في السابع من فبراير/ شباط 2016، توجه المحامي فوزي عبد الجواد، إلى المحكمة العسكرية، لحضور جلسة القضية رقم 174 غرب القاهرة العسكرية، التي يدافع فيها عن المتهم رقم 10، ابنه المهندس محمد، بينما كانت عفاف محمود، والدة المتهم رقم 8 في القضية نفسها، عبد البصير عبد الرؤوف، تجلس في بيت شقيقتها، انتظارًا لخبر مطمئن.
وانتهت جلسة القضية التي عُرفت إعلاميًا بمسمى "خلية العمليات المتقدمة" إلى صدمتهما بقرار إحالة أوراق 8 متهمين- بينهما ابنيهما- لمفتي الجمهورية، والسجن لـ22 متهمًا آخرين، بينهم عسكري واحد فقط، لتؤيد المحكمة القرار في 29 مايو/ أيار الماضي، بعد أن صدّق المفتي عليه، وأعلمت السلطات القضائية العسكرية المتهمين به في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد أن صدّقت عليه، ليتبقى أمامهم مهلة تقدر بـ60 يومًا فقط منذ ذلك الوقت للنقض.
وأدانت المحكمة المتهمين بارتكاب جرائم، أبرزها "الانضمام لجماعة على خلاف أحكام القانون، والاتفاق الجنائي على ارتكاب عمليات تخريب للممتلكات العامة، والحصول بطرق غير مشروعة على سر من أسرار الدفاع عن البلاد".
وبينما كانت القضية 174 غرب العسكرية متداولة، كانت الدكتورة ريم سعد، أستاذ مساعد الأنثربولوجيا الاجتماعية بالجامعة الأمريكية، تعمل ومجموعة "ضد الإعدام" الحقوقية، على مبادرة لوقف العمل بهذه العقوبة في مصر لخمس أعوام على الأقل.
قبض "عشوائي"
قبل ما يناهز عام ونصف من الآن، كان كل شئ يجري طبيعيًا، المهندس حديث التخرج محمد فوزي يعيش في كنف والديه، وعبد البصير يبدأ مشواره في الأكاديمية البحرية.
"كان فاضل له آخر امتحان في أولى هندسة".. تحكي والدة عبد البصير لـ"المنصّة" عن يوم 26 مايو/ آيار 2015، وقت إلقاء القبض على "بكريها"، في حين اعتقدت أنه كما اتفق معها يبيت عند صديقه، استعدادًا للامتحان.
ثارت مخاوف الأسرة في اليوم التالي، لعدم رد الابن على اتصالات والديه "توقعت إنه بيتفسح مع أصحابه بعد الامتحان. فضلت اتصل بيه، وآخر النهار رد وقال لي يا ماما أنا عند واحد صاحبي في مدينة السلام. ماتقلقوش هقعد عنده يومين تلاتة. اتصلنا بيه تاني، مابيردش"، تسرد أم عبد البصير الوقائع المُقلقة التي دفعتهم لتقديم بلاغات، ليأتي الخبر اليقين بعد 12 يومًا، باتصال تليفوني يخبرهم أنه في طره ويحتاج ملابس بيضاء.
بعد ثلاثة أيام من غياب عبد البصير، كان "الحاج فوزي" وزوجته في زيارة اعتيادية لأهليهما في بني سويف، وتركا البيت في حماية ابنهما الأصغر محمد، ليفاجئَا بعد ساعتين من منتصف ليل 29 مايو/ آيار 2015، بمكالمة هاتفية من الجيران، تخبرهما بأن قوة أمنية اقتحمت شقتهما وقبضت على محمد، وفقًا لما حكاه الوالد لـ"المنصّة".
"رجعنا لقينا الشقة متبهدلة، وباب العمارة والشقة متكسرين، وفهمنا من الجيران إن العدد كان رهيب، ملثمين وهددوا الجيران بعدم الخروج من شققهم"، يتذكر والده ثم يُكمل كأنما يتحدث إلى نفسه، "وخدوا محمد. ليه؟ ماعرفش، يوم واتنين وتلاتة نسأل، مفيش حاجة".
