في مشهد درامي يتكرر بصورٍ مختلفةٍ؛ يجلس الديكتاتور أمام ملايين المشاهدين. يلقي عليهم محاضرته الرتيبة. يتحدث عن أوضاع البلاد بعد الثورة وعن الشارع الملتهب بفعل المظاهرات. يتحدث تفصيليًا عن شباب الثورة الذي لا يملك سوى الحماس القاتل والاندفاع المُضِر بصحة الوطن، ولا ينسى أن ينعت أغلبهم بالخيانة والعمالة.
يتحدث عن الحركات الشبابية التي تدربت على يد منظمات أجنبية. وعن السياسيين الذين لا يجيدون سوى رفع الشعارات الجوفاء، ولا يرغبون سوى في الظهور على شاشات وصفحات الجرائد. وعن أساتذة الجامعات محترفي التنظير، الفاشلين في أي تطبيق عملي لنظرياتهم على أرض الواقع. وينهي محاضرته بتحية للقيادات العسكرية التي ساعدته في إنقاذ الوطن من الضياع.
إذا تكرر هذا المشهد أمامك؛ فعليك أن تتوقع النتائج التالية:
الحرب الأهلية
إنها خطة قديمة. اصنع عدوًا كبيرًا ثم قدمه للناس، وتذكر أن الناس لديهم الاستعداد للتضحية بقدر كبير من حريتهم إذا شعروا أنهم في خطر حقيقي، بل الأنكى هو حجم استعدادهم لتقبل الممارسات الدموية للسلطة ما دامت تتم بحق غيرهم.
يسعى الديكتاتور دومًا وراء صناعة عدو له ليحاربه، ثم يطلب من الشعب الاصطفاف معه للخروج من المحنة والمأزق الوهمي، ويجعلهم يشعرون بخطر هذا العدو على أمنهم وسلامتهم واستقرارهم؛ وبالتالي يمكنه تمرير أي شيء تحت هذه المظلة.
ففي الوقت الذي قام فيه فرانسيسكو فرانكو* بانقلاب عسكري على الجمهورية الإسبانية في الثامن عشر من يوليو/تموز عام 1936. استطاع تكوين جيش من 50 ألف جندي مغربي بقيادة الماريشال محمد أمزيان الذي كان بمثابة يده اليمنى، وساعده بشكل رئيسي في جذب الضباط المغاربة وإقناعهم بالانضمام إليه.
وحينها بدأت المواجهات العسكرية بين الجبهة الشعبية المُنقلب عليها، والجبهة القومية بقيادة فرانسيسكو وجيشه، وما لبث الأمر كثيرًا حتى تحولت تلك المواجهات إلى حرب أهلية، انتهت بانتصار فرانسيسكو عام 1939، بعد صراع دام 3 سنوات، وراح ضحيتها ما يقرب من 500 ألف مواطن.
اشتهر فرانسيسكو بكرهه للفن والثقافة، فخلال الحرب الأهلية قامت قواته بإعدام الشاعر الإسباني (لوركا) بتهمة أنه مؤيد للجبهة الشعبية؛ الذي أخبر العالم كله معنى الحرية في قصيدته التي ما زال يحتذى بها كمثال للحرية في الأدب السياسي.
وكان أول ما قام به بعد توليه الحكم كان مطاردة ما تبقى من الجبهة الشعبية وتصفيتهم؛ الأمر الذي دفع كثيرين منهم للهرب خارج البلاد. ولم يسلم من بطشه المثقفون، فكان ممن وضعوا نواة الديكتاتورية بقوله: الديكتاتورية أن تجعل المفكرين والمثقفين يصمتون.
الدولة البوليسية
كل من يعارض الديكتاتور هو خائن للدولة وللشعب. وبالنظر لكل الديكتاتوريات التاريخية سوف نجد أنها اشتركت جميعها في عامل رئيسي واحد، ألا وهو التضخم في أدوار الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الدولة، حتى يشعر المواطن بأنه مراقب وأنه تحت نيران القبضة الأمنية دائمًا.
وكذلك السعي الدائم وراء حظر التجمعات العامة والخاصة، وقد أطلق على هذه النظرية القمعية (كرة الثلج*)، فالاحتجاجات إذا بدأت فلا أحد يمكن أن يتنبأ كيف ستنتهي؛ وبالتالي يكون القرار الأول والأخير لأي ديكتاتور في هذه الحالة عدم التردد قيد أنملة في فتح النار وبقوة على أي احتجاج بغض النظر عن أي خسائر قد تحدث.
