لا تزال الثمانينية إخلاص حلمي، وهي أقدم مالكي العوامات السكنية على نهر النيل، تنتظر بيع عوامتها التي أُخرجت منها مرغمة قبل عام، بعدما قضت حياتها فيها، وباعت من أجل الإنفاق عليها 3 منازل في حي الزمالك.
تستعيد إخلاص، فيما تتحدث للمنصة، ذكريات عمرها في العوامة. تقول المرأة التي شارفت على الـ90 عامًا "أنا مولودة في النيل" داخل عوامة والديها، التي كانت ترسو في الكيت كات، وتضيف "صرفت عليها دم قلبي".
وعوامة إخلاص أو العوامة رقم 77، نقلتها الحكومة قبل عام، قرب السيرك القومي في الكيت كات أيضًا بصورة مؤقتة، رفقة 3 عوامات أخرى، فيما انتقلت هي للعيش في وحدة سكنية بالإيجار لمدة سنة قابلة للتجديد في حي الزمالك، اختارتها بنفسها، وتُسدد عنها الإيجار وزارة التضامن الاجتماعي.
"الحكومة هي اللي بتدفع الإيجار.. السنة هتخلص الشهر ده والمفروض إنها تجدد التعاقد"، تقول إخلاص، بينما تشكو من عدم تمكنها من توصيل خدمة التليفون الأرضي؛ لعدم حصولها على نسخة من عقد الإيجار.
حتى لا تبيع
بينما تضطر إخلاص لبيع عوامتها بعد إخراجها منها، تنتظر جارتها الكاتبة والأديبة الدكتورة أهداف سويف، الحصول على التراخيص اللازمة لتحويل عوامتها إلى نشاط تجاري "إحنا 6 عوامات على تواصل مع بعض، وعايزين نعمل شيء مشترك"، تقول للمنصة.
وبالنسبة لأهداف فإنها ليست في انتظار مشترٍ كما في حالة إخلاص، بل مرسى، وهو أمر يتطلب الكثير من الموافقات والبحث. وبعد عام من البحث تشير أهداف إلى العثور على مكان مناسب، مثنية على التعاون الذي وجده أصحاب العوامات من جهاز الأراضي التابع للقوات المسلحة، والأمر نفسه من وزارة الري حاليًا.
وأُسندت إدارة أراضي طرح النهر والعائمات، من شبرا حتى حلوان، إلى جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، والأخير طرح في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، قطع أراضٍ في الزمالك والعجوزة والدقي، وجاردن سيتي والمنيل، ودار السلام والمعادي والمعصرة، والمنيب وإمبابة والوراق، بنظام حق الانتفاع السنوي، في مزاد علني.
ويشترط قانون الموارد المائية رقم 147 لسنة 2021، الحصول على ترخيص من وزارة الري نظير رسو أي من العوامات بأنواعها المختلفة على شاطئ النيل وفرعيه أو أي مجرى مائي عام.
كما تحظر المادة 65 من القانون نفسه إقامة أي منشآت سياحية أو نوادٍ أو غيرها في منطقة مجرى نهر النيل وفرعيه إلا بترخيص من الوزارة، وطبقًا لاشتراطاتها.
تُفسر أهداف موقفها بالاتجاه إلى ترخيص عوامتها بدلًا من بيعها قائلة "العوامات مكان جميل وتراثي يصعب عليك تكسره وتبيعه خردة"، مضيفة "هي أيضًا أصول، لها ورق ووضع قانوني، غير الخردة فلا تكون قيمتها قيمة الحديد بتاعها".
ومثل أهداف تقول نعمة محسن صاحبة العوامة رقم 66 "لا نزال نناضل"، بينما تصف المحاولات الجارية للحصول على مرسى وترخيص بمزاولة نشاط تجاري، يُعيد عوامتها للحياة مجددًا.
وأضافت للمنصة أن أغلب العوامات "ماتت للأسف.. اتباعت خردة بأسعار زهيدة"، بينما البقية، التي تُقدرها بنحو 10 عوامات، تتمسك بالبقاء، وإن كان بنشاط آخر.
وبينما انتقلت عوامتا إخلاص وأهداف إلى مكان حكومي مؤقت، اختارت نعمة نقل عوامتها إلى مكان خاص؛ خوفًا عليها من "البهدلة والسرقة التي طالت بعض العوامات الأخرى"، على حد قولها.
ماذا حدث؟
قبل مطلع يونيو/حزيران 2022، كانت حياة إخلاص مستقرة، حتى أرسلت وزارة الري خطابات إلى ملاك العوامات السكنية، وهي منهم تنذرهم بإزالتها، بدعوى أنها "مخالفة وغير مرخصة".
ومنذ ذلك التاريخ إلى "السرقة والبهدلة" التي طالت العوامات على حد وصف نعمة، حلقات عدة، بدأت وزارة الري الإزالات لـ32 عوامة، على ثلاث دفعات، كانت الدفعة الأولى في 18 يونيو بإزالة ثلاث عوامات قالت الحكومة إنها تتبع قيادات جماعة الإخوان، ثم الدفعة الثانية في 28 يونيو بإزالة 11 عوامة بالتنسيق مع أصحابها وبمعرفتهم.
