بدأ الحجاج الأقباط السفر إلى القدس، رحلة السير في دروب الآلام على خطى السيد المسيح، التي تُنظَّم سنويًا خلال أسبوع الآلام وعيد القيامة، وسافر نحو أربعة آلاف مواطن وفقًا لضوابط محددة، منها ألا يقل السن عن 40 سنة، والحصول على موافقة الكنيسة التابع لها، إضافة إلى الموافقة الأمنية. كان من بين منظمي الرحلات، المركز الثقافي القبطي التابع للكنيسة الأرثوذكسية، والذي يشرف عليه الأنبا إرميا الأسقف العام بالكنيسة.
يعيد ذلك النقاش مجددًا حول ضرورة الحج المسيحي والموقف من التطبيع، خصوصًا في ظل الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على الفلسطينيين واقتحام المسجد الأقصى.
لا يمكن تقييم تداعيات التغيير في موقف الكنيسة والأقباط دون قراءة موضوعية للسياق التاريخي الذي صدرت خلاله قرارات المنع أو الإتاحة، والتغيرات التي شهدها المشهدان السياسي والثقافي خلال السنوات الماضية، جنبًا إلى جنب مع تطورات الداخل الكنسي، مما يلقي بظلاله على موقف الكنيسة من زيارة القدس، خصوصًا أن رؤية النخب المختلفة من قضية التطبيع لم تعد كما كانت، وطرفا قرارات المنع والحرمان توفاهما الله؛ الرئيس السادات والبابا شنودة الثالث.
الوجود القبطي في المدينة المقدسة قديم جدًا، يرجع إلى القرن الرابع الميلادي، إذ شارك البابا أثناسيوس الرسولي مع بطريركي أنطاكية والقسطنطينية في تدشين كنيسة القيامة التي بنتها الملكة هيلانة في المكان الذي عثر فيه على خشبة الصليب عام 325.
كما تحضر في المصادر التاريخية قصة القديسة مريم المصرية التي حضرت إلى القدس عام 382، واستقرت هناك. وبعد وفاتها تم تشييد كنيسة حملت اسمها مجاورة لكنيسة القيامة. وبنى الأقباط فيما بعد الكثير من الكنائس وبيوت الاستضافة. خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر، أسس البابا كيرلس الثالث، إيبارشية الكرسي الأورشليمي للأقباط الأرثوذكس. ورسّم عليها أحد الأساقفة الأقباط، واستمرت رحلات الحج إلى القدس، بصورة متفاوتة، إلى أن توقفت مع اندلاع الحروب مع إسرائيل.
جذور الأزمة
عقب توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل، أَمِلَ السادات في استغلال عودة رحلات الحج إلى القدس كورقة سياسية في طريق تعميق العلاقات بين البلدين، على المستويات الشعبية. في حين أدركت الكنيسة خطورة هذا التوجه، وأصدر المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية (أكبر سلطة دينية بالكنيسة) في 26 مارس/آذار 1980 قرارًا بمنع سفر الأقباط إلى القدس، مرجعًا ذلك إلى مشكلة دير السلطان، المتنازع على ملكيته مع الكنيسة الإثيوبية.
ونص القرار على "عدم التصريح لرعايا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالسفر إلى القدس هذا العام، فى موسم الزيارة أثناء البصخة المقدسة وعيد القيامة، وذلك لحين استعادة الكنيسة رسميا لدير السلطان بالقدس، ويسري هذا القرار ويتجدد تلقائيًا طالما أن الدير لم تتم استعادته، أو لم يصدر قرار من المجمع بخلاف ذلك".
في هذا السياق، تعد زيارة القدس سياحية أو رحلة روحية للتبرك
بمرور الوقت، أصبحت الكنيسة تطبق عقوبة على من يزور إسرائيل تتمثل في الحرمان من طقس التناول وهو من الأسرار السبعة للكنيسة، مع إجبار المخالفين على الاعتذار عن الزيارة في إحدى الصحف قبل السماح لهم مجدًدا بالعودة للتناول.
مع تولى البابا تواضروس الثاني، خفت حدة لغة الكنيسة في التعامل مع ملف زيارة القدس، فلم يعد هناك تطبيق جدي للعقوبة الدينية، ثم جاء التحول النوعي عام 2015 حيث زار البابا نفسه القدس خلال الصلاة على جثمان الأنبا آبرهام مطران القدس، ثم توالت زيارات قيادات دينية قبطية للمدينة. وهو الموقف الذي انتقد من بعض التيارات السياسية خصوصًا الناصريين، مشيرين إلى ضرر هذا التوجه الجديد.
موقف النخب المصرية من التطبيع
صدر قرار المجمع المقدس في ظل موجة معارضة شديدة على كافة المستويات لسياسات الرئيس السادات، وفي مقدمتها توقيع اتفاقية سلام بشكل منفرد مع إسرائيل. بالتالي، جاء موقف الكنيسة متسقًا مع الإجماع الشعبي، وخوفًا من أن يتهم الأقباط بالخروج عنه وإضعافه، لذلك حرص البابا شنودة في عديد المرات على التأكيد عدم السفر إلى القدس دون شيخ الأزهر.
