في فترة مظلمة من التاريخ، ولكنها ليست بعيدة جدًا عن عصرنا الحالي، حاولت عدة دول فرض سيطرتها على العالم في الحرب العالمية الثانية. شهد العالم في هذه الحرب اضطهاد منظم تجاه العديد من البشر، سواء على أساس الدين، مثل استهداف اليهود، أو على أساس العرق، مثل استهداف الغجر والأفارقة ومحاولات إبادتهم جماعيًا، ولكن ما كانت تشترك فيه جميع الأطراف، وما كانت تتساوى فيه جيوش الحلفاء والمحور هو العنف ضد المرأة.
كثيرًا ما تتجاهل الدراسات المكتوبة عن الحرب هذا الجانب، ورغم مرور السنوات لم تتم تحقيقات كافية عن مظاهر العنف ضد المرأة، كثيرًا ما يعود هذا التجاهل إلى الخجل من ذكر تلك الحوادث.
اليوم، وبينما تجري فعاليات حملة "16 يوم ضد العنف على أساس النوع"، نكتب عن ثلاث قصص مخجلة عن مظاهر العنف ضد المرأة في الحرب العالمية الثانية، لأننا لا يمكن أن نعالج مظاهر العنف الحالية ونمنعها من الحدوث في المستقبل إلا بدراسة الحوادث البشعة الماضية.
1. المتعاونات مع النازي (النوم مع العدو)
البداية من فرنسا، حيث عاد فيها نشاط يعود إلى القرون الوسطى في أوروبا، وهو حلق شعر النساء تمامًا، وإجبارهن على المشي عرايا في الشوارع وقذفهم بالطوب، وذلك عقابًا لهن على التعاون مع العدو الألماني.
في فترة الاحتلال الألماني النازي لفرنسا بين عامي 1940 و1944، قامت العديد من النساء الفرنسيات، وغيرهن من دول أوروبا المحتلة آنذاك، بالتعاون مع جنود الاحتلال، وذلك بممارسة الجنس معهم، سواء استسلامًا لقوتهم وسيطرتهم وخوفًا من التنكيل بهن، أو مقابل المال إذ شحًت مصادر أموالهن بعد موت أزواجهن في الحرب، وأدت هذه العلاقات إلى ولادة الآلاف من الأطفال الفرنسيين الألمانيين. تمت معاقبة أكثر من 20 ألف امرأة، وإن رجحت المصادر ارتفاع أعدادهن نظرًا لعدد المواليد.
عوقبت النساء في محاكمات غير رسمية، وبدون النظر إلى دفاعاتهن، رغم تأكيد بعض النساء أن العلاقة الجنسية تم بالإجبار، وفي بعض المناطق تم قتل العاهرات اللواتي وافقن على التعامل مع النازي. وامتد ذلك العقاب في البلاد الأخرى التي احتلها الألمان، مثل بلجيكا.
بالإضافة إلى هذا التعاون المنفرد الذي تقوم بها بعض النساء مع الاحتلال الألماني، اعتمد الجيش الألماني بشكل رسمي على بيوت الدعارة الفرنسية ليقضي الجنود متعتهم الجنسية. ويؤكد المؤرخ الألماني فريتز زيلدر أن النساء الأجنبيات اللواتي عملن في هذه البيوت، سواء فرنسيات أو غيرهن، جاءوا للعمل بإرادتهن، ولكن في دراسة أخرى لأستاذة علم الاجتماع بجامعة ريزنبورج للعلوم التطبيقية روث زيفرت، تم تأكيد أن بعض هؤلاء الفتيات أجبرن على العمل في هذه البيوت، وذلك وفقًا للاتهامات الموجهة للضباط النازيين في محاكمات نورنبيرج بعد الحرب. من الجدير بالذكر أن القيادة العليا للجيوش الألمانية كانت تمنح للجنود كروت زيارة لهذه البيوت، وصدر قرار منهم بمنع الممارسات الجنسية مع النساء الفرنسيات غير العاملات بهذه البيوت.
بالعودة إلى عقاب النساء الفرنسيات الذي تلا تحرير فرنسا، فلم تجر تحقيقات كافية عن تلك الحوادث حتى الآن، على الرغم من أنها صارت وصمة عار في تاريخ فرنسا.
