"وصل التاكسي الفارغ، وترجل منه آتلي".. لم أكف عن الضحك عندما قرأت العبارة السابقة منسوبة لوينستون تشرشل متحدثًا عن رئيس الوزراء العمالي كليمنت آتلي. كانت العبارة بالنسبة لي تلخص الذكاء الحاد والسخرية البارعة التي اشتهر بها تشرشل. أتذكر له مقولة أشهر، حينما رأى قبرًا كُتب فوق شاهده "يرقد هنا الرجل الشريف والسياسي الماهر فلان" فأبدى استغرابه من دفن شخصين في ذات القبر.
كنتُ أضحكُ كلما تذكرت عبارة التاكسي الفارغ، ثم حدث شيء جعلني أبحثُ عنها، فوجدت، حسب موقع كوت انفستيجيتور، أن تشرشل قد نفى قولها بشدة، وكعادة كل العبارات البارعة التي انتشرت بين البشر، وجدت لها تأصيلات عديدة في مواقف سابقة. هل انتهى سحرها؟ أبدًا.
ما حدث هو أن محرري المنصة الجادين قد نبهوني لنسبة عبارة شهيرة من ماركس إلى انجلز، ثم نبهوني، عبر هذا الموقع سالف الذكر، إلى تشكيك في نسبة عبارة أخرى لستالين.
كان الأمر، وهو مفهوم تمامًا منهم، يستند إلى أرضية معلوماتية على قدر متفاوت من الوضوح (عبارة انجلز مطبوعة ومثبتة، بينما يشكك الموقع في عبارة ستالين المطبوعة فعلا) بالنسبة لي فقد ذكّرني هذا بالحكايات، الحكايات البديعة التي لا نعرف أصلها من فصلها، ولكننا نحبها. أشار ابن خلدون إلى اختراع النسب وأسطورته، فلم لا يخترع البشر الحكايات التي يصدقونها؟
المسألة تتراقص بين العلم والفن. بين التوثيق والانطباع. وأنا من أرض قد بدأت تتفكر مليًا في الفوارق بينهما، أفكرُ في التاريخ نفسه، وصناعته وتوثيقه، ثم اسأل نفسي: أليس هو أكبر الحكايات الأسطورية؟ في مسألة المقولات بالذات، ما هو الدليل الحقيقي على نسبة مقولة لشخص إن لم يكن قد قالها في خطبة مُسجلة أو دوّنها في كتاب؟
من الصعب تمامًا أن تجد أربعة أشخاص يتففون على منطوق عبارة مثلًا. قد تقول إنه يكفي روح العبارة، ولكن ما دمنا نتكلم في العلم، فإن علماء النص سيوضحون لك تمامًا مدى الاختلاف البيّن ما بين كلمة وأخرى، وما يمكن أن يقود إليه هذا الاختلاف. تذكر الدراسات القرآنية مثلا، أو، بشكل اوضح، علم الحديث.
وكما قلت سابقًا، حتى مع التوثيق المحكم، فمن الوارد، والوارد جدًا، أن أجد ذات العبارة على لسان شخص آخر قبل 100 عام مثلًا.
ما الذي يحدث في حالة الحوار المغلق، الحديث بين شخصين فقط، كتابة المذكرات، لعبة الذاكرة ومخاتلاتها؟
هناك طريقة شهيرة لا تعني تشكيكًا ولا تأكيدًا إلا بحسب السياق. السياق هو كل شيء، والأهم هو فهمك أنت لهذا السياق. قال ماركس في مرة إن الرأسمالية "هي أكبر حركة ثورية في التاريخ". إن لم تكن قد قرأت ماركس فعلًا فلسوف تتعجب من ذلك لبرهة، قد تنفيه بشدة لأن السياق الذي تعرف فيه أنت ماركس لا يوحي لك بعبارة مثل هذه.
عبارته البديعة التي تسبق "الدين أفيون الشعوب" والتي تقول "الدين هو القلب في عالم لا قلب له" هل يتذكرها أحد؟ وإن تذكرتها، ففكر في حمولتها التي نتخيلها، ثم في حمولة عبارة "أفيون الشعوب" فحسب. ربما قصد بعضهم التركيز علي نصف العبارة فقط.
