمأساة الواقعة هناك، مؤكدين أن تعاطفهم مع غزة ليس بدافع ديني فقط، وإنما إنساني بالأساس.
تاريخ مشترك من المعاناة
لم يزر بشير فلسطين من قبل لكنه يعرف قضيتها جيدًا، ويحرص على ارتداء الكوفية الفلسطينية الشهيرة، ويعرِّفها بأنها كوفية ياسر عرفات. ويضيف بأن موريشيوس وفلسطين تشتركان في المعاناة من الاستعمار.
ونالت جزيرة موريشيوس، الواقعة وسط المحيط الهندي بالقرب من جزيرة مدغشقر في الساحل الجنوبي الشرقي للقارة الأفريقية، استقلالها في مارس/آذار 1968 في إطار الكومنولث، بعد قرون من الاستعمار، حيث فرض الهولنديون سيادتهم عليها من عام 1638 إلى 1710، ثم استولى عليها الفرنسيون من عام 1710 إلى 1810، ثم جاء البريطانيون واستولوا عليها من عام 1810 إلى 1968 إلى أن نالت استقلالها.
ورغم ذلك ظلت الملكة البريطانية إليزابيث الثانية رئيسة اسمية للدولة، إلى أن صوَّت المجلس التشريعي لصالح الانتقال إلى الشكل الجمهوري للحكم عام 1991، وفي 12 مارس 1992، أصبحت موريشيوس جمهورية بعد إلغاء النظام الملكي.
ربما بسبب هذا التاريخ الاستعماري الذي عانى منه سكان موريشيوس، فإن دعمهم لفلسطين قوي وقديم، يعود إلى السبعينيات عندما قطعت الجزيرة الصغيرة في المحيط الهندي علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل عام 1976، ورفضت إعادتها حتى 1993 بعد إبرام اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. واعترفت حكومة موريشيوس بمنظمة التحرير الفلسطينية رسميًا عام 1982، كما أنها تؤيد حل الدولتين وحق تقرير المصير للفلسطينيين.
ومؤخرًا جددت موريشيوس دعمها لفلسطين في أغسطس/آب 2023، عندما قررت دعم المسار القانوني للسلطة الفلسطينية بتوجهها لمحكمة العدل الدولية لاستصدار رأي استشاري حول شرعية احتلال الأراضي الفلسطينية، وهو ما سبق وفعلته الجزيرة بخصوص جزر شاجوس، فقد استصدرت قرارًا من محكمة العدل الدولية عام 2019 بأن احتلال المملكة المتحدة للجزر "غير قانوني"، والتي تعتبرها موريشيوس أرضًا تحت سيادتها.
يقول مودارباكوس ذو الخمسة وستين عامًا، عاشها كلها في موريشيوس، لـ المنصة أن "ما يحدث رهيب، هذه إبادة جماعية، ولكن البلدان الغربية والدول الكبرى تعتبره أمرًا عاديًا، لأنها لا تفهم الإنسانية ولأنها لا تراها في الشرق الأوسط"، يضيف "حتى البلدان العربية لا تهتم بفلسطين". ورغم موقفها الرسمي المساند ينتقد مودارباكوس، حكومة موريشيوس، معتبرًا أنها "لا تدعم فلسطين بشكل كافٍ".
طرق دعم فلسطين
تتصدر لافتة كبيرة الميدان الرئيسي بحي "بلين فرت"، كُتبت عليها الآية القرآنية "ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار"، باللغتين العربية والإنجليزية، وهي إحدى اللافتات التي تنشرها "الجمعية الإسلامية" في موريشيوس، في إطار أنشطتها التوعوية في الحي.
وتهدف الجمعية إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية لمواطني الجزيرة، وتعزيز العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين فيها. إلى جانب ذلك تُنظم حملات لدعم فلسطين، وتعقد الكثير من الأنشطة في المساجد للأطفال للتعريف بالقضية وتجمع تبرعات لها، حسب ياسر أوزر، رئيس الجمعية، الذي يقول لـ المنصة "حملات التوعية من أهم طرق دعم فلسطين".
ويوضح "كل سنة نخصص أسبوعًا باسم المسجد الأقصى، ولا نتوقف عن التوعية طول السنة. نعرِّف أناسًا لا يعرفون أي شيء عن فلسطين بأهمية القضية التي تعبر عن واحد من الشعوب المقهورة حول العالم، الفلسطينيون بشر مثلنا"، ويستدرك "لم نتوقف عن الدعاء من أجل السلام في غزة منذ 7 أكتوبر".
أسباب تضامن الشعب الموريشي مع فلسطين متعددة؛ دينية وتاريخية وسياسية، على رأسها إنسانية، حسب ياسر، الذي يؤكد أن تجاهُل ما يحدث في غزة ليس الاختيار الصحيح "تخيل طفلًا يلعب في غرفته، ويقتحم شخص غريب هذه الغرفة ويسرق اللعبة ويطرد الطفل من الغرفة ويصبح الطفل لاجئ. ماذا ستفعل؟".
وبينما يبدو الدين والإنسانية المشتركة السببين الرئيسيين لتعاطف سكان "بلين فرت" مع غزة، تشكل أيضًا التجارب الشخصية آراء قطاع آخر. بيجوم، امرأة ستينية تعمل في السوق بالعاصمة بور لويس من سنين، تتذكر زيارتها الأولى إلى القدس في فبراير/شباط 2020 وهي في طريقها إلى المملكة العربية السعودية، تقول لـ المنصة "صلينا في المسجد الأقصى وكان الجنود الإسرائيليون موجودين في كل مكان، لم نشعر بالأمان ولم نستطع فعل شيء".
وتضيف "الإسرائيليون يريدون الاستحواذ على الأرض كلها. الآن، في البيت أشاهد الأخبار كل ليلة، في وقت العشاء، ولا أستطيع تناول الطعام أمام المشاهد الحزينة لأطفال غزة. نصلي من أجل أن يذهبوا إلى الجنة ويهربوا من هذا الجحيم".
أما بشير الذي يرى أن ما يحكم الأراضي المحتلة الآن هو "قانون الأقوى"، فيؤكد أن "الحل الوحيد هو أن تكون القدس مكانًا للأديان كلها وليس فقط لأتباع دين بعينه أو جماعة واحدة".