خلال أقل من ثلاثة أسابيع انتقلت أزمة الرياض وأبو ظبي مع الدوحة من مربع الحرب الإعلامية الشرسة إلى ساحة الحصار البري والجوي والبحري والمقاطعة الدبلوماسية. كل المطلعين على ملف العلاقات بين دول الخليج يعلم أن التوترات بين دول مجلس التعاون لا تنتهي. لكن هذه التوترات لم تصل لمرحلة فرض حصار بري وبحري وجوي على دولة عضو في مجلس التعاون وذلك لأسباب كثيرة؛ أهمها علاقات النسب والمصاهرة المتداخلة بين العائلات الخليجية.
ومن اللافت أنه رغم عشرات التحليلات التي تم نشرها في الصحافة الغربية والعربية حول الأسباب التي دفعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر لمقاطعة قطر دبلوماسيًا وتجاريًا، فإن تطورات الأحداث أثارت علامات استفهام كبيرة ولم تحمل أي إجابات. كل ما رأيناه حتى اللحظة هو اجتهادات لمعرفة السبب أو الأسباب الحقيقية التي تقف وراء التصعيد الخليجي غير المسبوق وغير المتوقع والمفاجئ مع قطر.
الأسطر القادمة تحمل سبع ملاحظات على هامش هذه الأزمة العاصفة:
1. انعكس الموقف الأمريكي الداخلي على الساحة الخليجية. تضارُب وجهات النظر بين الرئيس الأمريكي والبيت الأبيض من جهة مع وزارة الخارجية والبنتاجون من جهة أخرى ترك فراغًا سمح لأطراف الأزمة بالتصعيد دون الإحساس بأي قلق من ضغط أمريكي لتسريع إنهاء الأزمة.
2. من المنظور الأمريكي فإن وجهتي نظر تتنازعان المؤسسات التي تتعامل مع منطقة الخليج والشرق الأوسط.
وجهة النظر الأولى تعتقد أنه بات من المهم تشكيل تحالف خليجي وعربي واسع ومتماسك لمواجهة إيران وحلفائها في المنطقة وأن قطر هي عبء على هذا التحالف بسبب ما تمثله سياساتها في دعم حركة حماس وجماعة الإخوان من "ضيق" لدى الرياض وأبو ظبي والقاهرة (العواصم الرئيسية في أي تحالف عربي/ناتو عربي)، وبالتالي لا بد من تغيير سياسات قطر وترك مهمة هذا التغيير للعواصم الخليجية.
وجهة النظر الثانية تعتقد أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة، التي تسعى لتشكيل ناتو عربي لمواجهة إيران، أن تسمح بخلافات حادة داخل دول مجلس التعاون، لأن ذلك قد يمثل فرصة لإيران للتدخل وتفكيك أي تحالف إقليمي محتمل ضدها. كما يعتقد أصحاب وجهة النظر تلك أن قطر هي في المحصلة النهائية حليف لواشنطن وبها أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، وأن علاقاتها بحماس أو طالبان أو جماعة الإخوان ضرورية من أجل تواصل واشنطن مع هذه الأطراف عند الحاجة. وبالتالي فمن المهم للأمن القومي الأمريكي في تلك المنطقة من العالم أن ينتهي الخلاف الخليجي سريعًا.
3. من الصعب تصور أن تتراجع الرياض وأبو ظبي عن قرارات المقاطعة البرية والبحرية والجوية دون أن تقدم قطر تنازلات كبيرة ومؤلمة تتعلق بسياسات وسائل إعلامها أو علاقاتها السياسية. بعض التقارير ذكرت أن من بين المطالب إغلاق شبكة الجزيرة وهو أمر يعتبر من الخطوط الحمراء لدى الحكومة القطرية.
ومن الصعب أيضًا تصور أن تقوم الدوحة بتقديم هذه التنازلات المؤلمة خصوصًا العلنية منها مثل إغلاق الجزيرة. ولهذا فمن المحتمل أن تطول مدة الأزمة بالرغم من التكلفة المادية الباهظة على الاقتصاد القطري الذي يعتمد على الاستيراد عبر منافذه البرية وعلى التداخل مع الاقتصاد الإماراتي.
