كَثُر الحديث إبان الثورة المصرية 2011 عن حروب الجيل الرابع، يعتقد البعض أنها خرافة اخترعها الإعلام المضاد للثورة، ويعرف آخرون أنها نظرية حقيقية، يؤمن بها البعض لتفسير الربيع العربي باعتباره نتاج مؤامرة، وينفيها البعض بشدة تتناسب مع عمق إيمانه بمباديء وتضحيات الربيع العربي. وبقطع النظر عن موقفنا من الثورات العربية، فربما تصلح نظرية "أجيال الحروب" لفهم استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وربما التنبؤ بمراحلها القادمة، وتقييم مدى نجاحها. لا يستهدف هذا المقال إذن محاولة تفسير الربيع العربي باعتباره مؤامرة من نوعٍ ما، بل قراءة استراتيجية "تنظيم الدولة الإسلامية". وقد تكون أهم خطوة فيما يتعلق بتقديرنا لمدى نجاح هذه الاستراتيجية، وبالذات في الحالة المصرية، هي تحديد مستوى عملياتها بين حروب الجيلين الثالث والرابع، أو بالأدقّ معدل تحولها من الثالث إلى الرابع. إن مفتاحَ نجاحٍ استراتيجية التنظيم في مصر ربما هو إحداث هذا التحوُّل؛ وربما نجح ما نجح من عملياتها إلى حد ما بسبب الاستهانة بقوات غير نظامية كقوات "ولاية سيناء". ولكن الحقيقة هي أن هذه القوات غير النظامية قادرة في مرحلةٍ ما فعلًا على شلّ نظام بأكمله، وإسقاطه، مهما بلغ تسليح الجيش التابع لهذا النظام وتدريبه، إذا تجاوزت عنق الزجاجة، وعنق الزجاجة هنا هو الواصل بين الجيلين الثالث والرابع من الحروب، كما سيلي.
الحروب في أجيال
ترجع أهمّ بلوَرَة واضحة لمفهومي الجيل الثالث والجيل الرابع مِن الحروب إلى عام 1989، في مقال كل مِن William S Lind; Keith Nightengale; John F Schmitt; Joseph W Sutton; Gary I Wilson, ، بعنوان: The Changing Face of War: Into the Fourth Generation. فقد صنّف المؤلفون الحروبَ في ثلاثة أجيال مقترِحين إضافة جيل رابع. يشترك الجيلان الأول والثاني في استراتيجية "مَنْع الاختراق"، حيث يعتبَر اختراق خطوط جيش العدوّ ومِن ثَمَّ الالتفاف حوله في حد ذاته نبأَ هزيمته. ولكن بينما يعتمد الجيل الأول على صفوف بشرية مدرَّبة مسلحة بالسيوف أو بالبنادق، مع استعمال أعمدة مِن المدفعية البدائية، كاستراتيجية نابليون بونابرت مثلًا، يستخدم الجيل الثاني نيران المدفعية بشكل مختلف، أكثر كثافة ومناورة، لتجنب المواجهات المباشرة بين صفوف الجيشين كلما أمكن، مع تحقيق تدمير كافٍ في جيش العدوّ في الوقت نفسه عن بُعد. وهي الاستراتيجية الأكثر شيوعًا في الحروب حتى ثمانينات القرن العشرين بحسب المؤلفين[1]. ورغم هذا الاختلاف يشترك الجيلان في (المواجهة الخَطّيّة) المباشِرة بين صفين من الجنود.
