لم يكن أعضاء تنظيم "الضباط الأحرار" الذي قام بثورة يوليو كتلة مصمتة ذات اتجاه سياسي واحد، إذ كانوا مختلفين في قناعاتهم السياسية لدرجة التناقض، فكان منهم من ينتمي للإخوان المسلمين، ومن انتمى لتنظيم "حدتو" الشيوعي، ومنهم المتعاطف مع ألمانيا النازية، وكذلك كان هناك أعضاء مؤيدون للديمقراطية، وهناك المقتنع بنظرية المستبد العادل. وعلى رأسهم جميعًا كانت هناك شخصية جمال عبد الناصر، الذي حاول أن يتعاون مع كل التنظيمات لإنجاح الثورة.
وعندما نستعيد الحديث عن ثورة يوليو في ذكراها الخامسة والستين علينا ألا نُسقِط من حساباتنا أيضًا أنها حدثت في بدايات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وأن هذا الصراع كان له دور كبير في مسارات الثورة.
وبينما ضم مجلس قيادة الثورة، بعد نجاحها، أكثر من اسم اشتراكي كان يميل إلى الاتحاد السوفيتي، كان هناك اسم غامض، شخص أحاطت به الشائعات طوال حياته وحتى بعد وفاته، هو عبد المنعم أمين، رجل أمريكا في مجلس قيادة ثورة يوليو.
وُلد أمين عام 1912، والتحق بالكلية الحربية عام 1932، أي قبل عبد الناصر ودفعته بخمسة أعوام. تشير الروايات عنه أنه كان ذا حياة اجتماعية نشطة، وحياة مادية ميسورة، وربما كان لهاتين الصفتين تأثيرًا على مصيره بعد الثورة.
انضم أمين إلى تنظيم الضباط الأحرار في وقت متأخر قليلًا، فبينما بدأ تشكيل التنظيم كرد فعل على حرب فلسطين عام 1948، لم يعرف أمين بأمر الحركة سوى عام 1950، حين فاتحه كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة بعد ذلك، بأمر الحركة، وأخبره أن أهدافها تصحيح الأوضاع ومحاربة الفساد، فأجابه أمين بالقبول، وأنه معهم في محاربة الفساد. ولكن رغم ذلك لم يقابل أمين جمال عبد الناصر، القائد الفعلي للتنظيم، حتى عام 1952، قبل يومين فقط من الثورة.
فين طَرحتك يا بكباشي
يروي عبد المنعم أمين في حواره مع الصحفي محمود فوزي المنشور في كتاب "الضباط الأحرار يتحدثون"، أنه في يوم 19 يوليو/تموز كان في طريقه إلى "نادي السيارات"، وكان دائم التردد عليه، فالتقى بمحامي على صلة قرابة بإسماعيل صدقي، رئيس وزراء مصر الأسبق، وقال له: "فين الطرحة بتاعتك يا حضرة البكباشي"، وعندما استفسر أمين عما يقصده المحامي قال: "حسين سري عامر سوف يُعَيَّن وزير حربية وحالف إنه يلبسكم طُرَح كلكم".
كان خبر تعيين حسين سرّي عامر المقرب من القصر ، والذي تنافس وخسر أمام محمد نجيب في انتخابات نادي الضباط الملغاة والمثيرة للجدل، يعني أن القصر بدأ بالفعل في اتخاذ إجراءات لمواجهة تنظيم الضباط الأحرار، وبالتالي كان على الضباط الأحرار أن يتحركوا سريعًا. في صباح يوم 21 يوليو تلقى أمين مكالمة هاتفية من كمال الدين حسين، أخبره فيها أن يستعد الليلة، انتظر أمين لساعات ومع اقتراب موعد نومه دق جرس الباب ليجد كمال الدين حسين ومعه شخص أسمر طويل يراه لأول مرة، وهو جمال عبد الناصر، يقول أمين عن عبد الناصر:
"كان من أهم ميزات عبد الناصر أنه دقيق الملاحظة، وحين يجلس في مكان يلم بالموجود كله في سرعة وذكاء، فلاحظ لأول وهلة بأنني أرتدي قميصًا وليس به علبة سجائر فقال لي: (عندك سجائر؟ لاحسن أنا نسيت علبة سجائري في العربية)، وحين دخلت لأحضر السجائر لاحظت أنه يتحدث ويتهامس مع كمال الدين حسين".