4. تحركات الدول الإقليمية كانت لافتة. إيران عرضت سد احتياجات قطر الغذائية ردًا على المقاطعة الخليجية. وحاولت طهران أن تكسب الدوحة الى صفها، بينما الأخيرة حاولت أن لا تبدو سعيدة بالدعم الإيراني كي لا تغضب واشنطن. تركيا من جانبها ستعزز وجودها العسكري في قطر وذلك في الوقت الذي أعلنت فيه أنقرة عن دعمها للدوحة ولكن دون استفزاز الرياض والتي تخشى أن تقوم بإلغاء صفقاتها العسكرية مع تركيا. إردوغان يحاول كسب تميم دون خسارة سلمان. معادلة لن تستمر في التماسك طويلًا لأن الرياض وأبو ظبي سيطلبان من العواصم الإقليمية تحديد موقفها بوضوح من الأزمة. إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا. وربما المثال الأبرز موقف الأردن الذي أعلن فجأة عن خفض تمثيله الدبلوماسي في الدوحة.
5. من السهل فهم الموقف المصري في الانضمام الى العواصم الخليجية الثلاث، الرياض وأبو ظبي والمنامة، التي اتخذت قرار مقاطعة قطر، وذلك بسبب الخصومة الحادة بين القاهرة والدوحة على خلفية ملف جماعة الإخوان. لكن من المهم هنا التأمل في الموقف المصري باعتباره نقطة تحول في علاقات القاهرة مع الدول العربية منذ أزمة اجتياح العراق للكويت عام 1990.
تاريخيًا لم تلجأ القاهرة لقرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع العواصم العربية، بما فيها الدوحة، وذلك في كل فترات التوتر بين مصر وقطر خلال التسعينيات والعقد الأول من الألفية، وصولًا الى هذه اللحظة الراهنة. كانت القاهرة تعتمد على مكانتها كعاصمة لمقر الجامعة العربية وعلى إرثها "كأخ أكبر للدول العربية" وهو ما يفرض عليها عدم القطيعة ولعب دور الوساطة لحل أي خلافات عربية. وبالتالي فإن القرار المصري هنا يطيح بإرث "الأخ الأكبر" وبمكانة الدولة التي تحتضن مقر المنظمة الإقليمية الوحيدة التي تجمع كافة العواصم العربية.
ومن الطريف هنا أن أطراف الأزمة الحالية استثمروا لسنوات طويلة في إضعاف قدرة القاهرة على لعب دور "الاخ الأكبر" وأن هذا الاستثمار تلاقى مع رغبة مصرية بالتخلي عن أي دور عربي كبير ومؤثر باعتباره "عبء" على القاهرة ومواردها المحدودة وقدرتها على التعامل مع ملفات داخلية أكثر أهمية. كل هذا أدى إلى أن يكون مفتاح الحل لأي أزمات عربية شبيهة بالأزمة الحالية موجودًا لدى عواصم إقليمية خارج المحيط العربي، وأهمها واشنطن. ويمكن الإشارة هنا الى الوساطة المصرية التي قادها مبارك عام 1992 بين الرياض والدوحة في أعقاب أزمة سيطرة السعودية على نقطة الخفوس الحدودية.
6. الأزمة تُبرِز الدور الإقليمي المتنامي لأبو ظبي، خصوصًا مع قدراتها الواسعة على حشد الحلفاء في واشنطن. كما أن الأزمة تعتبر الإعلان الرسمي لإعادة تشكيل تحالفات المنطقة، وستلعب أبو ظبي دورًا رئيسيًا خلال تلك العملية التي يريد أصحابها أن تصل بهم الى مستوى تشكيل قوات ناتو عربي تستطيع مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة، وتعتمد على مساهمات الرياض وأبو ظبي والقاهرة العسكرية.
ومن اللافت أن الدور الإقليمي الجديد لأبو ظبي والذي بدأ في أعقاب الافتتاح الرسمي لثورات وانتفاضات الربيع العربي عام 2011، قد تخطى مرحلة أن تكون جزءًا من منظومة خليجية تقودها الرياض ووصل بها الى أن تتقاسم القيادة المشتركة مع العاصمة السعودية في جهود حشد الدول المقاطعة لقطر.
7. لن تكون العلاقات الخليجية بعد هذه الأزمة كما كانت قبلها. فالحرب الإعلامية الشرسة وغير المسبوقة ستترك شرخًا عميقًا على علاقات الأنظمة الخليجية ببعضها. كما أن هذه الأزمة سوف ينظر إليها باعتبارها إعلان الوفاة غير الرسمي لمنظومة مجلس التعاون الخليجي، والتي شهدت توترات حادة بين عواصمه لسنوات طويلة. كما ستترك هذه الازمة ظلالًا شديدة القتامة على العلاقات بين الشعوب الخليجية والتي لا تستطيع ذاكرتها الغفران أو التسامح بسهولة.