وقرب نهاية الحرب العالمية الأولى، ونظرًا لضعف قدرات ألمانيا في تصنيع السلاح مقارنة بخصومها المتحالِفين، فقد نشأت الحاجة إلى تطوير إستراتيجية ثالثة، تعوّض هذا التفاوت الصناعي-الحربي. ومنطق التطور من جيل إلى آخر من هذه الأجيال هو تطور الفكر الإستراتيجي من جهة، والتطور التكنولوجي من جهة أخرى؛ فبدون مدفعية ثقيلة سريعة مثلًا Artillery لا يمكن تطبيق الجيل الثاني. وبصفةٍ عامة، يتجه مسار التطور في استراتيجيات الحروب بشكل متزايد، نحو استبعاد المواجهات المباشرة، وإحلال المناورة محل القتال التقليدي.
ولكنّ الفكرَ الإستراتيجي قد سَبَقَ التطورَ التكنولوجي عند الألمان في تلك المرحلة إبّان خمود حريق الحرب الأولى؛ فلم يستطع الألمان تطبيق إستراتيجيتهم بشكل ناجح، وهو ما استطاعوا إنجازه بنجاح منقطع النظير في التاريخ بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية، حين استُعمِلت الدبّابة، التي هي أقدر مِن المدافع والجنود بطبيعة الحال على الاختراق على الأرض. حرب الجيل الثالث هي الحرب التقليدية الحديثة التي طبقها النازيون أساسًا في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وهي المعروفة باسمها الشهير "الحرب الخاطفة" Blitzkrieg، وتعتمد على (التسلل) إلى جبهة العدوّ لشلّ مراكز واحتلال مواقع وجبهات حيوية بعمليات عسكرية/جراحية تستنزفه، ولا تحدث مواجهة مباشِرة بين جيشين نظاميين إلا في أضيق الحدود. أي أنها قد تجنبت للمرة الأولى ربما في التاريخ العسكري المواجهة الخطّيّة المذكورة أعلاه. وعن طريق هذه الاستراتيجية استطاعت ألمانيا اجتياح بولندا وفرنسا وأغلب أوروبا والشمال الأفريقي، بقوات متواضعة الكمّ نوعًا إذا ما قورنت بأهداف اجتياح إمبراطوريتين كبريطانيا وفرنسا، وقد تمّت الاستهانة بالفعل بهذه القوات قبل أن يَقْلِب نجاحُها موازينَ السياسة والإستراتيجية.
أما الجيل الرابع فهي استراتيجية أبعد مدًى وأكثر تعقيدًا، تستهدف تجنب المواجهة تمامًا بين جيشين نظاميين، وتعتمد على تحريك عناصر مدنية (محتجين أو متظاهرين أو إرهابيين أو كل ذلك) بتكتيكات معينة لمقاومة عناصر الأمن والجيش، في الجبهة الداخلية للعدوّ، لإسقاط نظام حكم أو إحداث نقلة نوعية في المواجهة[2]. وبينما يظن هؤلاء المحتجّون أنهم مُخيَّرون في حركتهم، فإنهم في الحقيقة مُسَيَّرون في إطار إستراتيجية سرّيّة. وهو منطق جديد لمناقشة قضية الجبر والاختيار، مع إضافة البعد الاستراتيجي إلى البعدين الميتافيزيقي (الله والإنسان) والسياسي (المُواطِن والسلطة)؛ فالاستراتيجية شكل من أشكال القضاء والقدر البَشريين بالنسبة إلى عناصرها غير الواعية بوضعها فيها. وتعتمد إدارة المعركة هنا على منابر إعلامية ومواقع إلكترونية وعلى استراتيجية ردّ الفعل و(تسريب) معلومات معينة بصدد تكتيكات مقاومة قوات مكافحة الشغب، منقولة