تحدث عبد الناصر في اللقاء أن هناك ضباطًا مؤيدين للحركة من مختلف الأسلحة ومنها المدفعية والفرسان، وعندما سأله أمين عن الملك أجاب عبد الناصر: "ما نعرفش هنعمل معاه إيه"، وأشار إلى أن المطالب ستكون تدريجية وأولها المطالبة بتعيين محمد نجيب وزيرًا للحربية.
شارك أمين في 23 يوليو ضمن ضباط المدفعية في حركة الجيش، كان يعمل قائدًا ثانيًا للدفاع المضاد للطائرات. وكان من المفترض، وفقًا لخطة الحركة، أن يلتزم الضباط بوحداتهم في صباح يوم الثورة، ولكن الكثير من الضباط كانوا صغارًا وخشوا أن يتعرضوا للمساءلة، فإذا فشلت الثورة سيُحقَّق معهم عن سبب وجودهم في الوحدات في ذلك التوقيت، فكتب أمين أمرًا زعم فيه أنه "ضابط نوبتجي عظيم" وطالبهم بالتزام وحداتهم. يقول أمين في حواره:
"كان هذا كفيلًا بأن تطير رقبة عشرة مثلي... لقد كانت جرأة من جانبي، لكن هذا ما حدث لكي يطمئن الضباط ويخرجوا ليلة الثورة".
إعدام الملك
بعد نجاح الحركة قرر جمال عبد الناصر ضم عبد المنعم أمين لمجلس قيادة ثورة يوليو، دون المرور على مستويات التنظيم، وكان ضمّ بعض الأعضاء للمجلس بسبب دورهم ليلة الثورة وبدون الاعتبار لمستويات التنظيم السابقة لـ 23 يوليو مثار حساسيات كبيرة في المجلس بحسب خالد محيي الدين في كتابه "والآن أتكلم"، ولكن ربما كان لحياة أمين الاجتماعية النشطة قبل الثورة دورًا في هذا الصعود.
بعد الثورة كان لأمين العديد من المواقف المثيرة للجدل، فقد كان من المطالبين بإعدام الملك فاروق، وهو نفس موقف جمال سالم، لكن بقية الأعضاء اختاروا قرار نفي الملك.
ولكن الأبرز من ذلك هو دور أمين في اتصال مجلس قيادة الثورة بالسفارة الأمريكية، فمن بين التوجهات العديدة لأعضاء مجلس قيادة الثورة، سواء الشيوعية أو الإسلامية أو القومية، كان هناك توجه يميل إلى التواصل مع الولايات المتحدة، كان الجناح يضم جمال سالم، ولكن سالم لم يحمل سوى الإعجاب لأمريكا خاصة أنه قام بزيارة لها في رحلة علاجية، أما عبد المنعم أمين فكان على تواصل فعلي مع السفير الأمريكي من منطلق حياته الاجتماعية.
دعا هذا عبد الناصر لتكليف أمين في صباح 23 يوليو بإخبار السفارة الأمريكية بنوايا الحركة وتوجهاتها وتمسكها بالالتزامات الدولية. كان أمين وغيره من رجال الثورة يرون أن الخطر الأكبر هو تدخل الإنجليز والأمريكان، وأن تدخلهم سوف يؤدي إلى نتيجة شبيهة لما حدث لأحمد عرابي عندما تدخل الإنجليز، يقول في حواره مع محمود فوزي:
"تقدم الجيش الإنجليزي في أول خطوة له بعد الثورة عند الكيلو 65 على طريق السويس، وكان يومًا مرعبًا بالنسبة لنا، لذلك قمنا أنا وكمال الدين حسين بتوزيع القوات وخصوصًا المدفعية في خطوط الاقتراب التي كانت في قاعدة قناة السويس، ولكن الأمر كان يبدو مظهريًا بعض الشيء فنحن بصراحة لم نكن نستطيع أن نقف ضد الإنجليز لو تحركوا.. حتى لو قام الشعب معنا".
بالإضافة إلى تحييد إنجلترا والحصول على دعم أمريكا، كان أمين يريد أن يظهر أن الثورة ليست شيوعية، وأن هذا سيساهم في نجاحها. بالتالي أعلنت السفارة البريطانية أن ما يحدث في مصر شأن داخلي، وأن أي اعتداء على أجانب أو منشآت أجنبية سيؤدي لتدخل القوات البريطانية، لذلك قرر الضباط بدورهم منع المظاهرات خوفًا من تطورها لاعتداء على الأجانب.
