دعونا نكن صرحاء. فنحن جميعًا عندما ندخل إلي محطات التزود بالوقود، أو نفتح الباب لمحصل الكهرباء، أو نلقي نظرة على فواتير الغاز أو نركب الميكروباص، ينتابنا نوع من الغضب والخوف من المستقبل، مهما كانت ميولنا السياسية أو تأييدنا من عدمه لنظام الحكم الحالي، وأيًا كان إنتماءنا الطبقي أو مستوى دخلنا. هذا لأن كل فرد في الحقيقة يشعر حينها أن جزء ما من رفاهيته -المحدودة أساسًا- وأن أسلوب حياته قد سُلبا منه. وأنه صار مُجبرًا على التخلي عن شيء ما كان معتادًا عليه من قبل، في مقابل التزود بالوقود أو الإمداد بالكهرباء والغاز، بعد أن أعلنت الحكومة عزمها على رفع الدعم عن مُنتجات الطاقة تدريجيًا، وبدأت فعليًا في تنفيذ ذلك المخطط منذ حكومة الببلاوي في 2013.
هذا بالطبع مع الأخذ في الاعتبار أن هناك فئات وشرائح عديدة في المجتمع المصري لن تتمكن من تغطية ما ستتكلفه هذه الزيادات، مهما استغنت عن سلع أو خدمات غير أساسية.
وهناك في الواقع نظريتان متضادتان في هذا الصدد تقول الأولي منهما – وهي وجهة النظر المُعلنة للحكومة – أن رفع الدعم عن مُنتجات الطاقة ضرورة. ليس فقط لتقليص عجز الموازنة المتفاقم؛ ولكن أيضًا لتحقيق العدالة الاجتماعية، على اعتبار أن دعم الطاقة حسب قول هؤلاء: غالبًا ما يذهب إلي جيوب الأثرياء وأفراد الطبقة المتوسطة بأنواعها، لما كانوا هم الأكثر استهلاكًا للطاقة.
أما الرأي الثاني فيذهب إلي أن إلغاء الدعم على الطاقة يتسبب بالضرورة في رفع أسعار البضائع والخدمات كافة، لكونها جميعًا ترتبط - بطريقة أو بأخري- بأسعار الوقود في النقل، وبتعريفة كل من الكهرباء والغاز كمدخلات صناعية لازمة لإنتاجها. وبالتالي؛ تكون أسعارها سيفًا مسلطًا على رقاب الجميع، وبالأخص الفقراء الأقل قدرة على امتصاص الفوارق.
وجهتي النظر في الحقيقة لهما ما يدعمهما وما يعارض كلتيهما. فنحن عندما ندعم الكهرباء بشكل مُطلق، ففي الحقيقة ندعم أيضًا: إنارة حمامات السباحة في فيلات وقصور الأغنياء، وندعم وقود السيارات المرسيدس والــ BMW وخلافها من الأنواع الفارهة، بمبالغ تفوق بوضوح ما يذهب لدعم اللمبات العارية في منازل الفقراء، ووقود السولار الذي تحتاج إليه سيارات الميكروباص التي تنقل هؤلاء من بيوتهم المتواضعة إلي محال عملهم.
ويطالب أنصار وجهة النظر هذه بشكل عام بالتحول من الدعم العيني (دعم أسعار السلع المختلفة) إلي الدعم النقدي (صرف مبالغ نقدية للأسر المُحتاجة).
ولكن من جانب آخر، توجد حلول بسيطة لتفادي مشكلة سوء توزيع الدعم أو عدم توصيله لمستحقيه الفعليين، دون المساس بمحدودي الدخل. ولا يوجد سبب منطقي لعدم الأخذ بتلك الحلول، بديلاً عن الإصرار على سياسات أقل ما توصف به: أنها سياسات إفقار للسواد الأعظم من الشعب المصري.
ويأتي في مقدمة هذه الحلول تثبيت سعر بيع الطاقة الكهربائية للشرائح الأقل استهلاكًا عبر دعمها دعمًا كاملًا، وتحميل الفارق على كثيفي الاستهلاك للطاقة (فوق مستوي 1500 كيلووات / ساعة في الشهر على سبيل المثال)، سواء مستهلكي الطاقة المنزلية أو الصناعية، مع وضع الضوابط القانونية اللازمة التي تضمن خصم هذه التكلفة من هامش أرباح الشركات - في حالة الصناعة- بدلاً من رفع سعر المُنتج، وخاصة بالنسبة لصناعات السلع الاستراتيجية مثل السلع الغذائية الأساسية ومواد البناء.