عن تجارب هذه أو تلك مِن الثورات أو الحركات الاحتجاجية الناجحة. ومنطق التطور هو هو؛ فقد تطورت الاستراتيجية لتجنب المواجهة العسكرية أصلًا، لكن العامِل الحاسم كان التطور التكنولوجي في وسائل الإعلام والاتصال. ونضيفُ هنا عاملاً ثالثًا بالإضافة إلى الاستراتيجية والتكنولوجيا هو الدراسات الثقافية. فإذا كان التطور الإستراتيجي قادرًا جزئيًا على تفسير نشأة هذا الجيل، لتفادي حروب عالمية ساحقة – مع الاتحاد السوفييتي مثلًا - أو لإيقاع الهزيمة (الداخلية) بجيش ونظام دون التعارض مع مواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان التطور التكنولوجي قادرًا على تحقيق (التسلل)، الذي اعتمد عليه الجيل الثالث، ولكن عن طريق (أفكار) و(معلومات) و(أخبار) و(أيديولوجيا) أو بالأحرى (ضد-أيديولوجيا) بدلًا من قوات ثقيلة كالدبابات، فإن التطور المنجَز في الدراسات الثقافية هو الذي يؤهلنا لفهم الجبهة الداخلية للعدوّ من حيث الثقافة والأفكار والمشكلات والعلاقات.. إلخ، فلا يمكن مثلًا أن تسرِّب تكتيكات معينة لمقاومة عناصر الأمن بما يخالف عقيدة المحتجِّين أو ثقافتهم. لذلك فإن العدوّ الأخطر في سياق حروب الجيل الرابع هو الذي ينتمي إلى الثقافة نفسها ومِن أخطر أسلحته العلوم الاجتماعية، وخاصة ما يتصل بتحليل مكونات الثقافة كعلم الاجتماع والفلسفة والأديان المقارَنة والأدب واللغة والتاريخ، إلخ، والتي تلعب دورًا في الحروب لا يقل خطورة حاليًا عن الدبابة أو الصاروخ. النتيجة: أن "تنظيم الدولة الإسلامية" عدوّ من الخلفية الثقافية نفسها بالفعل، حتى مع عدم توفرها على البحوث الاجتماعية، وبالتالي أقدر على خوض مثل هذه الحرب على الأراضي ذات ألأغلبية المسلمة.
جِيل "داعش"
ليس اختيار هذا العنوان أَدَبيَّ الدوافع كما قد يتبادر إلى الذهن؛ فجِيل استراتيجية "داعش" غير سهل التحديد بدءًا، وربما كانت له خصوصية أيضًا. يستعمل "تنظيم الدولة الإسلامية" باختصار استراتيجية معتمدة على سبعة عناصر أساسية:
- الحرب الخاطفة (الجيل الثالث) – في سوريا والعراق خاصةً - والهجمات العسكرية في نقاط محدودة كثيرة متفرقة على الحدود وفي القلب، على هيئة بؤرات ساخنة عميقة التأثير – في مصر مثلًا -.
- الخطاب الديني الأُحادي الذي يقسّم العالَم قسمة قطعية إلى (مع) و(ضد) أفقيًا ورأسيًا: مَعِي ومع الله، ضِدِّي وضد الله.
- تغذية الاستقطاب الديني/الديني كالمسلم-القبطي، والديني/العلماني، وذلك عن طريق قتل الأقباط مثلًا، وهو ما يغذّي صفوف "داعش" نفسها بحصيلة المسلمين ضحية ذلك الاستقطاب والاستبعاد المتبادل.
- الحرب الإعلامية-النفسية، بمختلف عناصرها من إظهار الانتصارات المحدودة وتضخيمها عشرات المرات، بإمكانات تذكرنا بقناة إعلامية خليجية خرجت أيضًا إلى الوجود فجأة بإمكانات هائلة، مع إبراز بشاعة القتل والعقاب.