ونظم أمين لقاء بين السفير الأمريكي وجمال عبد الناصر وصلاح سالم وعبد الحكيم عامر، هذا اللقاء الذي كان مزعجًا لعضو ذي ميول شيوعية كخالد محيي الدين وفقًا لمذكراته. دام اللقاء حوالي 4 ساعات، أوضحوا فيه توجهات النظام الجديد. ويري أمين أن الاتصالات بأمريكا قد أفادت حيث قاموا بالضغط علي بريطانيا لعدم التدخل وكذلك ساعد الضغط علي قبول إنجلترا لفترة عامين يتم خلالهم الجلاء عن مصر .
ولكن التفاهم بين مصر وأمريكا، الذي بدا واعدًا تدهور كثيرًا بعد محاولة الحصول على الأسلحة منها، فوفقًا لأمين وقف تشرشل أمام أمريكا بحجة أن مصر ستستخدم الأسلحة في مهاجمة بريطانيا في القنال، فبدأت أمريكا في وضع العراقيل والتسويفات أمام الصفقة.
عدو الشيوعية
بدأت ميول عبد المنعم أمين "الأمريكية" المواجهة للشيوعية تأخذ منحى عمليًا بعد مظاهرات العمال في "شركة مصر للغزل والنسج الرفيع" بكفر الدوار، وتطور الأمر لإضراب وأعمال شغب وصدام مع الشرطة، مما أدى إلى اتجاه قوات الجيش للمدينة ومحاكمة المحرضين والمشاركين عسكريًا، ومن ضمنهم مصطفى خميس ومحمد البقري، ووفقًا لصلاح عيسى في كتابه "شخصيات لها العجب"، اقترح عبد المنعم أمين أن تتم المحاكمة في مكان وقوع الأحداث. تولى أمين رئاسة المجلس العسكري الذي حاكم العمال، وخلال يومين تمت المحاكمة وأمرت بإعدام خميس والبقري، غير أحكام الأشغال الشاقة المؤبدة والسجن والحبس لآخرين أمام عمال كفر الدوار.
بعد العديد من السنوات يستعيد عبد المنعم أمين تفاصيل المحاكمة في حواره مع محمود فوزي، أشار إلى أن ما حدث كان مؤامرة شيوعية تستهدف تخريب الاقتصاد وتخريب مصر، وأن منظمة "حدتو" الشيوعية أيدت الحكم في ذلك الوقت حتى تحمي نفسها. ونفى تدخل أمريكا أو ميوله الأمريكية في الحكم، إنما كان الحكم لإثبات أن الضباط قادرين على السيطرة على الحكم. وأضاف أمين أنه كان بإمكان محمد نجيب أو عبد الناصر رفض الحكم ولكنهما لم يعارضا، في حين ذكر أحمد حمروش في كتابه "ثورة يوليو" أن عبد الناصر عارض الحكم. في النهاية أُعدِم خميس والبقري، ولم يجدا مَن يدافع عنهما سوى الصحفي موسى صبري، الذي تطوع لتأدية دور المحامي لمجرد كونه خريج من كلية الحقوق.
ذكر أمين أنه غير نادم على قرار الإعدام ولكنه مع ذلك يقول في حواره مع محمود فوزي:
"لكن بعدما قررت الحكم كمحاكمة عسكرية ظللت بعدها 15 يومًا لا أنام. أصحو من النوم مفزوعًا. لماذا؟ لا أعرف.. لا أستطيع أن أقول لك أن هذا شعور طبيعي.. أي شخص تقول له أنت ميت أنت محكوم عليك بالإعدام.. صدقني ليست تجربة سهلة أبدًا. أذكر أنني لم أقرأ حكم الإعدام رغم أنني كنت رئيس المحكمة. كلفت عاطف نصار بقراءة حكم الإعدام بالنيابة عني. إنني كنت أرتعش وهو يقرأ الحكم".
ولكن صلاح عيسى يطرح وجهة نظر مختلفة في مسألة رئاسة أمين لهذه المحاكمة، إذ يرى أن عبد الناصر لم يكن يحب أمين أو يرتاح له، ويرجّح أن اختيار أمين لرئاسة المحاكمة كان الهدف منه حرقه سياسيًا.