يبلغ عدد المتهمين في قضية "خلية العمليات المتقدمة" 28 شخصًا، 8 منهم- بينهم هاربين اثنين- صدر بحقهم حكم الإعدام في 29 مايو/ آيار الماضي، و12 محكومين بالمؤبد- نصفهم هاربين- و6 آخرين محكومين بالسجن المشدد 15 عامًا، فيما تم تبرئة متهمين اثنين.
يؤيد حديث الأب والأم المحامي الحقوقي محمد الباقر، عضو هيئة الدفاع بالقضية، والتي يُرجع بدايتها إلى الفترة ما بين 27 مايو/ آيار و2 يونيو/ حزيران 2015، بوقائع "اختفاء قسري وقبض بين المُنَظم والعشوائي على شباب لا تربطهم علاقات، ومن مناطق مختلفة، منها حلوان والمعادي وأسيوط"، مشيرًا إلى أن 4 متهمين كانوا محبوسين قبل تلك الوقائع، أحدهم في قسم المعصرة و3 في سجن العازولي العسكري، وتم ضمهم للقضية.
ويضع قانون الإجراءات الجنائية في مادتيه 35 و36 ضوابط القبض على المتهمين، ويأتي على رأسها إصدار أمر ضبط وإحضار وإذنًا من النيابة، فيما تنص المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفًا".
قضية "النية"
لا تتعامل والدة عبد البصير مع القضية بمسمياتها الرسمية أو الإعلامية، وتطلق عليها وآخرين "قضية النية"، وتبرر اختيارها له بقولها "مفيش واقعة ولا جريمة، وده بأوراق النيابة"، وهو ما ولّد لديها قناعة بأن السلطات تحاسب ابنها وحكمت بإعدامه "فقط على نيته".
ويقول "الباقر"، من واقع إجراءات المحاكمة، إن القضية قامت على تحريات أجراها رائد في المخابرات الحربية- هو نفسه الشاهد الوحيد في القضية- بعد ضبطه مجندًا في أمانة وزارة الدفاع وبحوزته "فلاشة" واعترف بكل القضية، نافيًا أن تكون تحرياتها ضمت تسجيلات لاجتماعات أو مكالمات تليفونية بين المتهمين تثبت انخراطهم في تنظيم ما، أو أحراز عرضتها النيابة بخرائط منشآت أو قوائم شخصيات مستهدفة؛ ليصف حالة القضية بأنها "بخصم وحكم في مكان خارج إطار القضاء الطبيعي".
وتحدد المادة 204 من الدستور المصري أوجه عمل القضاء العسكرى، بينما تكفل مادته 96 حق المواطنين في محاكمة عادلة.
ويعرب المحامي الحقوقي عن رفضه لخضوع المدنيين أمام محاكم عسكرية، خاصة مع انتقالها إلى مرحلة "فجّة" وصل فيها الأمر إلى "إعدامات عسكرية للمدنيين".
ووسع الرئيس عبد الفتاح السيسي، بتصديقه في أكتوبر/ تشرين أول 2014، على قانون جديد صلاحيات القضاء العسكري، وهو ما اعتبرته جهات حقوقية من بينها منظمة هيومان رايتس ووتش أمرًا "يحمل خطر عسكرة الملاحقة القانونية للمتظاهرين وغيرهم من معارضي الحكومة".
وانطوت في النصف الأول من العام الجاري، أوراق قضية أخرى نظرتها المحكمة العسكرية، هي "عرب شركس"، بتنفيذ حكم الإعدام في 17 مايو/ أيار الماضي، بحق 6 متهمين بـ"الاعتداء على أفراد القوات المسلحة، وارتكاب أعمال إرهابية ضد منشآتها"، بعد رفض النقض المقدم ضد الحكم.
وللمفارقة، صدر بعد تنفيذ الإعدام بيومين، حكمًا من القضاء الإداري، بإعادة مرافعة دفاع المتهمين في الدعوى المُطالبة بوقف التصديق على حكم الإعدام.