- الإيغال إلى أقصى حد ممكن في التطرف والأصولية، إلى حد التخلّف، وهو مقصود؛ فبدلًا من الخطاب المعتدل الذي تتبناه جماعات أخرى في الإسلام السياسي، أو محاولات (التقريب بين السنة والشيعة) التي تشغل حيزًا ضخمًا من إنتاج العلوم الإسلامية في إيران مثلاً، ينتهج التنظيم مسلكًا مختلفًا، ليكون أكثر تميزًا وجذرية مما سواهه في سياقه. باختصار يرى التنظيم أن التطرف أقرب إلى تركيز الجهود و"توحيد الأُمّة" من الاعتدال، وهي قفزة جديرة بالدراسة وحدها في فكر الجماعات الإسلامية التي تتمدد إلى هذا النطاق؛ فبينما يتناسب التطرف عكسيًا مع حجم الجماعة لتشمل نسيجًا أعرض هو بطبيعته أكثر تنوعًا، يتناسب معه طرديًا في هذه الحالة.
- تدمير الآثار للقضاء على الهوية قبل-الإسلامية وغير-الإسلامية، وهو ما يمهّد إلى إنتاج أنقاض يمكن أن يُبنَى عليها ما هو جديد وراديكالي. هذه الخطوة مهمة أيضًا لتحطيم مفهوم (الدولة) المستقلّ عن الدين؛ فبدلًا من أن يكون العراق مثلًا "دولة عربية بين-نهرية ذات أغلبية مسلمة" يصير "دولة مسلمة مرتدة يجب إعادة بنائها". وهي كذلك إعادة إنتاج لحالة الجماعة المسلمة الأولى، التي (نقلَ التاريخُ) عنها أنها نشأت في بقعة غير متحضّرة.
- وأخيرًا: استغلال فرصة اهتزاز مفهوم الدولة الذي يزامِن الثورات ويعقبها عادةً؛ فمرحلة الثورة – كالثورات العربية 2011 - مرحلة مفصلية وسهلة (الاختراق)؛ لأنها مرحلة إسقاط شرعية قديمة وإبدالها، وبالتالي فهي اللحظة المناسبة للتدخّل، بعد زعزعة النظام وقبل استقراره مرةً أخرَى.
والجِيل الأقرب إلى هذه العناصر الإستراتيجية كما يبدو هو الرابع؛ كاستعمال سلاح الإعلام والإنترنت، والحشد بالأفكار، واستعمال المدنيين كقنابل بشرية، كلها عناصر مشتركة فعلًا. لكن حرب الجيل الرابع لا تعتمد فقط على هذه العناصر، بل تحركها مع عناصر أخرى في استراتيجية أبعد وأشمل، وتستعمل بالضرورة حركات احتجاجية واسعة النطاق، وهو غائب في الحالة المصرية. وعلى الجانب الآخَر، ورغم أن "تنظيم الدولة الإسلامية" يستعمل فعلًا استراتيجية من الجيل الثالث أحيانًا، إلا أنها في الحالة المصرية لا ترقى إلى التعبير عن نظرية هذا الجيل؛ فالهجمات والتفجيرات "الداعشية" في مصر، برغم وصولها إلى المدن الرئيسية، لم تزل بعيدًا عن الحرب الخاطفة مجردَ هجمات إرهابية، تعاني منها دول كثيرة متقدمة على كل حال. ولكن السؤال: هل (ستستمرّ) في كونها مجرد هجمات إرهابية؟
هل يتحول إرهاب "داعش" في مصر قريبًا إلى حرب جيل رابع؟