ففي عام 1974، وبعد تولي نيكولاي تشاوشيسكو* الحكم في رومانيا أنشئ جهاز السيكوريتات والذي يقصد به جهاز الشرطة السري، وحينئذ تحولت رومانيا إلى دولة بوليسية مهمتها هي البحث عن المعارضين وقمعهم، فمن لا يمتدح النظام يعتبر معارضًا بشكل أو بآخر، ومن كان يطلق النكات على النظام من قريب أو من بعيد يعتبر معارضًا.
واتسمت فترة حكمه بالتقشف الاقتصادي، حتى وصلت سياسته إلى درجة تقنين الخبز، حيث تم تقدير حصة يومية لكل مواطن عليه أن يلتزم بها، وهذه الحصة تقدر بنصف رغيف.
كان كل هذا التضييق سببًا طبيعيًا ودافعًا لقيام ثورة شعبية في رومانيا، كانت بدايتها في مدينة تيميسوارا غرب رومانيا، ومن ثم تسربت إلى العاصمة بوخاريست ومن ثم إلى رومانيا كاملة، وتم القبض فعليًا على تشاوشيسكو، ووجهت له تهم عديدة، أبرزها الإبادة الجماعية للثوار، وتدمير اقتصاد رومانيا، وعليه تم إعدامه رميًا بالرصاص أمام عدسات التلفزيون.
حاشية الديكتاتور
لا يمكن لأي ديكتاتور الحفاظ على السلطة وهو يعادي الجميع، لذلك يصنع طبقة من حوله يختصهم بالمميزات السياسية والاقتصادية، ويربط مصالحهم دومًا ببقائه.
فـ (من جاور السعيد يسعد)، هذا المثل يطلق على أهمية مجاورة ومصاحبة السعداء لكي تسعد، تلك هي نفس القاعدة التي تسير على الديكتاتوريات، فمن جاور الديكتاتور يجب أن يكون ديكتاتورًا مماثلًا له.
وصفحات التاريخ السوداء لن تنسى تسجيل رافائيل ليونيدس تروخييو* الذي تولى حكم جمهورية الدومينيكان الواقعة في منطقة البحر الكاريبي، في الـ30 من أغسطس/ آب عام 1930. حكم تلك الجزر ما يربو على 30 عامًا، وحوّلها لمستعمرة خاصة به وبأقربائه، ليكون هو الحاكم الأوحد وأبا الوطن والحاكم الإله.
بدأ حكمه بحملة واسعة لمحو كل آثار التاريخ الذي سبقه، واستبداله باسمه وببصمته. غيّر تروخييو اسم العاصمة (سانتو دومينغو) لتصبح مدينة (تروخييو)، وسرعان ما اختفى مصطلح الحكومة والمعارضة، فكل شيء بات باسم الزعيم، كل فرد إما أن ينتمي للزعيم، وإما يكون من الخائنين.
لم يكتف تروخييو بكل هذا، بل أوحى إليه أحدُ أتباعه المخلصين بأنه هو الحاكم الإله، والأب الروحي للوطن، وعليه اتجه لجمع الفتيات العذراوات وفض بكارتهنّ على يديه.
بل بلغ الحد به إلى أن يقضي لياليه مع زوجات وزراءه وأعضاء حاشيته، وكان أزواجهنّ الرجال يخرجون من البيوت في اللحظة التي يدخل فيها ليمارس الجنس مع زوجاتهم.
يُقدر عدد ضحاياه بأكثر من 50 ألف نسمة، حيث بالغ في التعذيب والقتل الجماعي، فما زال صدى مذبحة بارسلي التي قُتل فيها ما يقرب من 30 ألف هاييتي كانوا يعيشون بين أهالي الدومينيك يتردد حتى وقت قريب.
*الجنرال فرانكو: بعد مرور أربعين عامًا على وفاته، لا تزال إسبانيا تعيش على إرث الحرب الأهلية. مقال تم نشره على الإندبندنت لكاتبه الإسباني أليستير دوبر.
*دراسة بحثية أُعدت بجامعة أوكسفورد الإنجليزية ببريطانيا تحت عنوان (القمع والاحتجاج السياسي)؛ الصادرة عام 1990.
*25 عامًا بعد تشاوشيسكو، ديكتاتور لا يزال يلقي ظلامًا على رومانيا. تقرير أعدته المراسلة الدولية (ثريا نيلسون) لشبكة NPR الإخبارية الألمانية. لمزيد من الاطلاع في ذلك الصدد يمكنك الاطلاع على كتاب رومانيا: ثورة أم انقلاب؟
*كتاب (تروخييو: لمحات من حياة الديكتاتور الكاريبي)، للكاتب روبرت د.كراسويلر والمنشور عام 1966>