خرج عبد المنعم أمين من مجلس قيادة الثورة عام 1953، وكان أول عضو يخرج من المجلس، وذلك قبل يوسف صديق وخالد محيي الدين، يقول محمد نجيب عن أمين في كتابه "كلمتي للتاريخ": "لم يخرج مستقيلًا إنما خرج بناء على قرار صدر من المجلس لأسباب لا أحب أن أعرضها، لأنه لم يُحَقَّق فيها". وتظل أسباب خروج أمين من المجلس غامضة. ولكن تناثرت الشائعات حوله وحول زوجته وكونها تستغل وجود زوجها في السلطة في حياتها الاجتماعيةـ وهو ما أشار له أحمد حمروش أيضًا في كتابه وإن لم يذكر اسم أمين واكتفى بالقول إنه ضابط من ضباط المدفعية.
يقول أمين في حواره مع طارق حبيب في برنامجه "الملفات السرية لثورة يوليو" إن صلاح سالم، القادم أيضًا من سلاح المدفعية، هو الذي كان مصدر الشائعات غير الصحيحة، ويدافع عن زوجته قائلًا إنهم كانوا يتهمونها بتسريب أخبار المجلس في نادي السيارات، رغم أنها كانت تزور أقاربها في إنجلترا في هذه الفترة. ويضيف في حواره مع محمود فوزي أن عبد الناصر كان يتشكك فيه لأن مستواه المادي كان طيبًا من قبل الثورة، وبالتالي كان يعتقد أن لديه أطماع في القيادة، يعلّق على ذلك قائلًا: "اِعتَقَد عبد الناصر أنها فتة وكل واحد عاوز يخطف منها حتة".
عُيِّن أمين سفيرًا في هولندا ثم ألمانيا، وكان طلب أن يُعيّن سفيرًا في إنجلترا أو فرنسا ليساعد بلده بشكل أفضل ولكن رُفِض طلبه، ويروي في حواره أنه لم يلق تعاونًا في حياته الدبلوماسية من وزارة الخارجية أو المخابرات.
يقول في حوار طارق حبيب: "لقد تجاهلت النصيحة التي تقول (سَل عن الرفيق قبل الطريق)، لم أكن أعرف هؤلاء الناس، كنت أُعامَل كأني متطفل... أني غريب وسطهم. كنت أقدم منهم كلهم، ما عدا محمد نجيب".
مع السادات
لم ينته دور أمين بنهاية ارتباطه بمجلس قيادة الثورة، ولم يتوقف أيضًا عن كونه وسيطًا للولايات المتحدة. بعد وفاة عبد الناصر يذكر أمين في حواره أنه نصح السادات بعدم السير على خطى عبد الناصر: "شوف جمال عبد الناصر كان بيعمل إيه واعمل ضده".
يضيف أمين أن السادات كان قلقًا من أمريكا، واعتمد عليه في جس نبضها تجاهه، حتى طمأنه، بعد رسالة من الرئيس نيكسون بنفسه، من كونهم يرحبون بالرئيس الجديد.
وفي رد علي سؤال اذا ما كان سيشترك في ثورة 52 لو عاد به الزمن، أجاب أنه سوف يشارك في اليوم الأول ويترك مصر في اليوم الثاني لأنه لن يستطيع التعامل مع أعضاء المجلس.
ظل عبد المنعم أمين، الذي توفى عام 1996، حلقة وصل بين دولة يوليو وأمريكا في لحظات حرجة، ولكنها متفرقة، من تاريخ مصر حتى بداية حكم السادات، وبدا أنه مات بعد أن حقق حلمه بالتقارب التام مع أمريكا والابتعاد الكلي عن الشيوعية والاتحاد السوفيتي، بل شهد أفول الاتحاد السوفيتي.
حين سأله محمود فوزي عن حبه لأمريكا قال:
"آسف.. ليست مسألة حب لأمريكا، فالسياسة أن تبحث عن مصلحة الدولة وتحققها.. وهذا ما يقوله المنطق والعقل.. طالما أنهم لم يمسوني بأذى لا أؤذيهم. والحقيقة أن تحدي عبد الناصر لأمريكا كان هدفه أن يحقق عبد الناصر من وراء ذلك البطولة على حساب أمريكا. وهناك حقيقة لا أنكرها وهي أن الأمريكان هم السبب الأساسي في خروج إسرائيل وإنجلترا وفرنسا من مصر (في العدوان الثلاثي)... ليس صحيحًا أن روسيا هي التي ضغطت على الإنجليز لخروجهم من مصر".