هذا الإجماع لم يعد موجودًا، هناك قطاعات متزايدة لا ترى في إسرائيل العدو الأول، لأسباب مختلفة من أبرزها تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية معها، شيطنة الفلسطينين باعتبارهم مسؤولين عن الوضع الحالي لهم خصوصًا بعد ثورة 25 يناير واقتحام الحدود المصرية من جانب عناصر حماس، زيارة بعض القيادات الدينية الإسلامية الشهيرة القدس أو على أقل تقدير الدعوة لما يسمى "الزيارة الرشيدة" للأماكن المقدسة بالمدينة. فلم يعد رفض التطبيع على قوته، ولا حضوره سياسيًا وإعلاميًا، كما لم يتطور مفهوم التطبيع ليتناسب مع الأوضاع السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة.
يتجاهل البعض موقف الفلسطينيين أنفسهم، بينما وقعت القطيعة من جانب الدول العربية لمصر بسبب توقيع اتفاقية السلام منفردة مع اسرائيل في نهاية السبعينيات، وكان من أبرز دعاتها القادة الفلسطينيون التاريخيون. نجد الأنظمة العربية في وقتنا الحالي، تتسابق فيما بينها لإقامة علاقات متميزة مع إسرائيل. كما أن موقف السلطة الفلسطينية تغير بشكل جذري، وبات قادتها هم من يطلبون العرب بزيارة الأماكن المقدسة، وأن هذا لا يعد تطبيعًا للعلاقات.
وهو ما أشار إليه البابا تواضروس الثاني بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن ألح عليه بعودة زيارة الأقباط، وأن "عدم الزيارة هو عقاب للسجين وليس السجان" وفتح باب الزيارات يعود بالنفع على الأقباط المقيمين بالقدس. وأضاف أن قرار منع زيارة الأقباط للقدس؛ تسبب في إضعاف الوجود القبطي هناك، بعدما كانوا ألفي أسرة، أصبحوا ألفًا؛ لأنهم تركوا البلاد بعد تدهور وضعهم الاقتصاد، فلم يعد هناك مبرر لمنع الزيارات.
في معني الحج المسيحي
يجادل البعض بأن العقيدة المسيحية لا تعرف طقس الحج الذي يعتبر ركنًا من أركان الإسلام الخمسة لمن استطاع إليه سبيلًا، فالحج ليس من أسرار الكنيسة. في هذا السياق، تعد زيارة القدس سياحية أو رحلة روحية للتبرك، وليس لها مدلول ديني كبير.
ولا أعتقد أن أربعة آلاف أو عشرة أو حتى عشرين ألفًا، هو رقم يُحدث تطبيعًا
لكن في حقيقة الأمر، الزيارات الدينية للأديرة والكنائس التاريخية أصبحت جزءًا أساسيًا من سلوكيات وعادات الأقباط بطريقة تجعلها أقرب لممارسة الشعائر الدينية الاعتيادية. وأنشئت في سبيل ذلك شركات للسياحة والنقل وبيع المنتجات الدينية، وبالتالي تداخلت الأبعاد الدينية مع الجوانب الاقتصادية مما خلق طبقة أو مجموعات من المستفيدين، والذين يدعون ويحفزون للزيارات الدينية، وبطبيعة الحال تعد القدس واجه مثالية لهذا التوجه.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حكم المحكمة الدستورية العليا، في فبراير 2017، بشأن حق الموظفين المسيحيين في الحصول على إجازة لمدة شهر لمرة واحدة خلال حياتهم الوظيفية لزيارة القدس، أسوة بإجازة الحج التي تُمنَح للمسلمين. واستند الحكم إلى النص الدستوري بعدم التمييز بين المواطنين بسبب الجنس أو العرق أو الدين أو النوع.
مَنع الأقباط من زيارة القدس كان قرارًا سياسيًا، صدر عن الكنيسة في وقت وسياق خاصين، وكانت مبرراته مفهومة وقتها، لكن مطالبة الكنيسة– حاليًا– بالعودة إليه أو تطبيق عقوبة على يقوم بالزيارة يعد من قبيل العمل السياسي أيضًا.
وطالما انتقدت النخب السياسية والثقافية هذا التوجه للكنيسة بشكل عام، باعتباره يصادر حق الأقباط كمواطنين لديهم مطلق الحرية في الاختيارات التي يرونها مناسبة لهم. ولا أعتقد أن أربعة آلاف أو عشرة أو حتى عشرين ألفًا، هو رقم يُحدث تطبيعًا أو يثير المخاوف من تداعيات تلك الزيادات. يمكن توجيه اللوم لمسؤولي الكنيسة بخصوص تنظيم هيئات تابعة لها رحلات للقدس بالشراكة مع شركات سياحية، فهذا ليس دورها، وبالمثل لا يجوز أن تعطى موافقات دينية مسبقة للزيارة فهذا يفتح الباب للمصالح.
لا يناقش هذا المقال التطبيع وكأنه عمل إيجابي أو يدعو إليه. وعلى المستوى الشخصي، أرى أنه يجب ألا تُكافأ إسرائيل على عدوانها واغتصابها للحقوق، وأن التضامن الإنساني يجعلنا حريصين على تجنب هذه الزيارات. لكن ما يؤكد عليه المقال أن الحج إلى القدس قرار شخصي لا يجب أن يُعاقَب أحد عليه، أو يُتهم في وطنيته بسببه. وعلى رافضي التطبيع أن يجتهدوا لأن يقدموا رسالة مقنعة يعيدوا بها جاذبية رؤيتهم وحضورها شعبيًا.