وكانت الدفعة الأخيرة من الإزالات في 4 يوليو/تموز 2022، وشملت 14 عوامة، من بينها عوامة إخلاص. بدأت تلك المرحلة في التاسعة صباحًا وانتهت في اليوم التالي بعوامة الثمانينية إخلاص التي أثارت مقاطع لها تفاعلًا كبيرًا على السوشيال ميديا، حتى تدخل الرئيس وأمر بتأجير شقة لها، وكانت تستغيث وتتمنى أن يتركوها تموت في عوامتها، كما عاشت عمرها كله فيها.
غرامات ضخمة
لم تكن الإزالات وحدها همّ ملاك العوامات السكنية، إذ فُرضت عليهم غرامات ضخمة، زادت في بعض الأحيان عن مليون جنيه.
تقول أهداف إن "ملاك العوامات كانوا يسددون رسومًا معينة إلى 3 جهات للحصول على رخصة ملاحة، وري، وأملاك دولة، وفي 2017 رفعوا قيمة الرسوم 20 ضعفًا تقريبًا، فحاولنا التفاوض واتجهنا للقضاء، وأرسلنا استغاثات والتماسات وطلبات، ولم نصل إلى حل، والحكومة امتنعت عن تحصيل الرسوم، التي تراكمت في النهاية إلى غرامات ضخمة".
وتشير أهداف إلى أن مفاوضات أصحاب العوامات، والجهات المعنية، توصلت إلى تخفيض قيمة الغرامات بنسبة 50%، "أنا كان مطلوب مني مليون جنيه!".
وقُدرت غرامة عوامة نعمة بنحو 750 ألف جنيه، بينما حصلت إخلاص على إعفاء من سداد الغرامة المفروضة على عوامتها، قائلة "الريس أعفاني من الغرامة"، ولا تتذكر جيدًا قيمة الغرامة بينما أشارت إلى أنها "كانت مبلغ كبير".
ذاكرة العوامات
وإن كانت ذاكرة الثمانينية إخلاص تدور معظمها في فُلك العوامة التي ولدت وعاشت فيها، فإن ذاكرة العوامات تحمل ما هو أكثر، إذ يعتقد الكاتب المسرحي الراحل عصام نبيل، في ورقة له حول تاريخها منشورة في العام 2010، أن الظهور الأول للعوامات السكنية كان في العام 1870، بعضها كان ثابتًا إلى جوار ضفاف النيل، والآخر كان يُحركها موتور وتسمى "ذهبية".
تأمل إخلاص أن تبيع عوامتها لمن يستغلها على نحو يصنع لها ذكريات جديدة
وخلال تلك السنوات لم يكن قرار الحكومة الأخير بإزالة العوامات لكونها تتعدى على النيل الأول من نوعه، إذ قرر وزير الداخلية في الستينيات زكريا محيي الدين نقلها من الزمالك والعجوزة إلى منطقة إمبابة، وذلك في العام 1966، وكان عددها يُقدر آنذاك بـ500 عوامة، بحسب نبيل وفق الورقة البحثية.
وأضاف "لم ينل ذلك استحسان الأثرياء والباشوات الذين رفضوا الانتقال إلى المنطقة التي اعتبروها شعبية، فاضطروا إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة أو تركها لمصيرها".
وكانت العوامات السكنية مسرح غناء شريفة فاضل وألحان فريد الأطرش ونكات نجيب الريحاني، بحسب الكاتب المسرحي، مشيرًا إلى أنها "شهدت بل شاركت في حكايات وأحداث لا نهاية لها".
يذكر نبيل مثلًا العوامة رقم 66 التي كانت للفنانة منيرة المهدية، واشتهرت بأنها كانت مقصد كبار المسؤولين ورؤساء الحكومات في عهود مضت، ونقل عنها أنه "لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد، ولكن أحدًا لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي".
ومن أشهر العوامات أيضًا كانت عوامة الراقصة اللبنانية بديعة مصابني وزوجها نجيب الريحاني، التي كانت تستقر مقابل شيراتون القاهرة خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وكانت قبلة النجوم من الفنانين مثل المطرب محمد عبد المطلب، وتحية كاريوكا، والراقصة سامية جمال، وأسمهان، وفريد الأطرش، كما كانت مزارًا دائمًا للساسة الكبار خاصة.
وظهرت العوامات السكنية أيضًا في العديد من الأفلام السينمائية ومنها "أيام وليالي" حيث غنى عبد الحليم حافظ "أنا لك على طول"، وأيضًا فيلم صعيدي في الجامعة الأمريكية.
لا تحتاج إخلاص إلى قراءة كل ذلك التاريخ الخاص بالعوامات، إذ يكفيها تاريخها فيه، وتأمل في أن تبيعها لأحد يستغلها على نحو يصنع لعوامتها ذكريات جديدة.