في عام 2008 قال وزير الخارجية الفرنسي ساعتها برنارد كوشنار إن الجروح بين ألمانيا وفرنسا لم تندمل بعد، وأكد أن الأطفال الناتجين عن الحرب ما زالوا حتى الآن يطالبون بتحديد هويتهم. وفي عام 2009 سمحت وزارة الخارجية الألمانية لمن يقدم مستندات تثبت جنسية والده الألمانية وقت الحرب أن يحصل على الجنسية الألمانية. وبناءً على ذلك حصلت الفرنسية "دانييل روكسويل" على الجنسية الألمانية، لتكون أول طفلة حرب تحصل عليها.
2. نساء لمتعة الجيش الياباني
"كانوا يصرخن أثناء الليل في نداء متصل لأمهاتهن" هكذا تختم الكورية "كاميكو كانيدا" قصة اختطافها من القوات اليابانية للعمل بالقوة في معسكرات المتعة، حيث واجهت عدة مشاكل حينما كانت ترفض الممارسات الجنسية، وتعرضت نتيجة لذلك لطعنة بصدرها، وكسر بيدها، فيما بعد شاهدت كاميكو مراهقات يجبرن أيضًا على العمل كنساء متعة، ولكن لعدم نمو أعضائهن التناسلية بشكل كاف تعرضن إلى الجروح والأمراض المختلفة وقضوا الليل يصرخن.
تعود هذه التفاصيل إلى الجانب الثاني من العالم، وبينما حدثت قضية النساء المتعاونات في فرنسا، فمثلما خصصت ألمانيا بيوت دعارة لجنودها في فرنسا، حاولت اليابان حل مشكلة التوتر الجنسي لجنودها، ونتج عن ذلك حركة كبيرة تم فيها تجنيد العديد من النساء الذين أطلق عليهن "نساء المتعة" أو "إيانفو"، من الدول التي قام الجيش الإمبراطوري الياباني والذي يبلغ عدد جنوده أكثر من مليون رجل باحتلالها، مثل الصين، كوريا، الفلبين، بورما، وغيرها من الدول والمناطق، ووصل عدد النساء الذين تم تجنيدهن في هذه المعسكرات حسب عدة تقديرات من 20 ألف إمرأة حتى 300 ألف إمرأة، ويوضح التباين في الأرقام عدم التحقيق الكافي في هذه المسألة، وحسبما أكد أستاذ التاريخ الياباني المعاصر بجامعة طوكيو يوشياكي يوشيمي، اعتمادًا على عدة وثائق تعود لفترة الحرب، وجدها في التسعينات، قام الجيش الياباني بإنشاء عدة معسكرات ومحطات للمتعة من أجل الجنود، وذلك خوفًا من تفشي الأمراض بينهم، أو حدوث احتجاجات بسبب احتياجاتهم الجنسية، وانقطاعهم عن أسرهم لفترة طويلة.
تعود بداية إنشاء "معسكرات المتعة" إلى عام 1932، في شانجهاي بالصين، حيث قام الجنود اليابانيين باغتصاب 233 إمرأة، فحاول الجنرال أوكامورا يوساجي حل المشكلة، وطلب من الجيش إرسال نساء متعة إلى جنوده في الصين حتى يتوقف الاغتصاب، في البداية كان النساء من البغايا اليابانيات اللواتي تطوعن لأداء خدمتهن الوطنية تجاه الجنود، ولكن بعد ذلك احتاج الجيش إلى عدد أكبر من النساء، فقام بالإعلان عن عدة وظائف وهمية، فتقول مثلا الكورية "باك" ( اسم مستعار ) إنها كانت في السابعة عشر من عمرها، عندما قامت مكاتب كورية بأوامر يابانية بتوظيف عدة كوريات للعمل في عدة مصانع، كان على أحد من عائلة "باك" أن يذهب، فذهبت هي وعدد من النساء الأخريات، وتم تسليمهن إلى اليابان، حيث قام اليابانيون بترحيلهن إلى الصين للعمل في معسكرات المتعة.
في 4 أغسطس/آب عام 1993، وبعد رفع عدة نساء كوريات دعوى قضائية ضد الحكومة اليابانية، قام أمين مجلس الوزراء الياباني حينذاك يوشي كونو، بتقديم بيان، عرف فيما بعد باسم "بيان كونو"، اعترفت فيه اليابان للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، باستخدام نساء المتعة وإنشاء معسكرات لذلك تم فيها إجبار النساء على ممارسة الجنس مع الجنود، مما يعد جرحًا كبيرًا لشرفهن وكرامتهن.