"عذاب" التحقيقات
لم تتوقف "انتهاكات" حقوق المتهمين في هذه القضية على طريقة القبض عليهم أو إخفائهم قسريًا لأيام، وفقًا لما حكاه أهل اثنين منهم، فالأمر امتد حتى مرحلة التحقيقات.
"في أول زيارة، عبد البصير بقى يطمني، كان بيداري إيده مني، وافتش في جسمه يداريه ويقول لي أنا كويس، وبعدين اكتشفت إن صباعه مش قادر يحركه" تحكي الأم عما تعرض له ابنها، والذي أخبرها بتغيبه عن آخر امتحان بقوله لها "هما كانوا واخدني قبلها بالليل، وهو (ضابط) خلاني أقولكم إني كويس وماتقلقوش عليا وماتدوروش".
ولا تُسقط الأم أي تفصيلة "عرفنا منه إنه اتهدد بالقتل لو ماردش على الاتهامات باللي هما عايزينه، وإن هيتعمل فيه زي إسلام عطيتو. اتعلق 3 أيام، وبيقول لي كنت فاكر إني في النيابة هتكلم براحتي وأقول على التعذيب اللي حصل لي، لكن فوجئت إني داخل للنيابة متغمي ومتكلبش"؛ لتُعلّق هي بقولها "يعني هو مالهوش لازمة غير إنه متكلبش وقاعد على كرسي، وسئل فأجاب، سُئِل فأجاب".
انتظر أهل المهندس محمد 13 يومًا في قلق، قبل أن يخبرهم مجهول تليفونيًا أن أصغر أبنائهم في ليمان طره؛ ليكتشفوا وفقًا لرواية والده كيف كانت أيام غيابه كفيلة بتغير ملامحه "لقينا محمد شخص غير الشخص، لدرجة إن والدته تكاد إنها ماعرفتوش. وعلشان اسلم عليه مش قادر يرفع إيده، ابني حكالي عن تعذيبه بحاجات ماينفعش تتقال خالص".
وينفي المحامي الصحة عما يواجهه ابنه من اتهام بتصنيع دوائر كهربية للمتفجرات "لا فيه حيازة مادية ولا أدوات ولا حرز. وقولنا في المحكمة هاتوا الحرز بتاع محمد، ومفيش أي حاجة متحرزة إطلاقًا. بيحاكموه على إيه؟ ماعرفش".
نوع آخر من الانتهاكات يحكي عنه "الباقر" تمثل في ظهورهم في "أول فيديو من نوعه" تصدره وزارة الدفاع عبر قناتها على يوتيوب، بعد اختفائهم، وفيه يعترف كل واحد منهم بتهم تفصيلية، وهو ما رأى فيه قانونيًا "تشهير، وتهيئة للرأي العام للقضية".
ضمانات غائبة
حاول المحامون أن يثبتوا لهيئة المحكمة ما تعرض له موكيلهم من "انتهاكات"، لكنهم اكتشفوا أن الأمر لم يكن بهذه السهولة.
ويذكر المحامي محمد الباقر أنه طلب- على مدار جلسات- عرض 6 متهمين على الطب الشرعي، لإثبات ما بهم من إصابات تعرضوا لها خلال تغيبهم، حين خضعوا للتحقيقات "معصوبي الأعين وفي غياب محامي وبعيدًا عن أي حماية قانونية"، وأن المحكمة قابلت طلبه بالتأجيل لأكثر من مرّة، إلى أن اختفت آثار الإصابات، وأصبح عرضهم على الطب الشرعي "بلا جدوى".
ويشكو فوزي عبد الجواد، مشكلات واجهها في التعامل مع القضاء العسكري، تمثل بعضها في كثرة تغيير مكان عقد الجلسات، ومنع الأهالي من دخول قاعة المحكمة، ما دفعه للدخول بصفته محاميًا، وحتى هذه الصفة لم تنفعه كثيرًا "أي طلبات بتطلبها غير مجابه، تتكلم وأنت في وادي وهما في وادي آخر".