ويكتسب هذا أهمية خاصة في ظل المنظومة الحالية، التي حددت أعلي شريحة للكهرباء بــ 1000 كيلووات / ساعة في الشهر. وهو تقسيم يفتقر إلى أدنى معايير العدالة في توزيع الأعباء، ويعطي ميزة نسبية كبيرة للطبقات فاحشة الثراء.
ويجب أيضًا أن يُحظر في هذا السياق حظرًا باتًا، تقديم أي دعم للمصانع على الطاقة المُنتجة من الوقود الأحفوري بأنواعه، مثل الغاز ومشتقات البترول.
كما يُمكن ببساطة رفع الدعم بالكامل عن وقود السيارات الفارهة (بنزين 95) وتقليصه على بنزين 92 بما لا يزيد عن 50% من مستويات ما قبل 3 نوفمبر 2016، لمدة لا تقل عن 3 سنوات. أما بالنسبة لكافة أنواع الوقود الأخري (سولار وبنزين 80) فيظل كما هو دون تغيير لمدة لا تقل عن 5 سنوات على أسعار صباح يوم 4 نوفمبر 2016، أي بعد الزيادة الأخيرة.
وفي هذه الحالة ستنتفي تمامًا مبررات الحكومة لتخفيض الدعم على الطاقة، التي هي في جوهرها لا تتعدى الرغبة في تخفيض عجز الموازنة، الذي يعود إلى أسباب عديدة أخرى بخلاف الدعم، مثل ضخامة الانفاق الحكومي ومشتريات السلاح المُبالغ فيها بشكل واضح، وما شابه.
ولا ننس هنا بالطبع ضرورة زيادة الاستثمار في توظيف مصادر الطاقة المتجددة (خاصة الشمس والرياح)، بحيث يمكن إتاحتها للجميع بأسعار مقبولة، لكون مشروع تعريفة التغذية الحالي سيُقصر استخدامها على الأغنياء فقط.
أما قضية التحول من الدعم العيني إلي الدعم النقدى، فهي قضية تتعدي بكل تأكيد مجرد دعم الطاقة، ولا يتسع المجال هنا للتعرض لها تفصيلاً. ولكن إشكاليتها الأساسية هي أن الدعم النقدي لا يمكنه على المدى المتوسط أو البعيد مجاراة تطورات الأسعار ونسب التضخم، ومن ثَم سيلحق الضرر بالفئات الأكثر فقرًا، وأيضًا بمحدودي الدخل من الطبقة المتوسطة غير المُستحقين للدعم قانونًا، ولكن المُستحقين له فعليًا للحفاظ على مستوي معيشتهم، الذي هو ليس مرفهًا من الأساس.
يجب إذن أن يُتاح للجميع العيش في النور دون إرهاق لا داعي له لميزانية الفرد أو الأسرة. وليس من المنطقي أبدًا أن يدخل المرء بيته ويقضي ليلته في الظلام الدامس لنفاذ رصيده، وهو ما سيصل بنا إليه الحال إليه آجلاً أم عاجلاً مع تطبيق منظومة العدادات الذكية مدفوعة قيمة الاستهلاك مُقدمًا.
كما لا يجوز بحال من الأحوال توقف المواصلات العامة غير الحكومية، وهو ما لن يضر فقط بأصحاب وسائل المواصلات هذه من سيارات أجرة ونقل جماعي؛ لكنه سيؤدي أيضًا إلي إلحاق خسائر جسيمة بالاقتصاد القومي ككل، بسبب انخفاض الانتاجية المُتوقع على خلفية عدم تمكن العمال والموظفين من الوصول إلي محال عملهم في أوقات معقولة. هذا إن تمكنوا من الوصول إليها أصلًا.
فنحن لنا أن نتخيل كابوس شكل الشوارع في المدن الكبرى لو توقفت الميكروباصات والتاكسيات، وكذلك منظرها عندما تغرق أحياء كاملة في الظلام من بعد غروب الشمس.