كما صدّرنا المقال: لا تجب الاستهانة على الإطلاق بمحدودية هذه العمليات؛ فهي قادرة على ضرب قطاع السياحة الاقتصادي تمامًا مثلاً، وبالتالي إغراق البلد في الديون وإجراءات التقشف المريرة، وزيادة معاناة المصريين. لكن الأمر لا يتوقف بطبيعة الحال عند هذا الحدّ. تتحرك "داعش-مصر" على عدة محاور في آنٍ، أهمها: ضرب الاقتصاد، وتغذية الاستقطاب الديني/الديني والديني/العلماني. إن استهداف الأقباط بالذات تكتيك شيطاني، لا يكاد يخرج إلا من جهاز مخابرات، فهو يزيد الاستقطاب الإسلامي/القبطي، ويجعل الأقباط أكثر نفورًا من العناصر الثقافية العربية والإسلامية، وأقل قدرة بكثير على التواؤم معها، مما يفضي إلى صدام ورفض بين الطرفين. ليس رد فعل الأقباط هو المستهدَف من هذه العمليات، بل رد فعل المسلمين؛ فالمسلم الذي يرفضه القبطي، سيزداد تطرفًا، ويصبح أقل ميلًا للهارمونية الثقافية لصالح الأُحادية، من عدة ألوان إلى "أبيض وأسود"، وسيرى بالفعل هذا التكوين (أبيض-أسود) في المجتمع على هيئة دين ودين آخَر بينهما كراهية عميقة، وربما رغبة في الانتقام، وخوف أعمق. أما على جانب العلمانيين فمن الطبيعي أيضًا أن يزدادوا نفورًا مما هو إسلامي، ثقافيًا واجتماعيًا، وتطرفًا في هذا النفور، خروجًا أيضًا من الهارمونية الثقافية، وهو ما سينعكس على سلوك الإسلامي غير الداعشي، الذي سيصير أكثر تطرفًا بقدر ما يواجهه من رفض له ولما يؤمن به. وستظل دائمًا لقاءات قداسة البابا وفضيلة الشيخ (خبرًا) يطفو على سطح الواقع العميق والغاصّ بكراهيات متبادلة وجروح لا تنام. سيفكر القبطي في الهجرة أضعاف ما سبق له أن فكر، بل سيفكر الجميع فيها، وهو ليس مجرد تفكير، بل هو موقف الانسحاب والخلاص الفردي والعدمية، هذه العدمية التي هي أهم عملات سوق الجريمة والإرهاب والاقتتال الأهلي. لكن التفكير في الهجرة له نتيجة أهم وأبعد هي تغذية اختلال مفهوم الدولة على سبيل "هذه الدولة محطة مؤقتة في حياتنا"، هذا المفهوم الذي لم يتعافَ تمامًا بعدُ زعزعته أثناء الثورة، والذي هو أصلًا مختلّ كما سيلي بيانه في الحالة الإسلامية بالذات.
ومع تراجع مؤشرات الاقتصاد ومؤشرات الهارمونية الثقافية يزيد احتمال الحركات الاحتجاجية واسعة النطاق وربما الثورة، وهذه هي الفرصة التي قد يستغلها "تنظيم الدولة الإسلامية" فعلًا. لقد ضمن التنظيم، خاصةً إذا ما نجحت عمليات أخرى له، أن يُقيم هذه الاحتجاجات أو الثورة في "حالة الطبيعة"، التي عبر عنها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بـ"حرب الكل ضد الكل": اختلال مفهوم الدولة، استقطاب شديد متنوع الأوجُه، فقر، عدمية، تطرف. وهذه الحالة – حالة الطبيعة - هي "اللحظة الداعشية"، ومَعبَر "داعش" مِن عنق الزجاجة المصري إلى حرب الجيل الرابع. هذه هي الحالة التي يمكن فيها تجييش المواطنين عقائديًا وأيديولوجيًا وتوجيههم بشكل مباشر وغير مباشر. ولكن العامل العقائدي، مع خصوصية علاقة الدين والدولة في الإسلام، يجذبنا نحو فرضية أخرى أكثر طموحًا.