ضد الإعدام
"كنا قلقانين إن يتحكم بسجن سنين طويله، لكن حكم زي ده (الإعدام)؟ أنا متأكدة إنه مش هيتنفذ، لأني لو تخيلت تنفيذه هتحصل لي حاجة قبله. ليه القسوة دي؟ أنت مش بتقضي عليه هو، بتقضي على أصحاب وإخوات وأم وأب مرتبطين بيه"، تنطق والدة عبد البصير تلك العبارات، بصورة أقرب للفضفضة منها إلى الشكوى.
"حسيت قلبي بينتفخ".. تحكي الأم لـ"المنصّة"، عما انتابها بمجرد رؤية اسم ابنها في خبر على "فيسبوك" ضمن قرار إحالة للمفتي، وكيف أبى عليها قلبها ولسانها إكمال عبارة "إنّا لله وإنا إليه راجعون"، أملاً ورجاءً في قبول نقض للحكم.
أما الرجل المسن، فوزي عبد الجواد، فبعد صدمته في قاعة المحكمة بساعات، واجه مهمة إبلاغ زوجته بالخبر، يصمت ويطلق تنهيدة تعب وهو يتذكر تلك اللحظة "روحت البيت، والدته بتسألني إيه اللي حصل، قلت لها الحمد لله، قومي صلي ركعتين لله، سألتني حكموا عليه بالحبس؟ قلت لها لأ. حكم شديد؟ قلت لأ. إعدام؟ قلت لها أيوة، وقمنا صلينا ركعتين، راضيين بقضاء ربنا. وبدأ مسلسل العذاب".
ضد الإعدام تقف الدكتورة ريم سعد، مستندة إلى كونه عقوبة نهائية لا رجعة فيها ولو ثبت خطأ الحكم، وترى أنه من الضروري عدم العمل بها "في ظل ما تمر به البلاد حاليًا من ظروف مُضطربة، لا توفر ضمانات كافية للمحاكمة العادلة"، والسبب الأهم من وجهة نظرها "انتشار التعذيب لاستخراج الاعترافات".
يتبنى "الباقر" وجهة نظر مماثلة، تطالب بوقف أو تعليق عقوبة الإعدام لحين ضبط منظومة العدالة وإجراءتها في مصر، مع ضرورة الوقوف أمام أحكام الإعدامات العسكرية للمدنيين.
وفي هذه القضية على وجه التحديد، يشير المحامي الحقوقي إلى أن المتهمين أدينوا بالانضمام لخلية، يفترض أنها تُعدّ قوائم اغتيالات وتفجيرات بالتنسيق مع تنظيمات في سوريا، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنهم ذوي خبرة، عائدين من عمليات جهادية مثلاً أو انضموا لتنظيمات جهادية مصرية في التسعينات، مستدركًا "إلا أننا فوجئنا بأنهم طلاب جامعيين وحديثي التخرج ومهنيين، وأن المرة الأولى التي يلتقون فيها كانت بين فترة اختفائهم قسريًا ومحاكمتهم".
وتقترح مجموعة "ضد الإعدام" مبادرة خمس سنوات بلا إعدام، بصورة مبدئية وفقًا لـ"سعد"، وتوضح أنها موجهة ليس للسلطات فقط، بل وللمجتمع والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ولكل المواطنين".
وترى الناشطة الحقوقية في مهلة الأعوام الخمس، فترة كافية للتفكير في الإعدام، والذي لم يحاول المجتمع المصري مناقشته، أو تحليل مدى جدواه كعقوبة رادعة مانعة للجرائم، وما إذا كانت تتسم بالمنطق أو العدالة.
تتحرك المجموعة بصورة محمومة لتفعيل مباردتها، بينما يواصل الأب مشاويره للمحاكم العسكرية، مع فريق هيئة الدفاع، أملاً في قبول نقض الحكم، والذي ينتظره مع أم عبد البصير، عشرات بين أفراد أسر وأصدقاء ابنها وزملائه في "قضية النية".