من حسن الحظ أن هذين المثالين موثقان، وبذلك يمكنهما تعديل السياق في ذهنك، ولكن ماذا عن العبارات المتواترة؟ ماذا عن العبارات ذات "الإسناد الضعيف"؟
هكذا يمكن أن تنسب عبارة ما لشخص ما، وتجد أن الدافع الوحيد لتصديقها من عدمها هو مسيرة الإنسان ذاته، والرؤية العامة المستقرة لمسيرة هذا الشخص. وعندما أقصد الرؤية العامة المستقرة أحيلك مرة أخرى لدرس صناعة التاريخ.
مثال آخر في اتجاه معاكس ومختص بالتاريخ: يقولون إن عرابي لم يقل أبدًا هذه العبارات التي لقنت لنا في كتب التاريخ. هذا نقض مفيد لأدبية مهيمنة، هذا تفكيك لمستقر وشائع، ولكنه ينبغي ألا يعني آليا أن عرابي قد فعل ما فعل لمجرد الاستحواذ على السلطة.
اقرأ أيضًا: على من يطلقون الرصاص؟
بالطبع يمكنك أن تفكر في حركة التاريخ باعتبارها صراع على السلطة لا صراع طبقي أو ثقافي ذو وعي متمايز. عبد الناصر كان بالفعل يظن ذلك، ولكن ذلك في حد ذاته هو ايدولوجي. ربما تخاطر بأن تكون ايدولوجيا مثل من يخبطون الأرض الآن بأقدامهم غاضبين، لأن مسلسل واحة الغروب قد قدم الناس وهي تقول على "ثورة عرابي" إنها "هوجة عرابي" ويتناسون أن منطوق "هوجة عرابي" كان مثبتًا وموثقًا.
..ولكنني أعود إليك ثانية لأقول: ألا تظن أن السلطة ساعتها كانت تحب لفظ هوجة؟ ثم أعود إليك ثانية، لأناقشك في معنى هذا "التوثيق" و"المعلوماتية" المثبتة، وأتساءل عما إن كانت ألفاظ "هوجة" و"ثورة" تحمل هذا "التقبيح أو التحسين العقلانيان" في زمن الخديوي توفيق.
أهو عالم بلا يقين؟ يقطع الكثيرون بذلك، ولكن في فوضى المعلومات وتوثيقها يأتي المعنى الواضح لكل معلومة: ربما لم يقل ماركس نفسه عباره بعينها، قال ما يعنيها ولكنه لم يقلها، ولكنّ شريكه في المانيفستو الشيوعي قد قالها حرفيًا، ومادامت العبارة قد وصفت بالأدبيات الماركسية، فالمعنى منضبط ثقافيًا، يعتوره خطأ في المعلوماتية، ولكنه منضبط في معناه.
هناك يقين آخر، ومعلوماتية منظبطة، ولكنها والعدم سواء. نعرف تماما، ومتأكدون، من أن السيسي قد أصدر حزمة مساعدات بما يقدر بـ2.5 مليار دولار ولكن، هل يعني هذا شيئًا في آلاف القرارات الأخرى؟ أو يعني شيئًا في ظل التوقعات بارتفاع كاسح آخر في الأسعار في شهر أغسطس/آب المقبل؟
أفهم أن اليقين لازم في حياتنا. وأفهم أن لعبة المعلومات والتوثيق هي اللعبة التي اتفقنا عليها جميعًا، وبالتالي برعنا في تلفيقها عند اللزوم. سيقولون لك إحصاءات موثقة لا تدري آلية حسابها عن نمو وازدهار. سيقولون لك تصريحات موثقة عن إجراءات كذا وكذا، سيشهرون في وجهك "الحقائق الموثقة"، وسيتهمونك بالتهويم وبالكلام العام والعائم.
سيفعلون ذلك، ولكن المعنى سيأتي من مقارنة المعلومات الموثقة ببعضها، ومن علاقتها ببعضها، وفي أحيان كثيرة، يأتي المعنى من حكايات لا هي بالمعلوماتية ولا هي بالموثقة، يأتي المعنى، في أحيان كثيرة، في كل ما اتفقت "المؤسسات الرسمية" على مجرد تجاهله، وصولا لمنعه وطمسه وتغيير معناه.
ربما لم يقل تشرشل عبارة التاكسي الفارغ، ولكن العبارة في ذاتها تعجبني.