هل استراتيجية "داعش" جِيل خامس للحروب مخصص للدول ذات الأغلبية المسلمة؟
ليس من السهل حاليًا الإجابة عن هذا السؤال؛ فهو يفترض بدءًا أن عمليات "تنظيم الدولة الإسلامية" عمومًا محكومة باستراتيجية معينة واضحة، على الأقل على جانب التنظيم، كما يفترض أن هذه الاستراتيجية إن وُجدت تُمْكِن إعادة استعمالها في الظروف المشابهة والملائمة للتحكم في النتائج، أي ليست تكتيكات وليدة اللحظة، كما ليست استثناءً تاريخيًا لحظيًا. ولكن إذا فرضنا جدلًا اعتبارها استراتيجية حقيقية وجيلًا خامسًا بالتالي، فهي تقوم على استغلال ظروف خاصة بالإسلام تحديدًا في مرحلة من عدم استقرار الدولة، أي أنها استراتيجية الحرب في الدول غير المستقرة ذات الأغلبية المسلمة. وإضافة إلى عامل الدين هناك أيضًا عاملان مهمّان للغاية هما: مرحلة اختلال مفهوم الدولة أثناء الثورات وعقبها، ومرحلة الحرب الأهلية. تستغل "داعش" هذه العوامل الثلاثة لصياغة استراتيجية مختلفة نوعيًا عن حروب الجيلين الثالث والرابع؛ ففي مرحلة الحرب الأهلية، وحيث الكل يحمل السلاح، يصير من السهل تحويل المواطِن إلى مقاتِل من حيث المبدأ والإمكان، ونظرًا لأن مفهوم الدولة مختلّ بالفعل في مرحلة الثورة فإن توجيه ذلك المقاتِل المسلم توجيهًا راديكاليًا، وبناءً على مفاهيم ثلاثة أساسية في الأصول الإسلامية هي: الردّة والجهاد وتطبيق الشريعة، لن يكون أسهل منه في ظروف أخرى. وعن طريق التنسيق بين هذه العوامل الثلاثة أمكن ويمكن لـ "داعش" أن تُنتِج جيشًا مؤثرًا بإمكانات متوافرة، ثم أن تلعب بما تكسب، إلى أن تحقق أهدافها. فإذا حاولنا تطبيق هذا النموذج في استقراء استراتيجية "داعش" في الحالة المصرية فإننا نستطيع إلى حدٍ ما تبيّنه؛ فصحيح أن الدولة المصرية مفهوم قائم، لكنه يختلف في درجة استقراره عنه في أوروبا الصناعية المتقدمة مثلًا لعوامل عديدة منها الإسلام نفسه، الذي ارتبط فيه منذ مراحله التكوينية مفهوم الدولة بالدين، باعتبار أن الشريعة هي أساس الشرعية (وهو شعار إسلامي ارتفع في مصر فعلًا لفترة قصيرة في عهد حكومة الإخوان المسلمين)، وبالتالي تفقد الدولة استقلالها أمام الدين، ويصير الدين شرطًا لإقامتها، وبالتالي سلاحًا ممكنًا لهدمها؛ فالهدم ليس له مبرر سوى "إقامة الجديد أو الأَصلِيّ"، وهذا هو الملمح الأبرز في فرضية (جيل داعش الخامس): الحالة الإسلامية مختلفة عن غيرها؛ لأن مفهوم الدولة في الإسلام بطبيعته غير مستقر بسبب تدخل مبدأ "تطبيق الشريعة" و"الدولة الإسلامية".
في النهاية: ما لم توضع استراتيجية مضادة، لمواجهة "تنظيم الدولة الإسلامية" والإرهاب عمومًا، مُركّبَة، تعتمد على سياسات اجتماعية، تقاوم التطرف والاستقطاب في المجال التعليمي والثقافي والإعلامي، إضافة إلى البُعدين الأمني والاقتصادي، وقبل كل شيء ترسّخ مفهومًا مستقلًا للدولة عن الدين، فسوف تكون كارثة يذهب ضحاياها الجميع، ويتذكرها التاريخ طويلًا جدًا.
الهوامش:
[1] William S Lind; Keith Nightengale; John F Schmitt; Joseph W Sutton; Gary I Wilson, The Changing Face of War: Into the Fourth Generation, Marine Corps Gazette (pre-1994); Oct 1989; 73, 10; pp. 22-26.
[2] Idem.