اُعتبِر البيان اعتذار من اليابان تجاه نساء المتعة اللواتي أجبرن على ذلك، ولكن في عام 2007 قام رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي بإنكار أن يكون الجيش الياباني قام بإجبار النساء على ممارسة الجنس، ثم قال: "كان هناك إجبار في إطار المفهوم الواسع (الإجبار على أساس العقد مع مؤسسات الدعارة) ولكنه لم يكن هناك إجبار في إطار المفهوم الضيق (الإجبار من قبل الجيش)".
فيما بعد وفي عام 2014، قررت اليابان تشكيل فريق لمراجعة الخطوات التي أدت إلى إصدار بيان "كونو" بعدما قال أحد واضعي البيان إن إفادات النساء لم تُراجع بشكل كاف.
مازالت القضية مثيرة للجدل حتى الآن، وتنطلق المظاهرات دائمًا للمطالبة باعتذار رسمي من الحكومة اليابانية، وتقديم التعويضات المالية اللازمة، وتشارك في هذه المظاهرات بعض النساء اللاتي تعرضن وأجبرن على ممارسة الجنس في الحرب العالمية الثانية، في إطار معسكرات المتعة، وذلك في بلاد مثل كوريا الجنوبية والفلبين وتايوان.
3 - اغتصاب برلين الكبير
بينما تنفس العالم الصعداء في منتصف عام 1945، بعد انتهاء كابوس الحرب العالمية الثانية، وانتحار هتلر ومعاونيه، وانتهاء قوة دول المحور فعليًا في معظم بقاع الأرض، وبينما كان العالم يأمل في حلول السلام، بدون اضطهاد لفئات معينة من البشر، كان الوضع مختلفًا في برلين، فبعد أن قام الحلفاء بتدمير المدينة، حدثت جريمة بشعة في عاصمة ألمانيا، ولكن هذه المرة فالطرف المُدان ليس النازيون، ولكن قوات الحلفاء، التي دخلت ألمانيا أخيرًا بعد حرب ضارية استمرت لخمس سنوات. كان ضحايا الجريمة كالعادة هم النساء، إذ قامت القوات السوفيتية والأمريكية باغتصاب عدد كبير من النساء الألمانيات، إذ وصل عدد الضحايا إلى 2 مليون إمرأة، فيما عُرف بـ "اغتصاب برلين".
مثل معظم الأحداث المذكورة في التقرير، هناك اختلافات كبرى حول عدد الضحايا، بين المؤرخين، سواء من السوفييت، أبرز المتهمين، الذين اعتبروا الأرقام مبالغ فيها، أو غيرهم، خاصة أن هذه الأحداث ليست مثل الأحداث الأخرى التي تم توثيقها بالصور، ولكن هناك عدة دلائل تشير إلى تفاصيل هذه الاغتصابات.
يؤكد المؤرخ العسكري البريطاني أنتوني بيفر في كتابه "سقوط برلين"، وحسب شهادات عدد من الجنود السوفييت وشهادات بعض الألمانيات اللواتي تعرضن للاغتصاب، أن حوادث الاغتصاب "وقعت لنساء من سن 8 سنوات حتى 80 سنة". وذكر أن الضباط السوفييت كانوا مقتنعين بأن تلك الممارسات تمت برضا الألمانيات لسعادتهن أخيرًا بتحريرهن من النازي.
يحكي أيضًا الجندي السوفييتي فلاديمير جيلفاند، في مذكراته عن دخوله إلى برلين، عن حالة الغضب التي انتابته من زملائه في الجيش، إذ كانوا يسعون إلى معاقبة النساء الألمانيات على ما قام به الجيش الألماني من قبل، حتى وصلت رغباتهمم إلى طعن النساء في أعضاءهن التناسلية.
وفي محاولة بسيطة لتوثيق هذه الأحداث، تم نشر مذكرات تحت عنوان "امرأة في برلين: 8 أسابيع في مدينة محتلة" عام 1959، تحكي فيه الكاتبة مجهولة الأسم ذكرياتها في برلين أثناء سقوط المدينة في يد الحلفاء، وتعرضها للاغتصاب الجماعي بواسطة عدد من الجنود السوفييت، ثم قرارها الحصول على الحماية عبر الدخول في علاقة عاطفية مع ضابط سوفييتي، كما فعلت ذلك العديد من الألمانيات أيضًا.
تم اعتبار الكتاب "تلويث لسمعة المرأة الألمانية"، وعلى إثر ذلك قررت الكاتبة المجهولة، عدم نشر الكتاب مرة أخرى في حياتها، حسبما قال الكاتب الألماني هانس إنتزنسبيرغر، الذي قرر نشر الكتاب عام 2003 مرة أخرى بدون نشر اسم الكاتبة، ولكن بعد ذلك قام المحرر جينس بيسكي بالكشف عن اسم الكاتبة، وهي الصحفية الألمانية مارتا هيلرز، والتي توفيت عام 2001.
تصدر الكتاب قائمة الأكثر مبيعًا لمدة 19 أسبوعًا في طبعته الثانية، كما اختارته مجلة نيويورك تايمز كاختيار المحررين، وتم تصوير فيلم ألماني يقتبس قصة الكتاب تحت عنوان "سقوط برلين: مجهولة" وحقق أرباح وصلت إلى 219 مليون دولار.
كما ذكرت الصحفية والكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش، الحاصلة على جائزة نوبل للأدب في كتاب "وجه الحرب غير النسائي"، شهادة ضابط سابق بالجيش الأحمر، قال فيها:
"كنا صغارًا، أقوياء، وعشنا لمدة 4 سنوات بدون نساء، لذلك كنا نحاول اصطياد النساء الألمانيات. 10 رجال اغتصبوا امرأة واحدة. لم تكن هناك نساء بالقدر الكافي، جميع السكان هربوا من الجيش السوفييتي، لذلك أخذنا فتاة صغيرة، بين سن الثانية عشر والثالثة عشر، ولو بكت كنا نضع شيء في فمها. كنا نعتقد إن هذا مضحك. الآن لا أفهم كيف قمت بهذا، لقد نشأت في عائلة طيبة، ولكن هذا ما كنته أثناء الحرب".
في شهادة أخرى من نفس الكتاب تروي عاملة تليفونات من الجيش السوفييتي شهادتها وتقول:
"عند احتلالنا لأي مدينة، كان هناك ثلاثة أيام للنهب والاغتصاب. لم يكن هذا رسميًا بالطبع، ولكن بعد الأيام الثلاثة فمن يفعل ذلك يمكن أن يتعرض لمحاكمة عسكرية... أتذكر امرأة ألمانية تم اغتصابها، تجلس عارية، وتضع يديها بين قدميها، الآن أشعر بالخجل من ذلك، ولكن ساعتها لم أشعر بالخجل على الإطلاق. هل تعتقدين أنه كان من السهل علينا مسامحة الألمان؟ لقد كرهنا رؤية منازلهم بيضاء ومزينة بالورود وغير مدمرة. أردت أن أراهم يعانون، أردت رؤية دموعهم، عشر سنوات كان عليها أن تمر لأبدأ بالشعور بالشفقة نحوهم".
وفي محاولة أخرى لتوثيق الأحداث نشر المؤرخان الألمانيان رينر جريس وزيلكة زاتكو، كتابهما "اللقطاء.. أطفال احتلال ألمانيا بعد 1945"، الذي حاولا فيه توثيق شهادات الأطفال الألمان الذين ولدوا بعد سقوط ألمانيا، الذي وصل عددهم، بحسب تقدير الكاتبين إلى 300 ألف طفل. وصل سن معظم هؤلاء الأطفال الآن إلى 70 عامًا، ولكنهم ما زالوا يبحثون عن آبائهم وهويتهم الضائعة.
ورغم أن أصابع الاتهام توجه بشكل أكبر إلى الجيش السوفيتي، يذكر أستاذ علم النفس والجريمة بجامعة كنتاكي الشمالية جيمس ليلى في كتابه "ما أخُذ بالقوة"، أن القوات الأمريكية قامت أيضًا بعمليات اغتصاب متعددة للنساء في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ووفقًا للوثائق التي ذكرها وصل عدد الضحايا من النساء إلى 14 ألف إمرأة.